نوفمبر 21, 2024
345472480_1251856872384751_4771563256084157209_n

اسم الكاتب : ثامر عباس


غالبا”ما يحلو للعراقيين التباهي بماضيهم التاريخي وإرثهم الحضاري ، كما لو أنهم جبلوا من طينة خاصة غير طينة الجماعات البشرية الأخرى ، التي تركت – هي الأخرى – بصماتها على مسارات التطور التاريخي وخلّفت من الانجازات الحضارية ما لا يقل إبداعا”وتميّزا”عن نظيره العراقي . والحقيقة إن افتتان العراقيين واحتفائهم بالماضي لا يصدر عن وعي بطبيعة ذلك الماضي وما ينطوي عليه من ذاكرة جمعية مثخنة بالأحداث ومكتنزة بالوقائع ، وإنما لا يعدو أن يكون سوى (المعادل الموضوعي) لفرط شعورهم بفداحة معطيات الحاضر وطغيان إحساسهم بمخاطر توقعات المستقبل . وهو الأمر الذي ترجم على صعيد الواقع الاجتماعي والسياسي إلى تراجعات مستمرة وانكسارات متتالية وانهيارات متواصلة ، دون أن يصار إلى الاستفاقة من السبات الحضاري الذي طال أمده وتفاقمت مضاعفاته .
وفي إطار الحديث عن أسباب إخفاق الذات العراقية في بلوغ مستوى الوعي بالذات التاريخي – الحضاري ، يمكن اعتبار ظاهرة تصدع الذاكرة الجمعية وتفتت بنيتها إلى أصولها البدائية (الاقوامية والقبائلية والطوائفية والمناطقية) ، هي من أخطر العوامل التي ساهمت بشكل فاعل ومؤثر في ديمومة حالة الاغتراب التي تعانيها الجماعات حيال انتمائها للشخصية الاجتماعية (المعيارية) من جهة ، وإزاء ولائها للهوية الوطنية (العراقية) من جهة أخرى . ولهذا فما لم يعاد ترميم الذاكرة العراقية – عبر نقد السرديات الأسطورية وتعرية المرجعيات الأصولية – فان حالة الاغتراب المتفاقم بين الجماعات ، لا تلبث أن تتحول إلى حالة من الاحتراب المعمم بين الأصوليات ، على خلفية المخاوف البينية والكراهيات المتبادلة التي لم تخفي الأطراف الخارجية (الإقليمية والدولية) السعي لتأجيج أحقادها واستثمار تداعياتها بما يخدم مصالح تلك الأطراف المستفيدة ويعزز هيمنتها على الصعيدين الجيوبولتيكي والجيواستراتيجي .
ولعل هناك من يعتقد – خاطئا”- انه يكفي الإشاحة عن التذكير بأحداث ما جرى في الماضي من أحداث مفجعة ، وإسدال ستار النسيان على ما حفل به التاريخ من وقائع مروعة ، حتى تتمكن الذات العراقية المتشظية من لملمت شعث ذاكرتها المفتتة واستعادة زخم وعيها الوطني المتهتك ، بعد أن تكون قد تخففت من أوهام ذلك الماضي وتخلصت من آثام ذلك التاريخ . دون أن يناهى الى إدراكهم ان عملية (الإشاحة) وتجربة (النسيان) – حتى وان كانت جادة – لا تعتبر (علاجا”) ناجعا” لاحتقانات جروح المخيال المعبأ بالخرافات ، بقدر ما تشكل (مهدئا”) مؤقتا”لاعتلالات صدمات السيكولوجيا المجيشة بالأساطير .
والمفارقة ان غالبية من تقع عليهم مسؤولية إيجاد الحلول واجتراح المعالجات لمثل هذه الإشكاليات العويصة عبر مراحل تاريخنا السوسيولوجي والانثروبولوجي والسيكولوجي ، كانوا – ولا يزالون – يعتقدون بكفاية التركيز على (مقومات) وطنية وقومية غالبا”ما كانت (افتراضية / متخيلة) لا أساس لها على أرض الواقع ، سوى كونها ترتكز على خطابات إيديولوجية مفبركة أو سرديات تاريخية ملفقة ، جردت العادة على تداولها وترويجها في الأوساط البيداغوجية بحماسة طفولية ساذجة ، دون أن يصار الى شحذ أدوات الوعي التاريخي (المغيّب) لتدقيق مزاعمها وتحليل مضامينها .
وعلى هذا الأساس ، فبقدر ما يتم الإلحاح على تبني مقومات واجتياف قيم اجتماعية وتاريخية وثقافية (مفترضة) و(متخيلة) ، من لدن المعنيين بأمر توطين وتكريس هذه الرؤى والتصورات المؤمثلة داخل بيئة سوسيو – انثربولوجية ، قلما كانت حاضنة حضارية مناسبة لاستنبات ورعاية مثل تلك العناصر والمثل ، لاعتقادهم بإمكانية الارتقاء بقدرات (المواطن) على وعي ذاته (الوطنية) وإدراك أصالة شخصيته (الاجتماعية) ، وبالتالي خلق ذاكرة عراقية موحدة . بقدر ما كانت تصدعات أساساته المعيارية تتزايد وتتضاعف ، وشروخ منظوماته السيكولوجية تتعمق وتتوسع ، وتهتكات علاقاته الاجتماعية تتواتر وتتوالى . وهنا تأتي لحظة الوقوع في المحظور ، حيث الارتداد والنكوص من ذرى الوعي بالذات الى حضيض غربتها ! .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *