حُرّاس التنوير يصنعون نهضة وطن

رياض الفرطوسي

العراق ليس جغرافيا، بل نَفَسٌ قديم يشبه البخور حين يخرج من سُلال التراث. بلادٌ إذا نطقتْ تكوّن حولها التاريخ، وإذا صمتتْ اشتغل المنفى في رئتيها. كل أرض تُنجب بشراً، إلا العراق… فهو يُنجب حُرّاس التنوير، هؤلاء الذين يحملون الضوء في جيوبهم، يمشون به بين الناس، ويُصِرّون على أن المعرفة ليست ترفاً، بل قدرٌ لا يجوز الهرب منه.

حين وقف الجواهري عند دجلة لم يكن ينظر إلى نهرٍ يمرّ، بل إلى أُمٍّ تغسل أبناءها بالشعر. السيّاب المبتلّ حتى عظام الروح كان يعرف أن المطر أعدل من الحكومات، وأن القصيدة قادرة على إحياء مدينة. ومظفّر النوّاب، ذاك الذي فتح فمه فخرج الغضب، صنع من المنفى وطناً أكثر صراحة من الخرائط. وفي الفكر، كان علي الوردي يقلب المجتمع كما تُقلب المرآة أمام الضوء، وكان هادي العلوي يكتب كأنه يفاوض الزمن على حقيقةٍ واحدة، بينما كان عبد الجبار عبد الله يلمع كمعادلة تتنفس، يبرهن للعالم أن العلم ليس غريباً على هذه الأرض مهما قست عليها أعوامها.

وفي مجال العمارة والهندسة، كان صوت نزيهة الدليمي يتجلّى في مشاريع العمران، امرأةٌ جعلت الهندسة جسراً بين الحلم والمكان، وعبّرت عن رؤية وطنٍ قادرٍ على إعادة تشكيل نفسه، حتى في أعماق الحقبة الصعبة التي عايشتها في عهد عبد الكريم قاسم. أما زها حديد، فقد جعلت الخطوط والأشكال ترقص في الهواء كما لو أن بغداد نفسها تسافر إلى المستقبل على أجنحةٍ من حديد.

ولأن العراق يُحبّ أن يتكلم بالغناء كما يتكلم بالشعر، فقد جاءت الأصوات كأنها صلاة من طبقاتٍ متعددة. داخل حسن، ذلك الشيخ الذي خرج صوته من جرحٍ لم يندمل، كان يغنّي بصدور الناس، لا بحنجرته. ما من أحد يسمعه إلا ويشعر بأن روحه تتساقط مثل أوراق نخلة مطعونة. نبرته تجوب الأرواح وتترك عليها أثراً يشبه الوشم. ثم مسعود العمارتلي، بصوته الذي يتلعثم بجمال الجنوب، كأن اللثغة سرّ من أسرار الهور، وكأن الماء نفسه يرافقه وهو يغنّي. صوته ليس موسيقى، بل طفولة كاملة تخرج من فم شخصية تحمل كل الحنين. ثم يأتي رياض أحمد، كمن يدخل الغناء وهو يحمل وعياً مسلّحاً بالشجن. صوته ممتلئ حتى آخر قطرة، مُفخّخ بالوجدان، يلمع في حافة النفس وكأنه جناح طائرٍ يعرف أنه لن يطير طويلًا… فيغنّي بشراسة العشّاق ووقار الأنبياء.

ولأن العراق لا يمشي على صوتٍ واحد، فقد كان المسرح فيه طريقاً آخر للوعي. يقف حقي الشبلي على الخشبة مثل من يستدعي مدينة كاملة لتنهض. لم يقدّم المسرح فقط؛ بل قدّم معنى أن يقف الإنسان أمام نفسه وهي تُعرض عليه من جديد. كان أباً لهذا الفن، يعرّف الناس بالخيال كما لو أنه ضرورة يومية، ويصنع من الخشبة مرآةً لا تُهادن.

وفي الفنون التشكيلية، رفع جواد سليم طينه إلى مستوى نحتٍ ينهض به وطن بأكمله، وصاحبه فائق حسن وهو يرسم الخيول كأنها تركض فوق صدر بغداد. وشاكر حسن آل سعيد الذي جعل اللون يفكر، والخطّ يحاور، والفراغ جملة فلسفية لها وزنها.

وفي الشعر الحديث، كانت نازك الملائكة ثورةً تحمل الحروف إلى الحرية، تصنع من الكلمات مدناً من الضوء، وتجعل القصيدة آلةً تزرع المستقبل في صحراء الواقع.

وفي الرواية، تحلّى فؤاد التكرلي بقدرةٍ على نسج المدينة والذاكرة، مستعيداً روح بغداد والمجتمع، بينما استطاع علي بدر أن يذوّب التاريخ في الحكاية، ويكتب محمد خضير البصرة كما لو أنها حلم ينام على حافة البحر. هؤلاء جميعاً — شعراء، موسيقيون، مفكرون، روائيون، فنانون، ممثلون، كتاب — لم يكونوا أفراداً متناثرين، بل شبكة واحدة من الضوء تُحيط بالبلاد. إنهم حُرّاس التنوير، الذين عرفوا أن الظلام لا ينتصر إلا حين يسكتون. ولهذا لم يسكتوا، حتى حين فقدوا الوطن أو فقدهم.

ولكي يبقى العراق واقفاً، عليه أن يحفظ هؤلاء كما تُحفظ الأيقونات: أن يجعل الثقافة مشروعاً يُبنَى، لا زينة تُعلَّق. أن تتحول المدرسة إلى معمل أحلام، والمسرح إلى ساحة أسئلة، والجامعة إلى بيتٍ يُحترم فيه العقل. أن يحصل المبدع على مكانته قبل أن يحصل على خبزه، وأن يشعر الشاب بأن وطنه لا يطرده إلى المنافي كي يُثبت موهبته.

أسوأ ما يحدث للأمم أن تفقد ذاكرتها… أن تترك حُرّاس التنوير يمشون وحدهم في طرقٍ مُعتمة. العراق لا ينهض بالخطابات، بل ينهض بأولئك الذين يجعلون اسمه يلمع في الهواء.

وحين نحميهم — لا بالتصفيق، بل بالفعل — ينهض الوطن كما تنهض شجرة برية بعد شتاءٍ طويل. العراق لا يخسر حين يخسر معركة… بل حين يخسر صوته، وقلمه، وعقله، ومسرحه، ولوحته. وحين يحفظ أبناءه من الضياع… يصبح وطناً لا يصدأ.