استراتيجية ترامب للامن القومي

استراتيجية ترامب للأمن القومي
كتب رياض الفرطوسي
لم تكن وثيقة الأمن القومي الأمريكية الجديدة مجرد تحديث تقني لسياسة عظمى تتنفس منذ عقود بإيقاع ثابت، بل بدت وكأنها انقلاب ناعم… أو خشن، لا فرق، على كل ما اعتادته واشنطن من مناهج وتحالفات ومفاهيم. وثيقة تُشبه صاحبها، وتتمرد مثله، وتبالغ في الصراحة حدّ أن تبدو أحياناً كأنها تعترف أكثر مما تُعلن.

منذ الصفحة الأولى، يتضح أن المنافسة بين القوى الكبرى—العمود الفقري لكل وثائق الأمن القومي السابقة—خرجت من مركز الصورة. كأن واشنطن تتجاهل عمداً ما بنته طوال عقدين، وتقرر أن العالم ليس ساحة صراع بين أقطاب، بل غابة مفتوحة يريد ترامب أن يمشي فيها بلا خريطة ولا نوايا مُعلنة. هذه ليست فقط إعادة تعريف للتهديد، بل إعادة تعريف لدور أمريكا نفسها.

وفي هذا العالم الجديد، تُقدَّم روسيا بصورة غريبة: ليست خصماً شرساً، بل كياناً ضعيفاً لا يستحق أن يكون محور الاستراتيجية. هنا يطلّ ظلّ “عقيدة مونرو” المعدّلة؛ وهي السياسة التي أعلنها الرئيس جيمس مونرو عام 1823 لمنع القوى الأوروبية من التدخل في شؤون الأمريكتين، وتؤكد حق الولايات المتحدة في التأثير الحصري في القارة الأمريكية. نسخة ترامب الخاصة من العقيدة ترى العالم من عدسة القارة الأمريكية أولًا، ومن عدسة المصالح المباشرة قبل أي حسابات جيوسياسية عميقة. إنها عودة إلى الداخل، ولكنها عودة بنبرة لا تُشبه الانعزالية الكلاسيكية، بل أقرب إلى إعلان أن أمريكا لا تريد أن تُطارد الأشباح، بل تريد أن تفرض إيقاعها في من تعتبرهم ساحتها الطبيعية.

الانقسام عبر الأطلسي كان حضوراً صارخاً. فبينما حاولت الإدارات السابقة ترميم الجسور مع أوروبا، تكاد الوثيقة الجديدة تهدم تلك الجسور بابتسامة باردة. الرسالة واضحة: أوروبا ليست أولوية، وليست شريكاً كامل الثقة، وعليها أن تستعد لأيام صعبة. أمريكا تريد من الحلفاء أن يكونوا أكثر انضباطاً، وأكثر قدرة على حمل أعبائهم، وأقل اعتمادًا على المظلة الأمريكية. وكأن الوثيقة تهمس للأوروبيين: “لن نحملكم بعد الآن… استعدوا للسير وحدكم”.

وفي قلب الوثيقة، نجد الانضباط الاقتصادي يُرفع إلى مرتبة “أساس القوة الوطنية”. ليست القوة العسكرية، ولا التحالفات، ولا التفوق التكنولوجي؛ بل الاقتصاد… قدرة أمريكا على التحكم في عجزها، في صناعاتها، في عملتها، في سلاسل التوريد التي تريد إعادتها إلى الداخل. إن “أمريكا أولًا” هنا ليست شعاراً سياسياً، بل وصفة اقتصادية تتعامل مع العالم كصفقة لا بد أن تربحها واشنطن على حساب الآخرين.

ورغم كل هذا الخطاب الحاد، تمنح الوثيقة مساحة هادئة للصين: منافس نعم، خصم لا. علاقة ملتبسة، كأن واشنطن تريد “إدارة الصراع” لا خوضه. وفي آسيا، تستمر السياسة الأمريكية كأن شيئًا لم يتغير: أحلاف، قواعد، ردع… لكن ما تغيّر هو أمريكا نفسها. الحلفاء يرون السلوك مألوفًا، لكن اليد التي تمسك بالدفة غير مألوفة، متحولة، غير قابلة للتنبؤ.

ومع هذا الانحراف عن التقليد، يظهر إهمال النظام الدولي كواحد من الأخطار التي تهدد “أمريكا أولًا” نفسها. فترمب يريد من العالم أن يعمل وفق منطق القوة والمصلحة، لكنه يتجاهل أن فراغ القواعد سيمنح لاعبين آخرين قدرة أكبر على الحركة—الصين، روسيا، وحتى أوروبا التي قد تضطر إلى بناء أذرع مستقلة. وكأن الوثيقة تقول دون أن تنتبه: “نريد عالماً بلا قواعد… لكن بشرط أن تظل قواعدنا نافذة”.

وفي ثنايا النص، تلمع فكرة تبدو لأول وهلة بسيطة لكنها خطيرة:
هل يمكن للأمريكيين أن يحصلوا على المزيد من خلال فعل أقل؟
إنها فلسفة صريحة في الوثيقة—تقليص التزامات، تقليل كلفة الأدوار العالمية، السعي وراء نتائج أكبر بجهد أدنى. لكن تجربة التاريخ تقول إن هذا النوع من الأحلام غالباً ما يتحول إلى أوهام.

أما إفريقيا، فهي تحضر في الوثيقة كأرض جديدة للمنافسة مع الصين، لكن بحفاوة غير معتادة. كأن واشنطن تريد أن تسرق من بكين مناطق نفوذها من دون أن تدفع الفاتورة الكبيرة التي دفعتها الأخيرة. إنه اصطياد سياسي بمهارة الصياد الذي يريد أن يغنم من دون أن يبتل بالماء.

وفي محور الشبكات والاتصالات، تحذر الوثيقة من هشاشة البنية الرقمية الأمريكية، وتُعلن أن المرونة الوطنية تبدأ من حماية المعلومات، من حرب السيبرانيات، من كابلات الألياف الضوئية التي صارت أخطر من حاملات الطائرات. إنه اعتراف أن القوة الحديثة تُبنى في غرف الخوادم لا في ساحات القتال.

لكن خلف كل هذه العناوين، يمكن للقارئ أن يلمس التنافر الذي يشقّ الوثيقة من أطرافها. لغة مشدودة، غير متماسكة، تجمع بين الوعد بالاستقلالية والرغبة في السيطرة، بين الانسحاب من الالتزامات والدخول في تدخلات جديدة، بين رفض فكرة “الهيمنة الأمريكية” والتمسك بامتيازاتها كاملة.إنها حالة من التناقض الصارخ يصعب التغاضي عنها ولا يمكن تجاهلها، لكنها تعكس بدقة العقلية التي تدير واشنطن الآن: عقلية تريد كل شيء ولا تريد أن تدفع ثمن أي شيء.

وفي النهاية، تخرج الوثيقة بخلاصة تقولها دون أن تنطق:
أسطورة ضبط النفس ماتت.
أمريكا لا تريد أن تضبط نفسها، ولا تريد للعالم أن يضبطها.
تريد حرية الحركة، وحرية القرار، وحرية إعادة تعريف كل ما ظن العالم أنه ثابت.

وبين سطور هذه الرغبة العارمة، يطلّ سؤال ضخم:
هل يستطيع رئيس واحد أن يغيّر مسار دولة بوزن الولايات المتحدة؟
أم أن الوثيقة الحادة ستُعاد صياغتها على أيدي البيروقراطية كما أعادت واشنطن صياغة كل الانقلابات قبلها؟

هذه ليست مجرد استراتيجية للأمن القومي…
إنها صفحة أولى من كتاب يكتب مستقبلًا غامضاً، لعالم يتشكل بقوة رجل، وبمزاج لا يمكن التنبؤ به، وبأصابع تضغط على مستقبل أميركا والعالم معاً.