نوفمبر 22, 2024
14122022175219مفارقة المركزية وتصدّع الدولة في العراق

تقديم وحوار: يوسف محسن

 ان طرح مسألة التعددية والتعايش والمواطنة والمصالحة  بين الجماعات العراقية  يتطلب العودة الى قراءة السرديات الكبرى التاريخية للدولة الوطنية العراقية حتى الانهيار الشامل 2003 للوصول الى فهم المنحى السياسي للحقل الايديولوجي العراقي (تفكك اليسار التقليدي، السبات المستديم للتيارات الليبرالية ، نمو وتبلور الاصوليات الدينية بوصفها ازمة اجتماعية شاملة وتشكل الهويات الفرعية القومية والعرقية وظهور الطائفية السياسية العراقية التي تتناسل نتيجة استمرار اشتغال نظام البنى التقليدية وازمة تبلور مؤسسات الدولة الحديثة وهيمنة الرموز الاسطورية في الفكر السياسي العراقي.

نطرح سؤال قد يبدوا ملتبسا الان.

لماذا اختار البريطانيون العمل من خلال نظام ملكي في عراق 1921 حيث تشكلت الدولة العراقية ، كانت نتاجا مشوها لنمط الهيمنة الكولونيالية ,هذه الدولة استجابة للنظام الثقافي والاجتماعي والسياسي السائد في المجتمع العراق انذاك وقد تكونت الجماعات التي ساهمت في تاسيس الدولة العراقية من شيوخ القبائل العربية والاغوات الاكراد وكبار التجار والضباط الاشراف تمكن هذا التحالف التقليدي من البقاء في السلطة حتى 1958 ومع مجي العسكر الى السلطة ولعدم تمكن اوامتلاك هذه المؤسسة العسكرية نسقا ايديولوجيا واضحا تحولت هذه المجموعات من الضباط العسكريين الى بؤرة ازمات مزمنة ادت الى تعطيل الدستور وانهيار جبهة الاتحاد الوطني واندلاع الصراعات السياسية حتى مجيئ انقلابي 1963 -1968 لكي يتم تبلور تاريخ الدولة الشمولية القومية حيث تسلم حزب البعث العراقي السلطة السياسية في تشكيلة اجتماعية اقتصادية مفككة ونظام الدولة يقوم على احتكار السلطة للزعامات الفردية وهيمنة العنف السياسي امام هذا النسق التاريخي المجتمعي بدات الدولة القومية بتخطي الشكل التقليدي وصياغة تشكلية جديدة تتطامن مع التاطيرات القانونية والوظائفية للدولة البعثية حيث تم دمج مؤسسة الحزب وجهاز الدولة بكيان واحد يرمز للهيمنة السياسية والمالية متزامنا من تفكك وانهيار الزعامة القومية الناصرية وارتفاع اسعار البترول 1973 (نتيجة ازمة الطاقة) وقد شكلت الدولة البعثية نظاما مركزيا صارما يستند الى شبكة معقدة من الروابط القبلية والجيش ومؤسسات الشرطة والامن الوطني.

شيدت نظام متشابك من البنى القرابية والايديولوجية الريعية والحزب الجماهيري الواحد والاقتصاد المركزي المخطط والهيمنة على وسائل الاعلام والجيش والاجهزة البوليسية (مخابرات، امن وطني، استخبارات…اضافة الى التلاعب بالمؤسسات الاجتماعية التقليدية الاهلية وسيطرة نظام العصبية السياسية مما منح هذه الدولة درجة عالية من الضبط والقسوة الجامحة وصلت الى مرحلة الابادات الجماعية للمكونات الدينية والقومية المناوئة.

ان هذا المسار التاريخي ادى الى ازمة تكوين الطبقة البرجوازية الوطنية العراقية وصعود الفئات الريفية بايديولوجيتها القومية الرثة التي تتسم بالنزعات الشوفينية مما انتج بناء دولة توتاليتارية تلغي الاختلاف والتعددية وتمارس العنف والاقصاء والتهميش للجماعات الدينية والقومية

ان ظهور الدولة الشمولية القومية في احد اطوار التاريخ السياسي للمجتمع العراقي كان نتيجة لازمة تشكل نظام البنى الاجتماعية التاريخية ومحيط جغرافي – سياسي ضاغط اضافة الى طبيعة النظام الدولي المهيمن انذاك حيث ولدت هذه الدولة من رحم الوسط القومي العلماني تقوم بنيتها الايديو لوجية على حاكمية الحزب الواحد ونزعت الاستبداد والتفرد والاحتكار الاليات العنف والعدوان والشوفينية القومية واستنصار (مؤسسة العشيرة والجماعات الطائفية) حيث ان هذا الشكل من الدولة يعود تاريخيا الى حقبة الاستقلال السياسي عن الهيمنة الكولونيالية التي رفعت فيها الحركات القومية ايديولوجية ضخمة استطاعة ان تدمج سائر الطبقات الاجتماعية والسياسية في وحدة كفاحية..

لقد تمكن النموذج البعثي للدولة في صورها الاولى ان يهيمن ويحقق السيطرة الشاملة على المجالين الاقتصادي والسياسين وبسبب ازمة التكوين للدولة الوطنبة العراقية خلال عشرينيات القرن الماضي لم يستطع المجتمع العراقي ان يبلور تنظيما مؤسساتي/سياسيا قادر على تحجيم بواكير الدولة التوتاليتارية يضاف الى ذلك ضعف القطاع الخاص وهشاشة الطبقة البراجوازية الوطنية العراقية وعدم وضوح مشروعها الفكري والطبقي والتي كان من الممكن ان تحول دون تضخم الدولة البعثية اقتصاديا وسياسيا.

استطاع البعث العراقي ان يصنع دولة (كراسمالي ضخم) حيث تم الاستيلاء على ثروات المجتمع واتسعت السيطرة الاقتصادية والسياسية والعسكرية والفكرية بعد عسكرة المجتمع ودمج الاجهزة السياسية والامنية في جهاز الدولة خلال حقبة الثمانينات من القرن الماضية وهي خطوات لهندسة تاريخية الدولة الكليانية القومية رافقتها ظهور النزعات العدوانية العسكرية بعد اطلاق اول مغامرة عسكرية ضد ايران نتيجة صعود تيار راديكالي الى السلطة السياسية هذه المغامرة العسكرية ادت الى تحجيم خطط التنمية الوطنية والثقافية وتكريس هيمنة الدولة على الفضاءات السياسية والاقتصادية والاجتماعية واستخدام سياسة الاقصاء والاستبعاد واحتكار السلطة.

بعد انهيار الفكر السوفيتية دخلت الدولة الوطنية العراقية الكليانية في الطور الاخير من ازماتها الدورية وخاصة بعد تبلور ايديولوجية التوسع الراسمالي في النيوليبرالية، فالملك فيصل الاول يعترف في مذكراته ان العراق مملكة تحكمها حكومة عربية سنية مؤسسة على انقاض الحكم العثماني هذه الحكومة تحكم قسماً كردياً وأكثرية شيعية تم اقصاؤها وتهميشها سياسيا. هذا التكوين الاستبعادي للاغلبية العربية الشيعية من حقل توزيعات السلطة السياسية في عراق 1921 كان يندمج مع التصميم الكولونيالي البريطاني في انحيازهم الى مذهب الاقلية الديموغرافية وايجاد هوية غامضة للاغلبية حيث ان الاقلية تبقى بحاجة دائمية الى سند خارجي يحميها من سيطرة الاغلبية وهذا الوضع المثالي لسياسة تريد البقاء في العراق تحت الهيمنة حيث تتمحور السلطة في اقلية عشائرية او اقلية مذهبية او اقلية عنصرية يجعل اللجوء الى الاستبداد امراً مفروغا منه ولا يمكن لحاكم الاقلية ان يفكر بانتهاج اسلوب الديمقراطية ينتهي بانتزاع السلطة منه فالاستبداد حصيلة طبيعية لحاكم الاقلية وليس صفة خاصة بمذهب او دين او قومية معينة/ حيث ان الملك فيصل الاول كان يمتلك قوة بصيرة ثاقبة وفهماً عميقاً وجذرياً لخصوصيات المجتمع العراقي في نصوص مذكراته فهو يرى ان العراق دولة ذات مذاهب وعناصر متعددة فهي بحاجة الى حكم نخبة لا تخضع لتفرد مجموعات طائفية او اثنية (حيث ان البلاد العراقية هي من جملة البلدان التي ينقصها اهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية هو الوحدة الفكرية والملية والدينية فهي والحال هذه مبعثرة القوى مقسمة على بعضها تحتاج من ساستها ان يكونوا حكماء مدبرين في عين الوقت اقوياء مادة ومعنى غير مجلوبين لحسابات او اغراض شخصية او طائفية او متطرفة يدامون على سياسة العدل والموازنة والقوى معا وعلى جانب كبير من الاحترام لتقاليد الاهالي وفي جانب اخر تؤرخ المذكرات نقداً صارماً لأوهام النخبة السياسية العراقية والتي تقول بوجوب عدم الالتفات الى افكار واراء الناس وسوق البلاد الى الامام طالما ان القانون والنظام والقوة بيد الحكومة حيث ان (عدم الاهتمام واللامبالاة بالرأي مهما كان حقيرا خطيئته لا تغتفر) على حد تعبير الملك فيصل الاول. ان هذه التوصيفات كانت تؤسس لمعادلة جديدة بين القوة/الدولة وانتاج المعنى داخل المشروع التحديثي العراقي ابان الثلاثينيات من القرن الماضي حيث الايمان بتنوع الاراء واختلاف الافكار ضرورة لتكون الدولة كهيئة سياسية لادارة السكان.. فقد حاول الملك فيصل الاول صياغة نمط من الهوية العراقية رغم الصعوبات التي كانت تسيطر على هذا المشروع بسبب ان في العراق لم يكن هناك ((شعب عراقي بل توجد كتلات بشرية خالية من اي فكرة وطنية متشبعة بتقاليد دينية لا يجمع بينهم جامعة ميالون للفوضى مستعدون للانتفاض على اية حكومة) ولكون العراق في تلك الفترة وحتى الان حديث التكوين ليس له جذور موحدة كما ان كل القوميات والاديان والطوائف حتى لو تقبلت فكرة العراق لديها تاريخها الخاص ومنظوماتها الجماعية وتطلعاتها المستقبلية لهذا لم يتم بناء الامة في العراق (ليورالوكتير. البحث عن الهوية) بالاضافة الى الظهور الدوري للتوترات وصدام الهويات الطائفية وانهيار المشروع الليبرالي والعقلاني ونمو الاصوليات الدينية والطائفية والتي تمثل ازمة التشكيل الايديولوجي للمجتمع العراقي يرافقها هذه الفشل والعودة الى الهويات الفرعية القومية والهوية العرقية والاثنية والطائفية وخاصة بعد تصدع العقد الاجتماعي القسري للتأسيس الاولي للدولة بين الجماعات العراقية ابان الاحتلال الاميركي.

ان الاصلاح والتحديث في العراق لا يمكن لهما ان ينطلقا دون توصيف وظيفة الدولة بشروط وضوابط واقعية. اول هذه القواعد هو تقديم مقاربة جديدة وتحليلية للاوضاع في العراق مؤسسة على فهم عميق للروابط المتراكمة والمعقدة التي تحكم المعادلة الاجتماعية والثقافية وتجمع الشعب الواحد او تلعب على العكس من ذلك دورا في تعميق التشققات والتصدعات السياسية والثقافية. حيث ان بناء هذه الدولة العراقية يشترط ثلاثة توصيفات حسب شروط سميث في (الاصول القومية للامم) وجود اقتصاد مندمج وشبكة من المواصلات تربط مراكز الانتاج بالاسواق وعصرنة الاساليب البيروقراطية في الحكم وتوحيد انماط الثقافة عن طريق ايجاد لغة مشتركة ادارية موحدة تروج عن طريق التعليم العام من اجل خلق لغة للتفاهم وهنا تكمن قوة المعنى في مذكرات الملك فيصل الاول حيث نكتشف التصورات البدائية لمشروع الحداثة في العراق (الشراكة بين الجماعات العراقية في الثروة/السلطة) واعادة تصحيح العقد الاجتماعي (النقيب/كوكس) ولحذف الصبغة الطائفية للدولة) و(تحويل الكتل البشرية الهلامية الى شعب والتي تمثل الاساس في اي مشروع للتحديث والاصلاح) وهي محاولات حكم عليها بالاخفاق والفشل في تأسيس دولة وصناعة شعب.

ان اعادة التفكير العميق بمشروع الدولة الوطنية العراقية الحديثة التي تأسست في العام 1921 وما حصل بعد ذلك من عمليات استقطابات وانهيارات يفترض اعادة فهم هذا المشروع؟

– اين تكمن الازمة التاريخية لمشروع الدولة الوطنية هل في التكوين الاول؟ اقصد في تكوين الجماعات الحاكمة والاقصاء والاستبعاد للجماعات الاخرى؟

تكمن ازمة الدولة في المنطقة بشكل عام انها كانت نتيجة طبيعية للغزو الكولنيالي، فهي لم تكن نتاجا طبيعيا للبيئة المحلية ولا تعبيرا عن رغبات الجماعات السكانية المتنوعة او تمثيلا طبيقيا للمجتمع، بل انها كانت نتاجا فوقيا تمت هندسته عبر فرض نموذج الدولة/الامة على النمط الاوربي، لقد تم استيراد ملك من خارج المجتمع في حالة العراق، واستيراد نموذج دولة اوربية، وتصميم نظام برلماني على النمط الانكليزي، وهذا النموذج على الرغم من نجاحه في اوربا لايعني بالضرورة نجاحه عند تطبيقه قسريا على مجتمع بظروف اجتماعية واقتصادية مغايرة، وارث تاريخي وتناقضات مختلفة، لا سيما مع الطابع الاعتباطي للحدود السياسية المصطنعة للدول الجديدة التي ربما يكون من رسمها  مجرد موظف في وزارة الخارجية في العاصمة الميتروبولية، لم  يسبق له زيارة الارض التي مزقها بمسطرته او كون تصورات خيالية عنها تتجاوز جغرافيا الاثنيات والاقليات والجماعات التي انشطرت وتبعثرت بين دول جديدة، خطها قلم الموظف المذكور على خريطة في مكتبه الفخم بشكل كاريكاتوري.

واستنساخ الدولة او توليدها اصطناعيا عبر نماذج مسبقة ولد معه تراتبية في الدولة الوليدة لا تنفصل عن ثقافة الخلق الجديدة، فقد كانت هذه الثقافة تقوم على مركزية كولنيالية تقول ان ما يصلح للغرب يصلح على الشعوب الاخرى، والشعوب الاخرى همجية لا يمكن تمدينها الا من خلال نموذج الدولة/الامة على النمط الاوربي، بالتالي اصبحت هذه الدولة الرضيعة رهنا بالدولة الخالقة او الضامنة، وهو ما يفسر فشلها حينما فطمت من هذه الرعاية او العناية او الضمان، وهو ما اتضح عند نهاية الحرب الباردة مع فشل كثير من اشباه الدول في افريقيا والشرق الاوسط، ولانها صبت في قالب هوية جديدة لا تعبر عن رغبات الجماعات المحلية، فأن بعض الجماعات استغلت الفرصة السانحة فكان لها الهيمنة والسيادة، والبعض الاخر رفض المشروع او مانع فلم يحترم قواعد اللعبة فحرم من المشاركة او قيدت مشاركته، ومن هنا نشأ الاقصاء والاستبعاد والتهميش.

– ماهي الاسباب التى جعلت النخب السياسية العراقية لا تستطيع حمل مشروع حداثي ليبرالي فاعل لتشكيل دولة – امة؟

هناك اسباب تتعلق بطبيعة وظروف تكوين هذه الاحزاب والايديولوجيات التي اعتنقتها ضمن ما سنطلق عليه: ازمة الانفصال عن البيئة المحلية والدخول في لعبة الاستعارة والاستيراد، فايديولوجيا نخب سياسية منفصلة عن الجماهير لن تنتج سوى مشروع دولة منفصلة عن المجتمع وليست دولة متداخلة معه، أي دولة برانية على حد تعبير سامي زبيدة ، وبشكل اكثر تحديدا كان هذا الفشل البنائي انعكاسا  للفشل الثقافي والارتهان الفكري  للايديولوجيات المستوردة من المحيط الجغرافي (المكان) لاسيما بالنسبة لليساريين والقوميين او من التاريخ (الزمان) لاسيما بالنسبة للاسلاميين، فالنخب السياسية العراقية لم تتحرك باستقلالية كاملة عن كاريزما العواصم  في المكان واستقطاباتها والذاكرة الدينية المشحونة بتناقضات التاريخ بالنسبة للزمان، فكان الارتهان السياسي والرمزي بموسكو بالنسبة لليساريين وارتباط الاسلام السياسي بطهران منذ  ثورة 1979 او بالرياض  بشكل واضح منذ الاحتلال السوفيتي لافغانستان، واقفال افق القوميين على  صورة قاهرة  عبد الناصر وجاذبيتها الثورية في الخمسينيات، و انجذاب الليبراليين  الى واشنطن التي قلبت رقعة شطرنج الشرق الاوسط منذ حرب الخليج1991.

سبب أخر يتعلق بشدة تأثير البيئة المحلية وتعقيداتها على النخب السياسية، اذ لم تصل مثل هذه النخب الى تنظيم نفسها عبر الاحزاب والتيارات السياسية على نحو مؤسسي، فظلت رهنا للطابع الشخصي لتكوينها، فنجم عن ذلك ارتباط الأنظمة والأحزاب في مجمل حياتنا السياسية بأسماء  مؤسسيها و اشخاص زعمائها، فهي احزاب تتحرك في ظل بيئة تقليدية تدعو للحداثة في وقت تشبه  فيه العوائل او تحمل سمات العشيرة، وقد أضعفتها الصراعات الموروثة والشكوك المتبادلة والانقسامات الطائفية والعرقية الى جانب التدخل الاقليمي والدولي، لهذا فشلت  في انتاج مشروع دولة يحملنا الى الضفة الاخرى من الزعيم او القائد او الرئيس، جميع دولنا الشرق اوسطية اصبحت تنويعات على دولة الرئيس ومعظم احزابنا تنويعات على حزب الزعيم، في حين ان مشروع الدولة في مكان اخر.

– ان رد فعل الجماعات الوطنية العراقية بعد العام 3003  يختلف باختلاف الارث الثقافي والتاريخي والموقع في الخرائط الجيوسياسية حيث نرى جماعات تعيد انتاج الاقوامية والاثنية وجماعات اخرى تعيد انتاج الطائفية واخرى تعيد انتاج الموروثات الكلاسيكية القومية مما ادى الى تفجير حرب اهلية سياسية مستمرة  منذ العام 2003، كيف يتم الخروج من هذا المأزق؟

ربما يتم التخلص من المآزق عن طريق ادارة سياسات الهوية على نحو يكفل توزيع الثروة والسلطة بشكل عادل، وهو السعي الذي عبرت عنه النخب السياسية الممثلة للمكونات الثلاث من خلال نموذج الديمقراطية التوافقية الفاشل، فقد كانت نتائجه مبطئة بل ومعيقة لمشروع بناء الدولة خلال السنوات الماضية، ودعوة رئيس الوزراء الاخيرة لاستبداله بنظام افضل، تعبر عن خيبة أمل في نظام الادارة المفترض ودليل على تعثر مشروع بناء الدولة وغياب هوية وطنية جامعة .

من جهة ثانية يمكن الحديث عن انتاج هوية وطنية على اساس المشترك بين المكونات السكانية، فنحن هنا لانحتاج الى ابتكار التراث اذا ما استخدمنا عنوان كتاب المؤرخ البريطاني إريك هوبسباوم، اذ في النهاية الشيعة والسنة عرب (هوية عرقية مشتركة) والاكراد والعرب مسلمون (هوية دينية مشتركة) وبقية المكونات والاقليات عراقيون منذ الاف السنين (هوية تاريخية حضارية)، لكني اشك في القدرة على استصراخ المشتركات لبناء هوية جامعة، في ضوء سعي  الجماعات لابتكار تراثاتها الخاصة.

الهوية لا يمكن ان تكون جامعة بدون دولة قوية، أي دولة قانون يصبح فيها الجميع مواطنون على قدم المساواة وليس مجرد ذرات متفرقة بين تكتلات خيالية متنافسة على الثروة والسلطة، ونموذج هذه الدولة امر لا تتضح ملامحه في المستقبل القريب في ضوء سعي النخب السياسية لاعادة انتاج الفشل الحالي للحفاظ على مكاسبها الفئوية، الامر الذي يرسم حل الدول الثلاث الخطر كبديل واقعي وهو مشروع طرحه نائب الرئيس الاميركي (بايدن) كما هو معروف، او يترك خيار الفوضى في شكل حرب اهلية بلا نهاية، وهو سيناريو قيامي  لما بعد الانسحاب الاميركي من العراق، يثير فينا الذعر كلما فكرنا بعواقبه.

– ما هي سياسات المصالحة الوطنية؟ طبيعتها، تكوينها، وسائل تحقيقها في المجتمع العراقي؟

ان الآلية الاشهر التي تتعلق بالمصالحة تتمثل بتشكيل لجان الانصاف والعدالة او لجان الحقيقة والمصالحة، وهي هيئات ولجان مؤقتة تعمل لمدة سنة أو سنتين، تركز أعمالها على الماضي وتحقق حول الانتهاكات الخاصة لحقوق الإنسان، والمهم انها تعطي الأولوية لحاجات الضحايا وتنهي عملها بتقديم تقرير نهائي يتضمن الاتفاق على حقيقة ما حدث، ومن هنا جاءت تسميتها بلجان الحقيقة، فهي اذن لجان تساعد على استجلاء الحقيقة حول طبيعة وحجم جرائم حقوق الإنسان في الماضي، وتشجيع محاسبة المرتكبين للجرائم من خلال تجميع الأدلة، والاهم برأيي انها توفر قاعدة إعلامية للضحايا من أجل التحدث مباشرة مع المواطنين حول قصص حياتهم ومعاناتهم لان جانب اخبار القصص والاستماع اليها مهم لتحقيق التطهر من الالم وللغفران وتعميق الاحساس بالآخر، كما انها قد تحفز النقاش العام حول كيفية التعامل مع الماضي وضمان مستقبل أفضل و تعمل على إعادة صياغة علاقات إيجابية بين الخصوم، وتركز على الأبعاد النفسية لتحويل النمط السلبي في العلاقات القائمة إلى نمط إيجابي، كما انها تهيء لانطلاق برامج مفصلة لتعويض الضحايا والإصلاحات القانونية المؤسسية الضرورية.

وترافق مثل هذه الآلية مجموعة من الإجراءات مثل إقامة نصب تذكارية في الأماكن التي شهدت مجازر جماعية أو قتل أو استشهاد، تحسين أوضاع الضحايا المعيشية وإنشاء صندوق دائم لدعم اسر الشهداء والتعويض المجزي لضحايا التعذيب، تسمية الأماكن العامة والمدارس والشوارع بأسماء الشهداء الخ..

اعتقد ان تكوين مثل هذه اللجنة مع ما يرافقها من اجراءات ووسائل كان يمكن ان يكون كفيلا بتحقيق المصالحة مع ما حدث في الماضي، الا ان طريق المصالحة في العراق سلك دروبا اخرى لاعلاقة لها بهذه الآلية وبتجارب المصالحة المماثلة في العالم.

– البحث في مسألة المصالحة الوطنية يتطلب الحفر في العقل السياسي العراقي. تركيب الدولة، الدستور، العقيدة العسكرية، تشكل الشراكة السياسية بين الجماعات العراقية وتوزيعات السلطة/ الثروة؟ بوصفكم اكاديمي ماهي الاشتراطات لاعادة بناء المصالحة الوطنية بين الجماعات العراقية؟

ما دمنا قد تحدثنا عن لجان الحقيقة والمصالحة فأعتقد انها الشرط الاهم لبناء مصالحة ناجحة، لا سيما الجانب الاول منها، اي “الحقيقة” والتي تسبق “المصالحة” وتؤدي اليها وتعد شرطا لها، اقصد الاتفاق على الحقيقة بين الجماعات العراقية كما تسميها، الحقيقة هنا ليست ميتافيزيقية بل تتعلق بالاتفاق على حقيقة ما جرى في الماضي من ظلم والاعتراف به او المصارحة بشأنه، الامر الذي يمهد الطريق للمصالحة في سياق من العدالة والمحاسبة.

السؤال الملح هنا هو هل تم الاتفاق على الحقيقة بين الجماعات العراقية، والجواب ببساطة كلا. ليس لدينا نسخة متفق عليها من الحقيقة بل ثلاث نسخ غير متطابقة بل متعارضة في كثير من تفاصيلها ومروياتها، نسخ كردية وشيعية وسنية، هناك نسخ تتوهج فيها المقابر الجماعية والاعدامات والاغتيالات ونسخة ترفض وجودها بل تحيلها الى مجرد أكذوبة، ونسخة تحيل جريمة عرقية الى مصاف هولوكوست مؤسس لامة في مقابل نسخة مقللة من شأن الجريمة او تقبل بها مع التحفظ وتغيير اسم الجاني وهويته، نسخة تركز على ما حدث من مظالم بعد 9 نيسان 2003 وتشترط الاعتراف بها مقابل الاعتراف بما حدث قبل ذلك التاريخ من جرائم ومظالم، انها نسخ تتعارك على تفسير الواقع ومن ثم السيطرة عليه، وما يتبع ذلك من تحكم بالسلطة والثروة.

 وهذه ليست مشكلة راهنة او تتعلق بتصفية تركة صدام الثقيلة بل تمتد الى  الذاكرة السياسية لتأسيس الدولة العراقية وما قبلها، أي منذ الحدث التأسيسي متمثلا بثورة العشرين، وما تلاه من علامات استفهام كمقتل الملك غازي، تهجير يهود العراق، قتل العائلة المالكة، اعدام عبد الكريم قاسم، مجيء ثورة 1963 بقطار اميركي، حروب العراق  الثلاثة 1980 و1991 و2003. ما هي الحقيقة في مثل هذه الاحداث وهل هناك من يعترف بجريمته؟. التيارات السياسية جميعها تلعب لعبة انكار نموذجية واسقاط متبادل للمظلومية، فمن يتحمل مسؤولية ما حدث العراق؟ لا احد لان الجميع في بحر المظلومية  مجرد ضحايا، ويصبح الاخر وفقا لآلية الاسقاط جلادا. وقد اصبح واضحا بعد 9 نيسان 2003 كيف تلعب النخب السياسية على الجماعات وتوظف المظلومية : الكرد ضحية العرب، الشيعة ضحية السنة قبل 9 نيسان والسنة ضحية الشيعة بعد 9 نيسان، وهكذا تستمر اللعبة، لقد بني العقل السياسي العراقي على نوع من الانكار واللامبالاة في تصفية أرث الماضي وفي التملص من الاعتراف بالحقيقة ومعالجة الذاكرة.

– تشكلت الدولة العراقية ما بعد 2003 وفق مفتاح اثني/ديني. هل تعود هذه المسألة الى طبيعة التصميم الاميركي ام الى طبيعة مشروع القوى السياسية والدينية في العراق؟

الاثنان معا، لقد سألت مسؤولا اميركيا رفيعا في وزارة الخارجية  الاميركية سؤالا من هذا القبيل عن مسؤولية التدخل الاميركي الخارجي في تحديد شكل النظام السياسي على نحو انقسامي أثني طائفي، وكيف تحول الانقسام السياسي الى انقسام اجتماعي، فرد بالقول اننا لم نفعل سوى رفع الغطاء عن مكونات المجتمع بكل ما تحمله من انقسامات، ولو اسقط نظام صدام حسين بأي طريقة اخرى، ومن قبل أي جهة اخرى لشاهدنا النتيجة نفسها. وهذا يعني انه قد أخذ بتفسير نظرية (قدر الطبخ السريع) وهي مبنية على استعارة شكل قدر الطبخ وعمله، اذ  لاتنضج او تتخمر اشكال التناقض الاثنية والطائفية على نحو خطر الا تحت غطاءه، وبمجرد رفع الغطاء  أو ازالته تنفجر التناقضات التي لابد من احتوائها من خلال شكل الدولة الجديد، وهذه نظرية تفسر اسباب توحد المجتمعات التعددية  بارادة السلطة الحديدة ثم تشظيها وتفككها بعد زوال هذه الارادة بفعل تدخل خارجي كما حدث في العراق او انفجار تناقضات الداخل كما حدث في يوغسلافيا.

لقد أخذ تصميم النظام الجديد بالتوافق بين المكونات لحل التناقض المتخمر منذ تأسيس الدولة العراقية في العام 1921، وجاءت النخب السياسية المحرومة من العمل في الداخل والمتوحدة مع مطالب التناقض المتخمر والناضج في منفاها القسري، وهو امر يمكن تلمسه من الاطلاع على محاضر مؤتمرات المعارضة العراقية  وطروحاتها قبل 2003، لتعطي مثل هذا التناقض الرابض تحت قدر الطبخ تعبيره السياسي وتمثيله من خلال صناديق الاقتراع، عبر تبني استراتيجيات تعبئة عرقية ودينية وطائفية للمكونات السكانية، الامر الذي وجه حدود الفصل بين المكونات الرئيسة في المجال السياسي وتمثيلها في هرم السلطة وقيادتها لخطوط التقسيم العرقية والدينية والطائفية التي بدأت تفرض نفسها في الثقافة والشعائر الدينية وجغرافيا المناطق النقية طائفيا التي ظهرت بعد التهجير القسري بين المدن العراقية.

– هل المصالحة الوطنية بين الجماعات العراقية مسألة سياسية أم هي مسألة مرتبطة بالفضاء الاقليمي او الدولي الفاعل في الازمة العراقية؟

لا يمكن ان نتحدث عن المحلي في الشرق الاوسط بمعزل عن تفاعله مع الاقليمي والدولي، لا سيما في ظل بيئة صراعية تتصف بتشنج واستقطابات متضادة. لقد تراجعت صورة الصراع التقليدي في الشرق الأوسط مفضية لاشكال جديدة من الصراع على الهوية. نظرة واحدة حول خريطة العراق توضح الصورة، شمالا صراع على الهوية بين الاكراد والاتراك، شرقا هناك فرس وعرب، ، جنوبا هناك سنة وشيعة لا سيما المنطقة الشرقية في السعودية حيث تربض المخاوف من انفصال الاقليم الشيعي الغني بالنفط ،  غربا هناك يهود وعرب.

جميع التشابكات والتعقيدات تتضافر مع ما يحدث في العراق كمدخلات فاعلة، فأولا اظهر ما يحدث في العراق ان  المنطقة تتحول على نحو تتحكم فيه متغيرات جديدة، فمنذ الان فأن الصراع المذهبي داخل الإسلام هو الذي سيحدد مستقبل المنطقة، انظر الى ايران، انها تتصرف كإمبراطورية بطموح اقليمي ودولي موظفة  الصراع داخل الإسلام على نحو يحقق  نفوذا منقطع النظير لم تنله منذ اندلاع ثورتها الإسلامية عام 1979، فالساحة خالية في ضوء سقوط اعداءها من طالبان في الشمال وحتى صدام حسين في الغرب، ما اتاح لها توسيع مساحة تأثيرها من افغانستان وباكستان وصولا الى لبنان، بل مصر والمغرب ايضا.  في مقابل ذلك تنتصب السعودية ومن خلفها انظمة عربية ترى في ايران تهديدا ماثلا وخطيرا أكثر من اسرائيل التي حاربتها  اكثر من نصف قرن. لقد تغيرت هوية الصراع من صراع عربي اسرائيلي الى صراع فارسي عربي في صورته المذهبية كصراع شيعي سني.

نحن بحاجة الى مصالحة مع التاريخ، مصالحة الذاكرة مع الحاضر، أرث البغض والكراهية مع حاضر التعايش، تاريخ المظالم والجرائم مع زمن الصفقات والتنازلات والعفو، المصالحة بين نسخ التاريخ الرسمية والمعارضة، والاتفاق على الحقيقة منذ وفاة النبي والخلاف العويص حول خلافته وانتهاءً باغتيال الحريري والخلاف الشائك حول الاطراف المتورطة بمقتله، نحن بحاجة ملحة الى توازن مصالح واعتراف متبادل بالآخر  والى انفتاح وتسامح  سيكون الوضع العراقي مختبره الاول، لذا يخطأ من يختصر موضوع المصالحة في العراق في تداعيها المحلي المنفصل عما حوله من مؤثرات.

– المصالحة داخل تكوينات المجتمع العراقي هل مصالحة بين ملل، نحل، طبقات، احزاب، طوائف، قوميات، اثنيات  جماعات سياسية، ماهي اطراف المصالحة الوطنية في العراق؟

اريد في البداية ان افرق بين مشروع المصالحة كما تطرحه الحكومة العراقية وهو برنامج سياسي يتعلق بصفقة بين اطراف داخل السلطة مع اطراف خارج السلطة، ويمكن اختصاره بالموقف من البعث، والمصالحة كمشروع يعيد التداخل بين المجتمع والدولة، ويلغي الفصل التعسفي بينهما، و يحاول أولا بناء فهم معقول لاراء العراقيين حول ما حدث أي يتعلق بمعالجة تركة الماضي الثقيلة وتصفية أرث الكراهية والظلم، و ثانيا التعامل ما يحدث الان، أي بناء فهم وصورة عن الحاضر بكل تعقيداته ومشاكله التي لابد من وضع حلول اتفاقية حولها، و ثالثا بناء تصور للمستقبل اذ لا بد من وضع استراتيجية للاجيال القادمة لتجنيبها اعادة تكرار قصتنا المملة والمثيرة للخيبات، فضلا عن تحديد الطبيعة الامثل لتفاعل الذاكرة الجمعية مع صور الماضي الآليمة، اذ تبرز صور العنف كعودة ما هو مكبوت على صعيد جماعي، واعادة انتاج بنية الماضي بأشكال جديدة فيعود لنا الجلاد دوما من النافذة بعد طرده من الباب.

ان البرنامج الحكومي للمصالحة غائب عن  تصور الدولة والمجتمع كطرفي مصالحة وعن هدف تحقيق تداخلهما، فهو برنامج يدور بالدرجة الاساس حول شرعية السلطة وطريقة تداولها والعلاقة بين نخبها، فيبرز اولا كهدف حكومي مرحلي وليس عملية اجتماعية  سياسية ثقافية مستمرة كما يجدر بالمصالحة ان تكون لتحقيق التداخل بين المجتمع والدولة، وهو لا يسعى لاقامة  علاقة بين تكوينات المجتمع ولايهتم لبنائها بين الافراد، بل يعني  بفئات  أو نخب خارج السلطة  ازاء  فئات او نخب تتولى السلطة، لهذا قلت انه يختصر قضية علاقة دولة بمجتمع بموضوع اجتثاث البعث وعودة البعثيين، وهو بذلك يعيد انتاج الفشل المرتبط بتأسيس الدولة العراقية منذ البداية، ويعكس الثقافة السياسية السائدة حول التركيز على متطلبات النخب السياسية وبحثها عن الشرعية واهمال المجتمع ومتطلباته. ما يزال مشروع الدولة برانيا وغير متداخلا مع المجتمع لذا سيحكم عليه بالفشل لامحالة.

– منذ العام 2003 لم يظهر المجال السياسي في المجتمع العراقي لوصفه الناظم او الحاكم للعلاقة فيه الافراد والجماعات واليوم اي استخدام وسائل النظم والتراتيب وتحديد الصلاحيات والتعامل حسب موازين القوى وانما ظهر مجال نقيض للدولة الحديثة (قرابي، طائفي) حاكم، ما هو تفسيركم لخفاء المجال السياسي؟

ان عدم نجاح المجال السياسي في فرض نموذج الدولة/الامة الاجباري وتحول العراق الى دولة منظمة سرية او دولة حزب او دولة عشيرة او دولة زعيم او  جمهورية خوف، فتح النافذة لاشباح ما قبل الدولة، وقلب العلاقة بين المجتمع والدولة، ففي حين ُيقيَم معيار استقلال الدولة في سيطرتها على المجتمع يصبح الاخير في حال ضعف الدولة وتداعيها اقوى من الدولة، فيضيق تحكم المجال السياسي الذي تتركز فيه جميع الانشطة السياسية المهمة لادارة العلاقة بين المجتمع والدولة، وهو المجال القائم على رموز واساطير ومفاهيم واجراءات جديدة مثل الامة والقومية والسيادة والشرعية والتمثيل الشعبي والاحزاب الخ.

ان صورة السياسيين يتوافدون على مرجع ديني مقدس للتغذي على ما يملكه من رأس مال رمزي، والتأمل في سوسيولوجيا المسرح الذي يصبح فيه الامن والاستقرارمرتهنا بالبنى التقليدية للمجتمع مثل العشيرة والتي تحرك الممثلين بخيوط بنى قرابية واضحة، والامثلة التي لاحصر لها على استخدام الالقاب العشائرية بالنسبة للسياسيين للدلالة على الانتماء القبلي ومن ثم الطائفي، لهي أدلة على أفلاس المجال السياسي في أخذ دوره كناظم للعلاقات داخل المجتمع وفشله في أنجاز “تخيل الامة” اذا ما استخدمنا تعبير بيندكيت اندرسون، اذ  لم تشكل حتى الان في هذا المجال قوة توحيدية سياسية من خلال  تخيلات الامة الجديدة مثل النظام التعليمي الموحد والتجنيد الالزامي وهما عماد بناء الدولة/الامة في العراق منذ فيصل الاول وحتى سقوط نظام صدام.

 مسؤولية فشل الدولة ونجاح تخيل الامة تظهر اذن  في صورة أفلاس المجال السياسي، و تفسر الرجوع الى نقيض الدولة او اشكال ما قبل الدولة، فالسياسة تكره الفراغ وفي حال زوال الدولة كما حدث في العراق 2003 او تعثرها وانهيارها كما حدث في الصومال وافغانستان اوتفككها كما حدث في يوغسلافيا، تزحف التشكيلات القرابية او التمثيلات الطائفية والعشائرية والعائلية لملء الفراغ، فتتراجع الدولة لتصبح شبه دولة أي انها قد تتمتع بسيادة قانونية وتحتل مقعدا كعضو في الامم المتحدة لكنها لاتنطوي على سيادة فعلية والفرق بين السيادة القانونية والفعلية يوضح حدود الانتقال الفعلي من البداوة الى مجتمع الدولة في كثير من دول المنطقة التي حولت العصبيات القبيلة الى دويلات وأمارات ومشيخات هي اشباه دول لا اكثر.

– مشروع المصالحة ما بعد 2003 كان لابد ان تقوم على اعادة انتاج المجتمع، الدولة، الثقافة وفق تنظيم قانوني يضبط توزيع المصالح المادية والتي تثير التنازع والصراع بين الجماعات العراقية، هل حقق مشروع المصالحة الوطنية العراقية هذه الاشكاليات؟

ان سيطرة الدولة على الثروة مكنها من التحلل من دعم المجتمع كمصدر للشرعية فمنذ أن اصبحت دولة ريعية باتت تتحكم بمفاصل المجتمع وتطوعه لمطامح النخب السياسية وايديولوجياتها الحاكمة، ما فسح المجال للمغامرات السياسية والحروب العبثية وتبديد الثروات، وزودها بالقدرة على اعادة تشكيل الطبقات لاسيما الطبقة الوسطى وطبقة رجال الاعمال، فأصبحت هذه الطبقات تابعة للدولة او جزءً من النخب القابضة على السلطة، فذابت  بذلك رقابة المجتمع المدني على الدولة والتي تشكل هذه الطبقات جزءً منه، أي ان المدني اصبح تابعا للسياسي وليس مستقلا عنه وخاضعا لرقابته كما هو معروف لبناء ديمقراطية ناجحة.

بعد 9 نيسان تغيرالاطار لكن الصورة بقيت كما هي، اذ تم اعادة انتاج الفشل من خلال تصميم نظام سياسي غير واضح الملامح وشكل دولة غير محدد، يتم فيه توزيع الثروات بين المجموعات الكبرى، لكنه في الحقيقة نظام لتوزيع الفوائد وتركيز رؤوس الاموال بين ايدي نخب تدعي تمثيلها لهذه المجموعات، وفي وقت يتطلب اعادة اعمار البلاد ما لايقل عن 100 مليار دولار ركن السياسيون الى الكسل واللامبالاة مع تدفق الريوع النفطية وارتفاع الاسعار، ما فسح مجالا لالوان الفساد والتلاعب بالاموال العامة، واهمالا لخيار تنويع الاقتصاد وتحقيق تنمية حقيقية، وجاءت الازمة الاقتصادية العالمية وتأثيرها على اسعار النفط لتضع السياسيين امام شر اعمالهم. لذا نجد ان من الاجدى مواكبة الدعوة لتوزيع نسبة من الثروة النفطية على الافراد بوصفهم مواطنين في مجتمع الدولة، وهو ما يقطع الطريق امام الفساد والتلاعب، ويرفع من درجة الاحساس بالملكية العامة للثروة من قبل المواطن، ويرفع من مسؤولية السياسي، ويمنع اي اساءة لاستخدام السلطة ونمو الفساد والاستبداد وتركز الثروة في يد نخبة ضيقة. واعتقد ان مشروع المصالحة ينبغي ان يهتدي بهذا الاقتراح للتخفيف من حدة الصراع بين النخب على توزيع المنافع المادية والذي يصور على نحو مخالف للحقيقة وكأنه صراع بين الجماعات.

– مأزق الدولة السياسية في العراق سببه عدم بناء (المواطنة، الحرية الفردية، ومشاركة السكان في تقرير مصير المجتمع) وانما قامت على قيم تتعارض مع هذه المبادئ دستوريا وسياسيا حيث نرى التوترات بين الجماعات الوطنية العراقية اخذ صفة مستديمة ما هي الافاق المستقبلية لمشروع المصالحة الوطنية؟

اعتقد ان هناك اربع مخاطر تحدد آفاق مشروع المصالحة الوطنية في العراق خلال السنوات المقبلة الاول عرقي ويتعلق بخطر الصراع العربي الكردي في مدن التماس مثل كركوك والموصل وديالى وصلاح الدين، وهو تحد له انعكاساته الاقليمية في كل من سوريا وتركيا وايران، والحل السياسي له يتمثل بالوصول الى الاتفاق على شكل الدولة، هل ستكون دولة موحدة بمركز قوي او فدرالية وما هو نوع الفدرالية وتوزيع الصلاحيات بين المركز والاطراف وهو ما لم يتم التوصل الى  اتفاق بشأنه حتى هذه اللحظة.

الثاني طائفي ويتعلق باحتمالات العودة الى الحرب الطائفية لا سيما مع كون الارض العراقية ميدانا للنزال بين اطراف اقليمية فهناك من جهة ايران التي تريد نشر التشيع كحصان طروادة في المنطقة لتغذية احلامها الامبراطورية القومية وهناك من جهة ثانية السعودية التي هي في موقف دفاعي عن نسخة الاسلام الرسمية كما حددتها في الوهابية وما خرج من معطفها من حركات متشددة،  المصالحة بين نسخ متعددة من الاسلام وحق كل منها في الوجود والحياة هو الحل للحيلولة دون انتشار فتنة كبرى في المنطقة، سيكون العراق مختبرها الدائم.

الثالث اقتصادي يتعلق بالتنمية التي دفنت في حفرة الامن، لا سيما مع وجود ارقام بالملايين تتضمن الايتام الذين اذا لم تحل مشاكلهم قد نجد انفسنا امام ظاهرة المقاتلين الاطفال كما هو حال دول افريقية عديدة، وتتضمن الارامل وقد شاهدنا كيف حورت القاعدة تكتيكاتها لتستفيد من هذه الشريحة وتتغذي على بؤسها، ومشكلة البطالة، حيث توفر جيوش العاطلين رأس مال بشري جاهز للتجنيد في الميليشيات والجماعات المسلحة والعصابات الاجرامية، اما الرابع فهو سياسي يتعلق ببناء سياسات للهوية تصالح بين المجتمع والدولة، وتصوغ اتفاقا بين الجماعات يصبح مثل عقد اجتماعي للتعايش، فالمصالحة ليست هدفا مرحليا بمقدار ما هي عملية اجتماعية وثقافية وسياسية متواصلة، اذ انها لا تمثل برنامجا سياسيا او انتخابيا بمقدار ما ترمي الى تطبيق العدالة والتقريب بين وجهات النظر…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *