اسم الكاتب : ثامر عباس
عند بداية الأعوام الأولى لسقوط النظام السياسي ، كنت من أوائل الذين وقفوا الى جانب سياسة تشجيع ودعم الجامعات الأهلية في العراق ، من منطلق اعتبارها منافس حقيقي وند مكافئ – هذا ما كنت أظن – للجامعات الحكومية التي كان مستواها العلمي قد شارف على التآكل ، جراء تفشي علاقات الاستزلام والزبائنية المرتبطة بالانتماءات الحزبية والولاءات الإيديولوجية ، ليس فقط داخل الحرم الجامعي وضمن مقرراته المنهجية فحسب ، بل وكذلك بين أروقة ملاكاته الإدارية وهيئاته التدريسية التي كانت عقليتها وعلاقاتها قد تأدلجت الى حدّ يعيد .
ولعل الخطأ الذي اركبته ، هو الاعتقاد بان من مزايا الجامعات والكليات الأهلية كونها مؤسسات تعليمية تعود ملكيتها للقطاع الخاص كمشروع تجاري ، يستهدف الأرباح المالية لقاء الاستفادة من مخرجاته العلمية والمعرفية . هذا بالرغم كونها (الجامعات الكليات) ملزمة بمراعاة بعض الشروط العلمية والفنية والإدارية التي تحددها وزارة التعليم العالي كجهة حكومية مسؤولة . غير أنها لا تخضع – شكليا”على الأقل – لأية اشتراطات سياسية أو اعتبارات إيديولوجية ، لا بالنسبة لسياسة قبول الطلبة ولا بالنسبة لطبيعة المناهج الدراسية المقررة مثلما هو شأن نظيرها الجامعات الحكومية . بحيث يتيح لها هذا الأمر أن تكون بمنأى عن الالتزامات والاملااءات التي تخضع لها نظيرتها الأخيرة وتكون ملزمة بمراعاتها والتقيد بضوابطها . هذا وقد فاتني في حينها أن شروط نجاح المشاريع ذات الطابع الخاص – بما فيها مشاريع المؤسسات التعليمية / الجامعية – تحتاج الى أوضاع سياسية مستقرة ومتوازنة ، تكون فيها (الدولة) هي الجهة المسؤولة والوحيدة عن تنفيذ القوانين وسريان التشريعات ، دون السماح لأية جهة أخرى التدخل في شؤونها الوطنية والمساس في صلاحياتها السيادية .
ونظرا”الى ركام الخلفيات السياسية والمرجعيات الإيديولوجية الموسومة بالتحزب والتعصب التي هيمنة – على مدى عقود عمر الدولة (الوطنية) – على عمل المؤسسات البيداغوجية (المدارس والمعاهد والجامعات) في المجتمع العراقي ، حيث سيادة الرؤى الواحدية لسيرورات الواقع وهيمنة التصورات النمطية لثقافات المجتمع ، فقد كان حصول أي تغيير في هذه المسارات أو وقوع أي تحويل في تلك العلاقات ، كفيل باستقطاب المشاعر الرافضة وتحفيز النوازع المناهضة التي كانت تنظر بعين الرضى والقبول الى كل ما كان يطرأ على أنظمة الحكم السياسي الشمولية من انكسارات إيديولوجية وانهيارات مؤسسية كنوع من أنواع (الثأر) للأنا المخصي والمقموع ، وذلك بصرف النظر عن طبيعة المصدر أو الجهة التي أحدثت التغيير وساهمت في التحول . بحيث ان لحظة سقوط النظام السابق كانت بمثابة دعوة مجانية لإطلاق تلك النوازع الثأرية المختزنة من عقالها ، لاختراق تلك الشقوق والتصدعات التي كانت سلطات الأنظمة السابقة تحاول إخفائها وترميمها دون جدوى .
والمشكلة هي انه كلما تطاول العهد بالأنظمة السياسية التوتاليتارية وتصلبت قبضتها السلطوية في الردع والقمع ، كلما تزايدت انحرفات المجتمع وتعاظمت إخفاقات الدولة ، الأمر الذي يفضي بالمكونات الاجتماعية المتذررة اثنيا” وقبليا”وطائفيا”الى استمراء مظاهر الفساد في المؤسسات الحكومية واستشراء ظواهر الفوضى في العلاقات الجماعية كنوع من أنواع التعويض عن الحرمان الاقتصادي والامتهان الاجتماعي . بحيث تستطيع تلك المكونات من تحقيق مصالحها الشخصية كأفراد وبلوغ مآربها الفئوية كجماعات ، عبر توظيف واستثمار علاقات الاستزلام والربائنية التي سرعان ما تنتعش في مثل هذه البيئات الموبوءة والأجواء المشبوهة .
وإذا ما كانت مظاهر الفساد وظواهر الفوضى على مستوى النظام السياسي قمينة بضعضعة كيان (الدولة) وانحسار هيبتها واضمحلال تأثيرها ، فان عواقبها على مستوى النظام الاجتماعي كفيلة بتفكك عرى (المجتمع) ونخر بناه وتآكل قيمه واندثار أخلاقياته . ولعل مكمن الخطورة في هذا المجال هو تسارع التحول فيما هو (طارئ) من قيم و(استثنائي) من علاقات ، الى ما يشبه (المأسسة) و(الشرعنة) لظواهر الفساد والفوضى ، لاسيما في ميادين العلم والفكر والثقافة التي من شأن التفريط بمعاييرها والاستغناء عن شروطها ، الانحراف بسيرورة المجتمع صوب مئالات الانحطاط الأخلاقي والخراب الحضاري .