عصر كربلاء الصراري.. حين ارتوت الأرض بدماء الخمسة الأطهار

عصر كربلاء الصراري.. حين ارتوت الأرض بدماء الخمسة الأطهار

كتبت / عبير عبدالحكيم الجنيد

لم يكن ذلك الصباح يختلف عن غيره من صباحات قرية الصراري، كان نسيمه رقيقاً، وطبيعته تسرق القلوب بجمالها الآسر. اجتمع الأهل حول مائدة إفطار لم نكن نعلم أنها ستكون آخر لقاء، تملؤها ضحكات لم تدرك أنها ستتحول إلى أنين، ونظرات حب لن نراها مرة أخرى. لم تدرك أي أم وهي تملأ الصحاف أن القدر يخبئ لها جراحاً لا تندمل، وأن النداءات العذبة “يا أبي” ستتحول إلى صمت ثقيل، ولن تسمع بعدها طرقة باب تنتشي بشوق اللقاء.

لم نعلم أننا أمام فاجعة ستزلزل كل بيت في الصراري، وأن أبواب القرية ستفتح على مصراعيها لدخول الحزن، لوداع خمسة من خيرة الرجال، كواكب أطفأت غدراً، وهم:

· الشهيد البطل / فؤاد عبدالله سرور الجنيد
· الشهيد البطل / محمد عبدالله سرور الجنيد
· الشهيد البطل / نبيل إبراهيم محمد الجنيد
· الشهيد البطل / زيد يحيى عبدالحميد الجنيد
· الشهيد البطل / مبارك محمد علي الجنيد
عصر الكربلة:

مع ساعات العصر، تحولت القرية الهادئة إلى كربلاء أخرى. هبّت علينا رياح سوداء، جائرة، جيء بها من أقاصي الأرض، يحملون في قلوبهم حقداً أسود، وفي عيونهم بريق الدماء. هؤلاء “دواعش العصر” الذين جُمِعوا من كل حدب وصوب، جاؤوا ليستبيحوا أقدس ما نملك: دماء أبنائنا وكرامة أرضنا.

قرية الصراري، التي كانت دوماً رمزاً للكرم والأصالة، لم تغلق باباً في وجه غريب أو جار، اكتشفت أن بعض القلوب تحمل خنجراً تحت ثوب الجيرة. لقد كشف العدوان عن خيانة من شاركوا في سفك دماء من جمعتهم بهم الحياة والملح. فأي دماء هذه التي سفكتموها؟! دماء من دعوْتُمُوهُم للحوار

فأصبح المشهد يقشعر له الأبدان:

في منظر لا يُمحى من الذاكرة، وقف خيرة رجالنا كالجبال الأشم، يظنون فيمن يقابلون بقية من إنسانية. لكنهم كانوا وجوهاً تفرح بها نار الجحيم، يحملون في أيديهم سكاكيناً تعلمت فن الغدر في مدارس “هند أكلة الأكباد”، وتربى أصحابها على منهاج “شمر” و”يزيد”.

تقدّم أبناؤنا الخمسة للمفاوضة، مؤمنين بالكلمة، واثقين بالحل. لكن الغادرين لا يعرفون لغة الحوار، إنما لغتهم الوحيدة هي الخيانة. وفي لمحة عين، انقلب المشهد إلى مذبحة، ارتفعت بنادق الخونة من خلف الأقنعة، لتمطر أجساد الأبطال بوابل من الرصاص، فسالت دماؤهم الزكية لتروي أرض القرية بدم الشهادة، وتخجل الشمس من فظاعة ما رأت فتلتحف بالسحاب.

تحولت القرية إلى جحيم، اختبأ الأطفال خلف الجدران ليس من مطر السماء، بل من مطر الرصاص والحقد. كانت القلوب ترتجف خوفاً على الأحبة. وفي خضم هذا الرعب، خرجت أم الشهيد زيد كالطير الحزين، تتلمس الطريق بين الرصاص لتطمئن على جيرانها، غير دارية أنها تخطو نحو فاجعتها.

عادت لترى أثر الدم على عتبة دارها، فثقلت خطواتها كأنها تحمل الجبال. دخلت لتجد “فلذة كبدها”، ذلك الوجه البشوش الذي خرج بثوبه الأبيض، صريعاً مُغْتسَلاً بقرمزة الشهادة. لقد حل الحزن في قلبها سكناً دائماً.

ولم تكن وحدها. هرعت أم الشهيدين فؤاد ومحمد إلى ساحة الجريمة، لترى أعز ما تملك ممددين على التراب. قدمت الأول، فشعرت أن نور عينها قد انطفأ، ثم رأت الثاني، فأدركت أن الظلام قد أحاط بها. بيد مرتجفة من ألم الفراق، رفعت رأس ابنها وقالت بصوت مكلوم: “ارفَع رأسك يا بُني، فأنت لم تنكس رأسك طوال حياتك”، ومسحت عن وجوههم غبار الخيانة، لتكشف عن جروح غائصة في أجسادهم، كأنها غائصة في قلبها.

وجاء النبأ ليضرب بيت الشهيد نبيل، ذلك الرجل النبيل الذي اشتق اسمه من أخلاقه، فاصطفاه الله لنفسه طاهراً زكياً. ورحل الأب عن أبنائه وهم يظنون أنه سيعود، لتبقى نظرتهم الأخيرة إليه محفورة في الأذهان ويودع الاب أبنة محتسباً لله لعظيم ما قدم ، وَأَمَّا كأْسهَا نَارُ فرَاق مهَجّة قَلبِهَا”

أما منزل الشهيد مبارك، فكانت الفرحة تعمه تحضيراً لعرس، فإذا به يتحول بين لحظة وأخرى إلى ميتم، ليُرفع الحداد مكان الزينة، ويُستبدل الأبيض بالأسود.
لقد رحلوا جسداً، لكن دماءهم على تراب الصراري أصبحت شاهداً أبدياً على بطولتهم، ونداءً خالداً في وجه الغدر. لقد قدموا أغلى ما يملكون فداءً للكرامة والأرض. هم شهداؤنا، نقف إجلالاً لذكراهم، ونعدهم بأن دماءهم لن تذهب سدى، بل ستظل مشعلاً ينير درب الحرية، ويذكّر الأجيال أن الخيانة قد تقتل الأبطال، لكنها لا تقتل القيم التي عاشوا وماتوا من أجلها.

سلام عليكم يوم وُلدتم، ويوم استشهدتم، ويوم تبعثون أحياء.