أقمار ارتقت

بسم الله الرحمن الرحيم

أقمار ارتقت: قصة الفتية الذين آمنوا بربهم فزادهم هدى
كتبت / عبير عبدالحكيم الجنيد

هم فتية آمنوا بربهم فزدناهم هدى… خمسة أقمار أضاءوا سماء العزيمة، ثم ارتقوا شهداء عند عزيز مقتدر، ليخلدوا في سفر الخالدين أسماءً تروي قصة صدق لم تُكتب بحبر، بل بدماء زكية طاهرة.
الشهداء الأبرار:
· الشهيد / عامر عبدالوهاب الجنيد
· الشهيد / عبدالرحمن محمد الجنيد
· الشهيد / أحمد عبدالحكيم الجنيد
· الشهيد / صلاح يحيى الجنيد
· الشهيد / علاء عبدالوهاب الجنيد
خمسة شهداء، أخلصوا وثبتوا وصدقوا ما عاهدوا الله عليه، فكانوا كما وصفهم ربهم.
مع بزوغ فجر تلك الليلة، اخترقت أصوات طائرات العدو صمت السماء، لم يخطر في بال أحد أننا على موعد مع فراق خمسة من الأحياء الأبرار، وأن نعاة الحزن ستنطلق في كل بيت. لم نكن نتخيل أننا سنودع فلذات أكبادنا مع صوت أول غارة جوية استهدفت اثنين منهم: أحمد وعلاء. لم يجمع بينهما قرابة في السن فحسب، بل جمعتهما خصال التشابه: الصدق النقي، والبراءة الطاهرة، والشجاعة النادرة، والوفاء العميق.

في اللحظة التي ظن الجميع أنهم قضوا نحبهم، وأننا فقدناهم إلى الأبد، عاد الأمل يطل برأسه من تحت ركام اليأس. علمنا بأنهم أصيبوا بإصابات طفيفة، فكان أملنا كالغيث بعد القحط، ونوراً يتسلل من بين شقوق الظلام. كان خبراً سعيداً لم نتوقعه بعد أن رأينا بأعيننا هول الغارة ونيرانها.

فكنا بين الأمل والرحيل:

انطلق الشهداء: عامر، وصلاح، وعبدالرحمن، مسرعين لإسعاف الجربحين ، يقدمون الإسعافات الأولية وهم يعلمون أن الطرق مغلقة، وأن القرية محاصرة. لكن الفرحة لم تكتمل، حتى عادت طائرات العدوان لتزأر من جديد، فانتهى كل أمل. علمنا أن الحزن بعد الأمل أعمق، لكن هذه المرة كان الفقد أعظم. لقد استهدف الطيران مكان إسعاف الجرحى، ليقضوا جميعاً تحت الركام، ويهوي الجرف بأكمله فوقهم.

اجتمع الجميع حول الجرف المنهار، يتلمسون بصيص أمل، لعلهم ينجون هذه المرة كما حدث من قبل. لكن مرتزقة العدوان حالوا دون ذلك، فتمركزوا على التلال المطلة، يطلقون النار كزخات المطر على كل من يقترب لإنقاذ من في الداخل. لم تكن تلك الرصاصات تؤذي من تحت الركام، بل كانت تنغرس في قلوب أمهات وآباء وأهالي الشهداء، لتحيل بينهم وبين أحبتهم وهم ينازعون.

شقت الشمس طريقها، والرصاص لا يزال ينهمر، والعيون ساهرة، والقلوب واجفة. وقف أهالي الشهداء ينتظرون بصبر أيوب، وبلوعة يعقوب. الكل ينتظر حتى يسدل الليل ستاره، ليبحثوا عن فلذات أكبادهم في ظلامه الدامس.

وفي منتصف الليل، وصلنا إليهم، لكن الأرواح الطاهرة كانت قد ارتقت إلى بارئها، لم يبق سوى الأجساد المضرجة بالدماء، تفوح منها رائحة المسك، عبق الشهادة. لكل من كان هناك سيدرك هذه الجملة. أرواحهم صعدت إلى عزيز مقتدر، وأدركت كل أسرة أن الخبر اليقين قد نزل: الكل شهداء.
سير العظماء:

· عامر: صاحب المسيرة الطويلة مع الابتلاء، منذ أن أسر في مأرب وعانى مرارة السجن وقسوته، فتحمل الألم والعذاب وهو يعلم أن قضيته لن تكسر. بصبره كسر قضبان السجن، وخرج منتصراً على سجّانه، لا ليرتاح، بل ليلتحق بجبهات القتال من جديد، حتى نال ما سعى إليه: الشهادة ورضوان الله.
· عبدالرحمن: صاحب القلب الطيب المتسامح، والأخلاق العالية التي شهد بها القاصي والداني. كان ينتظر مولوده ليسميه “زيداً” تيمناً برفيقه الشهيد، ولم يعلم أنه سيلتحق به ليكون من الأحقين بالاسم والمعنى.
· أحمد: ذلك الفتى الذي كان نجماً ساطعاً في سماء العطاء. لم تمنعه صغر سنه أن يرى واجبه بوضوح. حين ناداه ، واستغاثت الكرامة، لم يتردد، ورفع رأسه بإباء قائلاً كلمته الخالدة: “لم نأتي الجبهات لنكون من الهاربين”. في روحه شجاعة تنسف الصخور، لأنه علم أن ساحة الشرف لا تنظر إلى عدد السنين، بل إلى صدق العزائم.
· صلاح: الذي صدق ووفى، فصمد ونال. سقى بدمائه تراب الوطن، رغم أنه لم يكن بجواره سند من أهل أو أقارب. باع نفسه لله وهو يدرك قيمتها، لكنه أدرك أن ثمنها أغلى: وهيا الجنة.
· علاء: الفتى الشجاع، طيب القلب، صاحب الروح المقاومة. انطلق نحو ربه راضياً، وسخر نفسه رغم صغر سنه درعاً وقوة في سبيل الله. لم يتردد حين سمع نداء الكرامة، فترك دفء البيت واتجه إلى الجبهات، يحمل في قلبه إيماناً يزلزل الجبال.
ارتقوا جميعاً… ليكملوا قصتهم التي بدأت بـ “هم فتية آمنوا بربهم”، وينالوا تمامها “فزدناهم هدى”. لقد ودعنا الأجساد، لكن سيرتهم ستبقى شمعة تنير الدرب للأجيال، وذكرى تثبت أن أمّة تقدم الأرواح الطاهرة، لا يمكن إلا أن تنتصر بإذن الله. هم رحلوا عن أعيننا، لكنهم عاشوا بشهادتهم أبداً في جنات النعيم، وسيعيشون بأثرهم خالداً في قلوبنا. رحمهم الله وأسكنهم فسيح جناته، وجمعنا بهم في مستقر رحمته.