اسم الكاتب : ثامر عباس
غالبا”ما يتردد مفهوم (الوعي) في سرديات العلوم الإنسانية والاجتماعية كتعبير عن مناشط الفكر ومنازعاته ، وهو يقارع معطيات الواقع الموضوعي في مضامير الجدليات الاجتماعية ، بصورة تكاد تكون أقرب الى التوصيف الشكلي والتضمين الروتيني منها الى التحليل الجدلي والتأويل المعرفي . وهو الأمر الذي يجعل من الادراكات المباشرة والانطباعات الأولية التي تتكون لدى عامة الناس حيال تفاعلهم مع / واستجاباتهم لديناميات الواقع وسيرورات المجتمع ، كما لو أنها صيغة متقدمة من صيغ (الوعي) الاجتماعي بطبيعة عناصر الأول ومكونات الثاني .
والحقيقة ان أغلب ما يجري في هذا المضمار الذهني لا يتعدى نطاق (الحسّ المشترك) الذي يتبلور لدى الكيانات والجماعات عفويا”، على خلفية (إدراكها) المباشر لما يدور فيها وداخلها من تفاعلات وتناقضات مضمرة من جهة ، أو ما يجري عليها وحولها من علاقات وصراعات معلنة من جهة أخرى ، دون أن يكون لهذا الإدراك الحسي أساس متين من (الوعي) الناضج الذي يمكّنها من اكتناه كيفية عمل الأواليات والديناميات المسؤولة عن عوامل الضبط والسيطرة في الحالة الأولى تارة ، أو عوامل التفكك والفوضى في الحالة الثانية تارة أخرى . ولهذا فقد شدد العالم الاجتماعي الفرنسي (موريس هولبفاكس) على حقيقة أننا (( لا نستطيع الحديث عن الوعي وعن الحياة النفسية في نفس الآن )) .
وعلى الرغم من نظرات الاستهانة والازدراء التي تخضع لها عناصر (الحسّ المشترك) من لدن شرائح النخبة حيال وظيفتها في الواقع ، على اعتبار كونها خليط من بقايا ومخلفات (أساطير) و(خرافات) ترسبت على شكل ثقافات (فولكلورية) متوارثة ، تعكس اهتمامات جمهور / حشود العامة وتستجيب لتواضعاتهم الذهنية والنفسية والرمزية . إلاّ أن البعض من المفكرين النابهين اعتبر شأنها في المجتمع من الخطورة بحيث ان التعامل معها بتلك الطريقة من الاستهانة والاستخفاف ، ستفضي الى مشاكل جمّة وإشكاليات عويصة ستكون آثارها – على المدى البعيد – بالنسبة للمجتمعات الضعيفة بنيويا”والهشة إنسانيا”مكلفة ان لم تكن مدمرة . ولعل من أبرز من حذر من مغبة تجاهل هذا النمط من (الوعي) الشعبي وعواقب إهماله هو الفيلسوف الايطالي (أنطونيو غرامشي) ، حتى أنه عده واحدا”من مكونات المعرفة البشرية التي تنطوي على ثلاثية (الفلسفة ، والدين ، والحس المشترك) .
ومما يزيد من أهمية هذا القسم من (الوعي الفطري) في المجتمع ، هو ان حجم دوره وثقل وظيفته في الذهنيات والتصورات والتمثلات ، وبالتالي العلاقات والتواضعات والسلوكيات ، يزداد ويتضاعف كلما كانت الأطوار الحضارية للمجتمع لا تزال في مراحلها الأولى من التطور . أي بمعنى انه كلما كانت السمات الغالبة على المجتمع المعني سمات ذات طابع تقليدي – بدائي قليل الحراك وبطيء التطور ، كلما كانت الجماعات المكونة للمجتمع أميل الى الاعتماد على عناصر حسّها المشترك مقارنة بعناصر وعيها الأخرى والعكس بالعكس . ولهذا فان المؤسسات البيداغوجية في الأنظمة السياسية المتخلفة غالبا”ما تقع ضحية أوهام اعتقادها بنجاح مشاريعها (الترويضية) و(الاستيعابية) الهادفة الى صهر العقليات ودمج الثقافات ومزج الذاكرات ، استنادا”الى مؤشر (التماثل) الظاهري البادي في مسلكيات تلك الجماعات خلال تعاطيها المباشر واستجابتها الآنية لمعطيات الواقع الاجتماعي ، التي غالبا”ما تحتجب خلفها التيارات العميقة في السرورات ، والقوى الفاعلة في الديناميات ، والعوامل المؤثرة في السيكولوجيات ، والضوابط المتحكمة في السلوكيات .
وعلى هذا الأساس ، لا ينبغي بتاتا”التعويل على ما تبديه الحشود المعبأة إيديولوجيا”والمجيشة سيكولوجيا”، من مظاهر الاندفاع العاطفي والحماسة الخطابية المشهودة عنها ، حيال بعض القضايا السياسية ذات الحساسية الوطنية ، فضلا”عن الرهان المتهور على دافعية الانخراط العفوي في التظاهرات والاحتجاجات الدورية أو الموسمية ، التي غالبا”ما تعكس توجهات آنية واهتمامات مطلبية لا صلة لها بما يترتب على حالة الوعي الحضاري من تصورات عقلانية وتطلعات إنسانية والتزامات أخلاقية ، عابرة للمصالح الفئوية والحزبية الضيقة حيث (الوطن) هو المعيار الأوحد و(المواطن) هو الهدف الأقصى .