هجوم ظالم على البوصيري

كمال فتاح حيدر

هكذا هم مشايخ التكفير. . يبدأ يومه بالاغتسال في حمام ياباني (جاكوزي). يستحم بصابون دنماركي. يتعطر بعطر فرنسي. يرتدي جلبابه الكشميري. يلبس ساعته السويسرية. يتناول قطعة من الجبنة الهولندية مع زيتون يوناني. تحضر له خادمته الفيتنامية فنجان قهوة كولومبية. يتصفح هاتفه الصيني، ثم يطلب من سائقه الهندوسي أن يحضر سيارته الإيطالية. وما ان يجتمع برهطه حتى يضج بالسب والشتم والانتقاص من الشعوب والأمم. ثم يلقى محاضرة متشنجة يكفّر فيها الشاعر والأديب الكبير البوصيري. .

كل الشعراء الفحول الذين مدحوا الرسول الأعظم، وابدعوا في قصائدهم اصبحوا من الكفرة في تصنيف مشايخ الفرقة الحشوية. وكل شعراء (البردة) شملهم التصنيف الوهابي إبتداءً من كعب بن زهير، وإنتهاءً بتميم البرغوثي، مرورا بالبوصيري وأحمد شوقي. يراهم الحشويون الجدد كفرة. وكل القصة وما فيها انهم نسجوا اجمل القصائد وأروعها في تعظيم سيد الأنبياء والمرسلين. .

لكن مشايخ الزمرة الجامية والمدخلية صبوا جام غضبهم على البوصيري في معظم حملاتهم الهجومية. .

فالبوصيري: هو الإمام شرف الدين محمد بن سعيد بن حماد الصنهاجي البوصيري (1361 – 1436). قال عنه الحافظ ابن حجر في تبصير المنتبه (2/692): (كتب عني واستملى عليَّ، وله تخاريج وفوائد، بارك الله فيه). .

ونقل السخاوي في الضوء اللامع (1/ 251): أنه الشيخ الصالح المحدث الفاضل. .

عدهُ السيوطي في حسن المحاضرة (1/310) فيمن كان بمصر من حفاظ الحديث. وذكره في تذكرة الحفاظ وفي الطبقات. .

لم يعترض عليه احد على مدى اكثر من 589 سنة، حتى جاء اليوم الذي ظهر فيه صالح فوزان، وعثمان خميس، وشالوم طويل، ومن كان على شاكلتهم من أنصار الفرق التكفيرية الظالمة، فأطلقوا عليه راجماتهم بدعوى انه كان من المغالين في حبه لخاتم الأنبياء في رائعته (البردة)، بقوله:

  يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به

سواك عند حدوث الحادث العمم

فإن من جودك الدنيا وضرتها

ومن علومك علم اللوح والقلم

أبيات يراها التكفيريون مُنكرة، ويرون فيها شرك، ومنهم من يراها الشرك الأكبر. .

اللافت للنظر أن أول من نقدها وعابَها هو رأس الفتنة التكفيرية (محمد بن عبد الوهاب)، ثم تلاميذه من المشفرين عقليا. .

قصيدة تواترت على قراءتها الاجيال منذ قرون، وتعمق في ترديدها السابقون، ومنهم الشيخ زكريا الأنصاري، والشيخ سليم البشري، والشيخ الباقوري، وشطرها وربعها وخمسها وسبعها وتسعها كبار الأدباء والفقهاء الأوائل، فلو كانت فيها شبهات الشرك لاكتشفوه قبل ان يكتشفه قزم لا شغل له سوى ذم الناس وإخراجهم من الملة. .

لن تسمع لهؤلاء دعوى واحدة أو فتوى واحدة أو كلمة يدينون فيها ترامب، أو يلعنون فيها النتن، أو ينتقدون فيها حملات الابادة الجماعية ضد اخوانهم في غزة، لكنهم اشتركوا في الهجوم على الفطاحل الذين كتبوا اجمل القصائد في مديح الرسوم الأعظم وآل بيته الأطهار. .

للبوصيري عشرات القصائد نسجها على هذا المنوال، في مقدمتها قصيدته الشهيرة (البردة) أو (الكواكب الدرية في مدح خير البرية)، والقصيدة الهمزية (أم القرى)، والقصيدة (المضرية) في مدح خير البرية، وقصيدته (ذخر المعاد)، و لاميته في الدفاع عن المسجد الأقصى. .

لم يقرأ صالح فوزان هذه القصائد، ولا يعلم بها عثمان الخميسي، وإلا لكانت لهم هجمات ضارية وحملات قاسية ضد شاعر فقيه ومحدث كبير رحل عن الدنيا منذ قرون تاركا لنا قصيدة من 167 بيتاً في مدح سيد الأنبياء والمرسلين. .