رياض سعد
في عالمٍ تتداخل فيه الظلال مع الضوء، وتُبدّل فيه النفس أثوابها الشعورية بين ساعة وأخرى، تصبح بعض الرسائل والمحادثات أشبه بشرارات خاطفة؛ تتوهّج لحظة ثم تنطفئ دون أن تترك أثراً في قماشة الروح… ؛ فالعاطفة التي لا تُجابَه فور ولادتها قد تموت قبل أن تتعلّم النطق، والاتصال الهاتفي الذي يُجريه صاحبه بدافع ذكرى طارئة أو دفقة وجدانية آنية يفقد قيمته إن تُرك معلقاً في هواء الانتظار، لأن تلك الدفقة لم تُخلق لتعيش طويلاً، بل لتُلتقط قبل تبخرها.
من منظورٍ نفسيّ ، يعتمد الشعور الإنساني على ديناميات التغيّر المزاجي و التقلب الانفعالي و التأثر اللحظي بالمحيط وضغوطه وتحولاته … ؛ فالمزاج ليس ثابتاً، بل هو «كائن موجي» يرتفع وينخفض تبعاً لمثيرات دقيقة قد لا يدركها العقل الواعي… ؛ وما نظنه حباً أو شوقاً أو رغبة في لحظة معينة قد يتحوّل في اللحظة التالية إلى حيادٍ باهت، أو ابتعادٍ غير مبرّر، أو لا مبالاة مفاجئة… ؛ لذلك فإن تأجيل الاستجابة العاطفية يشبه تأجيل التقاط فراشة لا تتكرر، لأنها ستطير حين يبرد الهواء حولها.
في التحليل النفسي العميق، العاطفة الآنية ليست شعوراً ثابتاً كما يظن البعض، بل هي نافذة طاقة تُفتح للحظة قصيرة جداً، ثم تغلق بآليات دفاعية أو تغيرات هرمونية أو تبدّلات سياقية لا نملك السيطرة عليها… ؛ وعندما يغيب الرد أو يتأخر التواصل، يفسّر الدماغ ذلك بوصفه رفضاً أو جفاءً، فتنطفئ «الكيمياء الدقيقة» التي كانت تعمل للحظة، ويبدأ الجهاز النفسي بإعادة ضبط معاييره، فيتحوّل الحنين إلى صمت، والدفء إلى برود، والاندفاع إلى تراجع... ؛ ولهذا يصبح النداء العاطفي رهينة الزمن ؛ إن لم يُستجب له في لحظته المناسبة، ماتت دلالته وبقي شكله فقط … ؛ فكم من علاقة خُسرت لأنها انتظرت «وقتاً أفضل أو أطول »، وكم من صداقة ذبلت لأن أحد الطرفين ترك الرسالة معلّقة حتى تغيّرت حالته الشعورية … !
ذلك لأن المشاعر لا تسكن المكان ذاته مرتين، فهي كالأنهار الهابطة من جبال الأحلام، تتحول في كل منعطف وتتبدل ألوانها بحسب حجارة الواقع التي تصطدم بها… ؛ النفس البشرية ليست سوى مسرح مؤقت تمر عليه ظلال المشاعر، فلا يعود الظل نفسه أبدًا، حتى وإن تشابهت الأضواء.
إن اللحظة العاطفية تشبه بلورة ثلجية تذوب بين الأصابع حالَما نحاول الإمساك بها؛ لهذا فإن تأجيل التواصل العاطفي يشبه محاولة تعليق النهر في منتصف مجراه… ؛ فالغد قد يأتي بحالة نفسية مختلفة، بلغة جديدة، وبقلب قد استبدل مفاتيحه… ؛ لا تؤجل رسالة الحب، ولا تؤجل كلمة الامتنان، فقد تصبحان غريبين في فم اللحظة القادمة، أو ربما تتحولان إلى حروف منسية في قاموس لم يعد يُقرأ.
نعم , العاطفة ليست مشروعاً مؤجلاً، ولا موسماً دورياً يعود حين نشتهي… ؛ هي حدثٌ لحظيّ يطلب أن يُعاش الآن، أن يُلمَس الآن، أن يُجاب الآن... ؛ ومن هنا تصبح الحكمة النفسية بسيطة رغم عمقها :اغتنم الشعور حين يولد، وردّ على النداء حين يُسمع، ولا ترجئ دفء وشوق القلب إلى الغد… ؛ لأن الغد كائن آخر، بملامح أخرى، ومزاج آخر، وقلب آخر.