نوفمبر 21, 2024
46

اسم الكاتب : د. كاظم حبيب

الفهرست   2

المدخل: التباين في وجهات نظر المناهضين لثورة تموز 1958  3

من هم الذين يجدون في العهد الملكي دولة ديمقراطية حرَّةً؟  4

منجزات العهد الملكي في العراق   6

أخفاقات العهد الملكي ونضوج مستلزمات إسقاطه  11

العوامل المتنوعة والمتباينة في الموقف من النظام الملكي   21

انتفاضة الجيش وثورة الشعب في 14 تموز 1958  26

أهداف حركة الضباط الأحرار  27

أهداف جبهة الاتحاد الوطني   27

مسيرة ثورة 14 تموز 1958  28

فترة الانتكاسة والسقوط للعهد الجمهوري الأول  31

الهوامش والمصادر

المدخل: التباين في وجهات نظر المناهضين لثورة تموز 1958

من يتابع مواقع الاتصال الاجتماعي، لاسيما الفيسبوك، سيجد أمامه مجموعة من التعليقات السياسية النقدية التي تعتبر العهد الملكي وكأنه كان مدنياً حراً وديمقراطياً، حيث تمتع الشعب العراقي بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه واتجاهاته الفكرية والسياسية بالحياة الحرة والكريمة، وأن النظام الملكي قد حقق لهذا الشعب الكثير من الحقوق والمصالح الأساسية والحيوية. وعلى أساس هذا التصور يرى هذا البعض غير القليل بأن إسقاطه عبر انقلاب عسكري أو انتفاضة عسكرية كان عملاً غير مبرر وغير سليم وأساء للشعب. وإن معاناة الشعب طيلة العقود المنصرمة وما تعرض له من كوارث ومآسي ومحن كانت كلها بسبب لذلك الانقلاب. وبالتالي فهي لا تكف عن شنّ حملات ظالمة وهستيرية ضد منجزات ثورة تموز في سنواتها الأولى. لاسيما وأن البعض منهم يريد أن يتجاوز تلك القوى الداخلية والخارجية التي تآمرت على منجزات الثورة ونظمت وقادت ونفذت انقلاب شباط الدموي عام 1963 وما تبعه من انقلابات عسكرية ونظم دكتاتورية وحروب داخلية وخارجية مدمرة وإبادات جماعية واحتلال وحصار دولي واجتياح وغزو وسبي واغتصاب وبيع النساء في سوق النخاسة “الإسلامي”!!

أُقدر بأن الناس الذين يتحدثون بهذه الوجهة لا ينطلقون من منطلق واحد أو رؤية واحدة ولا هدف واحد، بل هناك تمايز كبير واحياناً تقاطع بينهم استناداً إلى عوامل كامنة وراء تلك المنطلقات والرؤى والأهداف. ومن هنا تنشأ الحاجة لمتابعة ومناقشة مثل هذه الرؤى الفكرية والسياسية المتباينة بكل هدوء وموضوعية، لكي نتبين ما فيها من صواب أو خطأ، لاسيما وأن هناك جمهرة تحمل مثل هذه الرؤى وهم من الشبيبة التي يفترض طرح الحقائق والوقائع أمام أبصارها وبصائرهم، لاسيما من قبل أولئك الذين عاشوا مرحلة الثورة والمراحل اللاحقة ولا زالوا على قيد الحياة، ومنهم الكاتب نفسه.

لا يجوز لمن يبحث في تلك الفترة أن يرمي تلك الأفكار والآراء والانتقادات، وهي متباينة حقاً في منطلقاتها وتفاصيلها وغاياتها، في سلة واحدة، وكأن ليس هناك من تفاوت كبير وكبير جداً أحياناً بين من يتحدث بها. لهذا فنحن بحاجة إلى حوارات هادئة ونقاشات فكرية وسياسية موضوعية، جدية ومسؤولة، ازاء هذا الاستنتاج الفكري والسياسي والاجتماعي.

الأسئلة التي تواجه من يكتب بهذا الموضوع كثيرة منها: من هم الذين أطلقوا هذا الاستنتاج السياسي أولاً، وما زالوا يرددونه؟ وما هي العوامل التي تدفع بهم إلى طرح مثل هذا الاستنتاج ثانياً؟ وما هي اهدافهم الفعلية ثالثاً؟ وهل كل ما يدَّعون به خاطئا أم أن فيه ما يدعونا إلى التفكير والتمييز بين بعض منطلقات القائلين به رابعاً؟ وأخيراً، كيف يمكن خوض المواجهة الفكرية والسياسية مع تلك المجموعات المتباينة القائلة بهذا الاستنتاج السياسي، وما هي التمييز العقلاني فيما بينها؟ يتطلب من الباحث العلمي الموضوعي أن يميز بحرص ومسؤولية عن فترتين متباينتين في مرحلة حكم الزعيم الركن حكم عبد الكريم قاسم، الفترة الأولى التي تمتد حتى عام 1960/1961، والفترة الثانية التي تمتد بين 1961 و1963، حيث وقع الانقلاب الفاشي الدموي الذي قاده تحالف سياسي-اجتماعي-اقتصادي رجعي وشوفيني، داخلي-إقليمي-دولي. ثم مدى مسؤولية عبد الكريم قاسم والقوى السياسية التي ساندت الحكم الجمهوري الأول في ذلك. 

في هذه الدراسة المكثفة أعبر عن قناعاتي الشخصية المستمدة لا من أيديولوجية معينة أو حنين ماضوي، بل من معايشتي الفعلية لواقع العراق حينذاك وقناعتي التامة حول مسائل مهمة مثل: كيف كنت أرى مجرى الأمور حينذاك؟ وما هي المشكلات التي كانت تحرك الناس لمعارضة النظام الملكي والتصدي للأوضاع البائسة التي كانت تعيش تحت وطأتها؟ وهل يختلف تقييمها اليوم عن الفترة التي سادت فها تلك الأوضاع؟

لقد كنت ومازلت أبذل الجهد لكي أكون موضوعياً وصادقاً مع نفسي ومع من يتابع قراءة المقالات والكتب التي انجزتها ونشرتها، وكذلك مع الأجيال القادمة، التي لها الحق في التعرف على الوقائع التاريخية بصدق ومسؤولية، وأرجو أن أوفق في هذا المسعى. وأشير هنا بأن ليس من حق أحدٍ أياً كان أن يدعي الصواب في كل ما يكتب، ولكن أؤكد بأن ما أكتبه وأسجله يعبر عن قناعتي الشخصية، القابلة للصواب والخطأ.

من هم الذين يجدون في العهد الملكي دولة ديمقراطية حرَّةً؟

عبر قراءاتي لآراء ومداخلات جمهرة من الناس الذين تبنوا الرأي القائل بـ “خطأ إسقاط النظام الملكي”، تبلورت لديَّ المجموعات التالية:

مجموعة من الشبيبة التي لم تتعرف على النظام الملكي، ولكنها تعيش مأساة النظام الحالي بكل موبقاته ونفاسده ومحاصصاته الطائفية، وكذلك تلك التي عرفت مأساة وكوارث وحروب النظام البعثي الاستبدادي الشمولي التوسعية، وسَمَعتْ من جهات بعينها رأيها في النظام الملكي وحسناته، وابتعدت كلية عن ذكر سوءاته، التي كانت سبب الإطاحة به.

مجموعة من الناس التي عاشت مرحلة النظام الملكي وعرفت سوءاته، ولكنها عند مقارنة ما حصل فيما بعد، لاسيما بعد انقلاب شباط/فبراير 1963، تجد إنه كان أفضل بكثير من العيش في ظل نظام البعث أو في ظل النظام الطائفي والفاسد الحالي.

مجموعة لبرالية فكرا ًوسياسة تؤيد النظام الملكي وتكتشف بعض سيئاته، ولكنه كان البداية للتطور المدني التي قطعها النظام الجمهوري اساساً من جهة، وهي في الغالب الأعم ذات منحى يميني وضد القوى اليسارية، ولاسيما ضد الحزب الشيوعي العراقي، وتوجه نيرانها ضدهم وكأنهم وحدهم كانوا وراء إسقاط النظام الملكي أو الخراب الذي حصل فيما بعد.

مجموعة من الناس من عائلات محافظة وميسورة تضررت من منجزات ثورة الرابع عشر من تموز 1958، منهم مثلاً كبار ملاكي الأراضي الزراعية والعقارات وكبار التجار الكومبرادور والمؤسسات والمرجعيات الدينية … الخ، وهؤلاء جميعاً يحنون للماضي ويكرهون الثورة التي أطاحت بحكمهم الملكي وامتيازاتهم ومصالحهم حينذاك. علماً بأن هؤلاء جميعاً قد استعادوا جل، بل وأكثر مما صادرته ثورة تموز 1958 من الأراضي التي كانت بحوزتهم أو السلطة والنفوذ والمال التي أخذت منهم وزادوا عليها نهباً وسلباً للمال العام ولحقوق الإنسان.

من هنا يمكن أن نتبين بأن العوامل المحركة للمجموعة الأولى هي غير العوامل المحركة للمجموعة الثانية ولا للثالثة ولا للرابعة، في حنينها للنظام الملكي أو في تقريعها للقوى التي قامت بثورة تموز 1958، أو تلك التي ساندتها وأيدت مجموعة من السياسات الديمقراطية التي مارستها حكومة الثورة، لاسيما في الفترة الأولى من قيامها.

منجزات العهد الملكي في العراق

تخلَّص العراق من ظلمتي النظام الاستعماري العثماني القديم والبالي، ظلمة التخلف والجهالة، وظلمة الفقر والقهر الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، الظلمة التي كانت معرقلة لكل نمو وتقدم وتطور، مع نهاية الحرب العالمية الأولى ووقوعه تحت احتلال الاستعمار البريطاني. مع بدء الاحتلال بذلت بريطانيا الجهود الكبيرة لجعل العراق جزءاً من التاج البريطاني ومشابها لوضع الهند حينذاك. لكنها فشلت في ذلك تحت ضغط الحركات الشعبية الثورية في سائر أنحاء العراق، ابتداءً من انتفاضة نجم البقال في النجف وثورة الشيخ محمود الحفيد في السليمانية في عام 1919، وأخيراً ثورة العشرين في عام 1920. فأجُبرت هذه الحركات السياسية والاجتماعية الدولة البريطانية على صرف النظر عن مشروعها الاستعماري الأول والإقرار بمطلب تأسيس الدولة العراقية الملكية في عام 1921، مع وضع البلاد تحت الانتداب البريطاني بقرار من مجلس عصبة الأمم.

مع تشكيل الدولة الجديدة وانتخاب الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على العراق، بدأت مرحلة جديدة في تاريخ العراق الحديث. إذ رغم علاقات الملك الحميمة مع بريطانيا ومراعاته لمصالحها وجوهر قراراتها، أبدى الملك فيصل الأول مسؤولية محسوبة إزاء المجتمع العراقي وتوجهاً علمانياً وعقلانياً في وضع أسس الدولة العراقية، مع السماح لبريطانيا بتحقيق مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية ووجودها المديد في البلاد عبر اتفاقيات ثنائية ملزمة. فتم منح شركات النفط الاحتكارية امتياز النفط لعقود عدة في عام 1924 مع حصة ضئيلة قدرها أربع شلنات ذهب عن كل برميل نفط خام يصدر إلى الخارج، ثم البدء مباشرة بمباحثات لوضع معاهدة تضمن الوجود العسكري المديد للقوات البريطانية في البلاد والتي وقع عليها في عام 1930، كما أُقر الدستور العراقي الديمقراطي في عام 1925، رغم تضمينه مادة تقول بأن “الإسلام دين الدولة الرسمي”، إذ أن الدولة لا دين لها باعتبارها شخصية معنوية، بل الدين للناس لا غير. وفي عام 1926 ألُحقت ولاية الموصل بأقضيتها العربية والكردية بالدولة العراقية مع تقديم التزامات من جانب الملك فيصل والحكومة العراقية بمنح الكرد بعضاً من حقوقهم المشروعة والمهمة، ولكنها لم تقترن بضمانات فعلية ملزمة.

 خلال الفترة الواقعة بين 1921 و1932 لعبت الحكومة البريطانية وممثليها في العراق دوراً أساسياً في تنصيب حكومات مؤيدة تماماً للوجود البريطاني والمصالح البريطانية في العراق، مما سعدها على أن تلعب دورها في بنية أعضاء مجلس النواب العراقي إلى حدود بعيدة. وخلال هذه الفترة جرت انتخابات المجلس النيابي وتعيين أعضاء مجلس الأعيان، حيث كانت تجري فيهما نقاشات حرة نسبياً، رغم أن الحكومة، ومعها بريطانيا، كان لها اليد الطولى في التأثير على جو الانتخابات والمرشحين وأعضاء المجلس. وكانت جريدة الوقائع العراقية الرسمية تنشر تفاصيل جلسات مجلس النواب ومناقشات النواب في مختلف المسائل المطروحة للنقاش والإقرار ويطلع عليها من يريد. وكانت بداية فعلية لبناء مجتمع مدني في بلد كانت أكثريته بدوية وفلاحية ويعم الجهل والأمية والفقر في البلاد. وفي هذه الفترة بالذات برزت صراعات متعددة الاتجاهات، كانت تتفاقم سنة بعد أخرى، لاسيما بعد إنهاء حالة الانتداب في عام 1932، وهي:

صراع حول دور بريطانيا في السياسات الداخلية والخارجية، إذ كان هناك من رفض هذا الدور ومن أيده ودافع عنه، والذي تجلى فيما بعد بانقسام النخبة السياسية إلى قوى معارضة، وأخرى تمسك بزمام الحكم.

صراع بين البداوة والحضر والتي كتب عنها الدكتور علي الوردي في العديد من مؤلفاته الاجتماعية المهمة، كما نجدها في كتب الدكاترة شاكر مصطفى سليم وإبراهيم الحديري وفالح عبد الجبار.

صراع حول المرأة وتعليمها ودورها في المجتمع وما أطلق عليه بـ “السفور” أي نزع المرأة عباءتها”، وتجلى ذلك في الصحافة العراقية، حيث انبرت هيئة تحرير جريدة “الصحيفة” في تكثيف الكتابة عن أهمية وضرورة تحرير المرأة من أغلالها وقيود المجتمع البالية، وكان الشاعر جميل صدقي الزهاوي واحداً من أبرز مؤيدي حرية المرأة.    

بعد مصادقة الحكومة العراقية على معاهدة 1930 وملاحقها العديدة التي واجهت معارضة شديدة من جانب القوى السياسية العراقية والتي قال عنها الشاعر معروف الرصافي (ت 1945): “والعهد بين الإنجليز وبيننا… كالعهد بين الشاة والغربال”[1] (الرسالة العراقية، انظر رشيد الخيون، نوري السعيد وبريطانيا).

وافقت بريطانيا على تقديم طلب بإنهاء حالة الانتداب البريطاني على العراق، حيث تم فعلاً في عام 1932، وبالتالي أصبح العراق من حيث المبدأ مستقلاً عن بريطانيا، ولكن لم يتخلص من وجودها ومستشاريها في كافة الوزارات العراقية وتدخلها في الكثير من الشؤون العراقية. وقد وصف الشاعر محمد باقر الشبيبي (ت 1960) الوضع حينذاك بقوله:

قالوا استقلت في البلاد حكومة        فعجبت إن قالوا ولم يتأكدوا

أحكومة والاستشـارة ربهـا             وحكومة فيهـا المشــاور يعبد

المستشار هـو الذي شـرب الطـلا     فعـلام يا هــذا الـوزير تعـربـد؟

ورغم ذلك تمتع العراق خلال هذه الفترة القصيرة بأجواء من الحرية والديمقراطية العامة والنسبية التي تناغمت مع حالة المجتمع الخارج لتوه من ظلمات الدولة العثمانية ومستوى الوعي السياسي والاجتماعي العام. وقد تمتع بهذه الحريات أتباع مختلف الديانات والمذاهب، كما أمكن تأسيس بعض الأحزاب والجمعيات وتوفرت حرية عقد الاجتماعات وتنظيم المظاهرات.

وقبل وفاة الملك فيصل الأول وقعت بعض الأحداث المرعبة، كما في معركة ديرابون على الحدود العراقية السورية أو مذبحة سهل سميل حيث قتل في المجزرتين 850 شخصاً من الآشوريين، وكان بالإمكان تفاديهما، على وفق تقدير الملك فيصل الأول أيضا في حديث له مع صحفي حين كان في سويسرا للمعالجة وقبل وفاته. وقد اشتكى الملك فيصل الأول من تفكك وتخلف المجتمع العراقي، وسعيه الجاد لبناء دولة حديثة و”أمة عراقية” من قوميات مختلفة ومجتمع مدني في نص له وجهه للشعب العراقي قبل وفاته.

توفي الملك فيصل الأول في عام 1933 وتسلم غازي الأول العرش من بعده، وتوّج ملكاً على العراق. في عهد الملك غازي برزت جملة من الإشكاليات السياسية والاجتماعية التي عصفت بالوضع السياسي، لاسيما وأن حياة التخلف والجهل والأمية والفقر والبطالة قد سادت البلاد ولم تعالج خلال الفترة القصيرة المنصرمة. كما برز تيار قومي يميني في الحكم توجه ضد يهود العراق وإزاحتهم من وظائف الدولة في العام 1935، إضافة إلى توجه ملموس صوب النازية الألمانية والدولة الهتلرية من قبل قوى “نادي المثنى بن حارث الشيباني” الذي تأسس في عام 1935.  وقبل ذاك أقرت قوانين الخبير البريطاني في شؤون الأرض ارنست داوسن الجائرة بحق الفلاحين والزراعة في عامي 1932/1933 والتي أطلق عليها بـ “قوانين تسوية حقوق ملكية الأراضي”، ثم استكملت بقوانين مجحفة أخرى في عام 1938، بعدها صدرت قوانين وتعديلات أخرى في عامي1951  و1952، حول بيع الأراضي الأميرية التابعة للدولة والتي كُرَّست، بموجب جميع تلك التشريعات، علاقات إنتاجية شبه إقطاعية استغلالية في الريف العراقي، حيث تم انتزاع الأراضي من أيدي الفلاحين الفقراء وصغار المنتجين ووضعت في أيدي شيوخ العشائر والمتعاقدين السابقين مع الحكم العثماني وتجار المدن والعائلات الميسورة. وعليه كرست سيطرة كبار ملاكي الأراضي الزراعية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية على الريف والفلاحين والإنتاج الزراعي والريع المنتج في الزراعة. فتفاقمت مشكلة الأرض والزراعة والفلاحين، كما تصاعدت رغبة التصنيع بعد بدء تصدير النفط في نفس العام، رغم قلة التصدير حينذاك وحصة العراق الضئيلة من إيراداته.

تبلورت في الثلاثينيات من القرن العشرين أحزاب جديدة منها الحزب الوطني (1929/1930) برئاسة محمد جعفر أبو التمن ، وجماعة الأهالي والإصلاح الشعبي (1933/1934) برئاسة مجموعة من العناصر الديمقراطية، منهم كامل الجادرجي وعبد الفتاح إبراهيم ومحمد حديد وحسين الجميل ..وغيرهم، والحزب الشيوعي العراقي (1934) بقيادة يوسف سلمان يوسف وعاصم فليح وقاسم حسن.. وغيرهم، ونادي المثنى بن حارث الشيباني القومي (1935). وخلال هذه الفترة بالذات وفي أعقاب عقد معاهدة 1930، انشطرت القوى السياسية في البلاد إلى مجموعتين، رغم التداخل بينهما، قوى الحكومة وقوى المعارضة السياسية، خاصة بعد أن وقعت أحداث مناهضة لسياسة الحكومة في عامي 1935/1936 في الفرات الأوسط وفي كردستان العراق، حيث استخدم العنف العسكري من جانب الحكومة في قمع تلك الحركات المطالبة بحقوق عادلة ومشروعة.

في عام 1936 حصل انقلاب بقيادة بكر صدقي العسكري-حكمت سليمان، وبتأييد جماعة الأهالي والحزب الوطني له، وكان أبو التمن قد التحق لتوه بالأهالي. وكان أول انقلاب عسكري غير واضح الاتجاه والأهداف في الدولة الحديثة. لم يستمر حكم الانقلابيين طويلا، حيث قتل قائد الانقلاب عام 1937 في مطار الموصل، فسقطت بموته حكومة الانقلاب. ولكن هذا الانقلاب أقلق القوات البريطانية كثيراً، لاسيما وإن نظام الانتداب لم يعد قائماً وأصبح العراق دولة مستقلة من الناحية الرسمية،

مع نهاية الانقلاب نشأت بدايات فعلية لأجواء غير ديمقراطية في نظام الحكم لاسيما إزاء قوى المعارضة في المجتمع بضغط متزايد من بريطانيا. فحصلت خلال الفترة بين 1936-1941 سلسلة من التشكيلات الوزارية المتعاقبة إذ كانت تحل بعد سنة أو أقل لتشكل حكومة جديدة لتطرح برنامجاً جديدا. وكان هذا أحد الأسباب التي تذرعت به الحكومات المتعاقبة لتشير إلى إنها عجزت عن تحقيق البرامج الاقتصادية الثلاثية التي كانت تضعها والتي أوقفتها مع بدء الحرب العالمة الثانية عام 1939. خلال هذه الفترة تنامي عدد العاطلين عن العمل وعدد الفقراء وتفاقمت أوضاع الفلاحين المعيشية، كما ازداد التجاوز على الحريات العامة بإصدار قوانين لا تنسجم مع مواد ومضامين الدستور، وكذلك تفاقمت تجاوزات دائرة التحقيقات الجنائية وشُعبها الخاصة في الألوية، إضافة إلى تصاعد تأثير ألمانيا النازية على القوميين العراقيين ومناهضة الوجود البريطاني في البلاد. قادت مجمل هذه الأوضاع إلى انقلاب عسكري قومي في الأول من أيار/مايس1941 قاده العقداء الأربعة العقيد صلاح الدين الصباغ ، العقيد كامل شبيب ، العقيد فهمي سعيد ، والعقيد محمود سلمان ، زائداً يونس السبعاوي ورشيد عالي الكيلاني ومحمد أمين الحسيني (مفتي القدس). وكان هؤلاء جميعاً قادة حزب الشعب القومي السري الذي تأسس في العام 1940/1941 بمبادرة من مفتي القدس. بعد مرور شهر واحد على الانقلاب، سقطت حكومة رشيد عالي الكيلاني تحت ضربات القوات البريطانية التي اشتبكت بمعارك ضارية مع قوات الجيش العراقي وانتصرت عليها. علماً بأن هذا الانقلاب القومي قد حاز على تأييد واسع من الشعب وغالبية القوى السياسية المعارضة، بما فيها قوى اليمين واليسار، ومنها الحزب الشيوعي العراقي. وبعد سقوط حكومة الانقلاب مباشرة، أي في يومي 1 و2/حزيران/يونيو 1941 وقعت عمليات قتل للمواطنين والمواطنات اليهود وحوادث سلب ونهب لدورهم ومحلات عملهم ودكاكينهم، أطلق عليها بـ “فاجعة الفرهود”. لقد شارك في هذه المجزرة، التي قتل فيها 144 مواطنة ومواطنا من يهود العراق، جمهرة من المناهضين لليهود وأفراد من الجيش العراقي المهزوم ومجموعة من فدائيي يونس السبعاوي وكثرة من سكان أطراف بغداد. علماً بأن فرهوداً آخر حدث قبل ذاك وفي شهر مايس نفسه ضد يهود البصرة ولكن لم يحث قتل فيه، ثم أعيدت أكثر المنهوبات إلى أصحابها من المواطنين اليهود. بعد هذه الأحداث تصاعد بشكل كبير دور وتأثير وتدخل بريطانيا في السياسات العراقية الداخلية والخارجية. وهي التي عمقت الخلاف بين قوى الحكومة وقوى المعارضة، ليس بسبب دور بريطانيا فحسب، بل وبسبب توجهات السياسة الداخلية للحكومات العراقية المتعاقبة.

في اعقاب الحرب العالمية الثانية وفي الأجواء الديمقراطية التي سادت العالم بعد انكسار القوى النازية والفاشية والعسكرية (دول المحور الثلاث، ألمانيا وإيطاليا واليابان) انتعشت الحياة السياسية في العراق، فتأسست بعض الأحزاب والجمعيات ومنعت أخرى وصدرت الصحف والمجلات وتنامت الحركات المطالبة بالإصلاح الاقتصادي والاجتماعي وتغيير شروط امتيازات النفط الممنوحة للشركات الأجنبية (شركة نفط العراق) وفي النصف الثاني من العقد الرابع تم تأسيس (شركتي نفط البصرة والموصل)، واتسعت المعارضة السياسية لمعاهدة 1930.

في عام 1947 بدأت مفاوضات الحكومة العراقية مع الحكومة البريطانية لوضع اتفاقية جديدة لتحل محل معاهدة 1948. وقد تم التوقيع على هذه الاتفاقية الجديدة في عام 1948 في مدينة بورتسموث من قبل صالح جبر رئيس الوزراء التي أطلق عليها “اتفاقية جبر-بيفن”، وهي التي كانت السبب وراء وثبة كانون الثاني عام 1948 التي استطاعت إلغاء الاتفاقية. ولكن الحركة الوطنية أصيبت بالتراجع وعاشت جزراً موجعاً حيث تفاقم القمع في البلاد وازداد عدد السجون وعدد السجناء في آن.

في عام 1952 وافقت شركات النفط الأجنبية على مبدأ المناصفة في إيرادات صادرات النفط العراقي، ابتداءً من عام 1950/1951، وبالتالي توفرت للعراق إمكانيات مالية أفضل، فشكلت الحكومة مجلس الإعمار ثم وزارة الإعمار، فأقدما خلال الفترة بين 1952-1958 إلى وضع برامج اقتصادية مهمة وواسعة، ولكن أغلب تلك المشاريع لم يرَ النور، بسبب كثرة التبدلات في التشكيلات الوزارية والوضع السياسي الملتهب وعجز الحكومة عن تأمين الحياة الحرة والديمقراطية. ومع ذلك أقيم عدد من المنشآت الصناعية الخفيفة والاستهلاكية في أنحاء مختلفة من البلاد. كما توفرت إمكانيات أفضل للزراعة حيث ارتفع عدد المضخات المائية المستخدمة على ضفاف الأنهر، وبعض المكائن الزراعية، ولكن بقي العمل اليدوي الفلاحي هو السائد في الزراعة العراقية والأساليب القديمة البالية في زراعة الأرض والإنتاج.

في عامي 1952 و1956 حصلت انتفاضتان شعبيتان ضد السياسات الداخلية والخارجية في الأولى توجه ضد سياسات الحكومة وضد مشروع الشرق الأوسط الأمريكي، والثانية ضد موقف الحكومة العراقية من تأميم قناة السويس وعدم شجبها للعدوان الثلاثي على مصر تحديداً. حيث استخدم نظام الحكم الحديد والنار ضد المتظاهرين فسقط بعض الشهداء في الانتفاضتين. في عام 1957 أقيم الاتحاد الهاشمي بين العراق والأردن وشكلت في العام 1958 أول حكومة مشتركة لهذا الاتحاد دون ان يُسأل الشعب العراقي ويؤخذ رأيه بذلك!

والخلاصة، يمكن تقسيم العهد الملكي إلى فترتين: تمتد الأولى من عام 1921 وتنتهي مع نهاية الانتداب على العراق  عام 1932، حيث لعب الملك فيصل الأول دوراً مهماً في التأثير على سياسات الحكومة العراقية ومنع تدهور الحريات العامة. ومن أبرز منجزات العهد الملكي في هذه الفترة هو الاتفاق على إلحاق الموصل بالعراق بدلاً من جعلها جزءاً من الدولة التركية الجديدة، والبدء ببناء المجتمع المدني وفسح المجال أمام الحريات العامة والبدء بنشر التعليم الحديث وبناء المدارس للأولاد والبنات، إذ توفرت فرص لا بأس بها لدخول أبناء وبنات العائلات المتوسطة والضعيفة فيها وبدء تقلص عدد سكان البادية لصالح سكان الريف والزراعة والتوطن. أما في الفترة الثانية فقد بدأ فيها التراجع التدريجي عن الحريات العامة وتنامى التشدد وتبلور في بروز معارضة سياسية منذ عام 1932/1933، لاسيما بعد وقوع الانقلابين العسكريين، واستمر حتى سقوط النظام الملكي. وفي هذه الفترة يمكن القول باحتدام الصراعات السابقة وتبلورها أكثر فأكثر. ومع ذلك فقد اتسع التعليم ونشأت صناعة وطنية خفيفة في القطاعين العام والخاص إضافة إلى قطاع مختلط. ولعب مجلس ووزارة الإعمار والمصرف الصناعي دوراً ملموساً في هذا التوجه، كما تم تأسيس المزيد من المدارس والكليات والمعاهد التربوية والمهنية وإرسال البعثات إلى الخارج للدراسة. وتقلص سكان البادية لصالح سكان الريف، وكذلك انتقال الكثير من سكان الريف إلى المدن وزيادة الولادات وتقلص وفيات الأطفال، بحيث حصل في نهاية هذه الفترة تغيراً ملموساً في ميزان القوى السكانية لصالح الحضر، إضافة إلى تحسن نسبي في الهرم السكاني نتيجة تقلص الوفيات بين الأطفال. لم تكن في بداية هذا العهد أجواء مناهضة لأتباع الديانات الأخرى والمذاهب، أو ضد الاتجاهات الفكرية والسياسية الأخرى، لاسيما في عهد الملك فيصل الأول، في حين برزت ظاهرة التمييز في الفترة الثانية. وحين برزت توجهت صوب ثلاث جماعات: ضد الشعب الكردي واليهود والشيوعيين واليساريين عموما.

لقد أشرنا في هذه الحلقة إلى أهم وأبرز منجزات العهد الملكي وجوانبه الإيجابية، وستتضمن الحلقة الثالثة الجوانب السلبية أو الإخفاقات الفعلية لنظام الحكم الملكي والتي قادت إلى بروز الشروط الموضوعية والذاتية لحركة الضباط الأحرار في الانقضاض على الحكم عسكرياً وإسقاطه، وخروج الشعب كله ليعلن ثورته في صبيحة اليوم ذاته في 14 تموز 1958.   

أخفاقات العهد الملكي ونضوج مستلزمات إسقاطه

اقترن تشكيل الدولة العراقية بسبعة حقائق موضوعية هي:

1) خضوع العراق للهيمنة البريطانية وتحت انتدابها المباشر وإشرافها الكامل على سياساته الداخلية والخارجية، حتى بعد إلغاء الانتداب ودخول العراق عضواً في عصبة الأمم في عام 1932، لما فيه مصلحة بريطانيا إلى أبعد الحدود الممكنة. وقد استمرت هذه الحالة حتى سقوط هذا النظام الملكي عام 1958. وتشير الكثير من المصادر إلى أن انتحار عبد المحسن السعدون، رئيس مجلس وزراء العراق عام 1929، جاء بسبب التدخل الفظ لبريطانيا في الشؤون العراقية الداخلية ورفضها تحقيق مطالب الشعب العادلة والذي قال في رسالة لابنه قبل انتحاره، “الشعب يريد والإنجليز لا يوافقون”.[2] (قارن: بدر خالد البدر، مع قافلة الحياة، 1987، الكويت).   

2) تولي ضباط عراقيون من ذوي التربية العسكرية والسياسية العثمانية، ومن جماعات مدنية خضع بعضهم الكثير لإرادة بريطانيا، كما في سلوك رئيس أول حكومة في عهد الاحتلال المباشر عبد الرحمن النقيب وأفراد طاقمه. فهذه المجموعة تولت قيادة الدولة العراقية منذ تأسيسها وطبعوا البلاد بذهنيتهم العسكرية وتربيتهم العثمانية والروح القومية والدينية المتزمتة.

3) تم اختيار الأمير فيصل ملكاً على العراق، وهو أبن الجزيرة العربية، بدلاً من شخصية عراقية، وكان هناك أكثر من مرشح للتاج، ولكن الأمير فيصل كان صديقاً مخلصاً لبريطانيا وللشخصية المميزة واللاعبة الكبيرة في السياسة العراقية مس جيرترود بيل، بعد أن عجز الفرنسيون تنصيبه ملكاً على سوريا وأجبر على مغادرتها.

4) وكانت النخبة السياسية العراقية خلال فترة التأسيس خاضعة للابتزاز البريطاني، بسبب رغبتها في تأمين إلحاق ولاية الموصل بالعراق ولدور بريطانيا في اتخاذ مثل هذا القرار في مجلس عصبة الأمم، لاسيما إصرار تركيا على التمسك بها.

5) وكان المجتمع العراقي الخارج لتوه من الظلمات إلى نور الحضارة الحديثة: كما عبر عن ذلك الدكتور فالح مهدي في كتابه الموسوم “مقالة في السفالة: عن حاضر العراق”،[3] ما يزال يعيش فترة التخلف والأمية والجهل والمرض (الثلاثي المرعب)، كما كانت النسبة العظمى من الشعب تعيش حالة البداوة والفلاحة، إضافة إلى الفقر والفاقة العامة. وكان المجتمع العراقي يتكون قومياً من العرب والكرد والكلدان والسريان والتركمان والفرس، ومن ثم الآشوريين، ومن أديان ومذاهب عديدة. ومن هنا جاءت شكوى فيصل الأول الذي صعق لتفكك المجتمع وصراعاته الطائفية، بسبب سياسات تركيا وإيران وصراعاتها في الساحة السياسية والاجتماعية العراقية قبل ذاك، إضافة إلى التخلف والجهل. 

6) وكانت العلاقات الإنتاجية السائدة فيه تتراوح بين الأبوية وشبه الإقطاعية بحكم العلاقة بين البدو والفلاحين من جهة، وشيوخ العشائر وكبار الملاكين من جهة أخرى، وصدور نظام العشائر الأول في فترة الاحتلال البريطاني عام 1916، إضافة إلى وقوف المؤسسات والمرجعيات الدينية إلى جانب شيوخ العشائر وكبار الملاكين والعائلات الميسورة.

7) الضغوط البريطانية المشتدة قبل وبعد تأسيس الدولة العراقية من أجل ضمان مصالحها وتكريس وجودها وهيمنتها بأقصى وأطول فترة ممكنة.

كل ذلك أدى إلى حقيقة وجود علاقات شبه إقطاعية شبه استعمارية في البلاد وبروز مقاومة وطنية متنامية ضد الهيمنة السياسات الحكومية الملكية وضد تكريس تلك المصالح والوجود الأجنبي.

من يطلع على تفاصيل الامتياز النفطي الممنوح للشركات الأجنبية عام 1924، أو على نصوص معاهدة 1930 وملاحقها السرية، لاسيما المالية والإدارية والعدلية والعسكرية، يدرك فحوى الاستعمار وعدم الإنصاف وطبيعة الصراعات التي نشبت حينذاك بين أطراف عراقية متشابكة فيما بينها ولا يمكن وضعها في بداية الأمر في قطبين مختلفين، إذ إن الاختلاف والاستقطاب بدأ يتبلور ويتفاقم بين قوى حاكمة وأخرى معارضة في الثلاثينيات وما بعده من القرن الفائت. وفي عام 1925 أقر دستور ديمقراطي متقدم كثيراً جداً قياساً لواقع المجتمع العراقي وبنيته الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والسياسية المتخلفة، وكان مكسباً مهماً، رغم الخلل في اعتبار الإسلام دين الدولة، في حين إن الدولة لا دين ولا مذهب لها باعتبارها شخصية معنوية، بل الدين للناس، وهم يؤمنون بديانات ومذاهب عديدة. ورغم أن الدستور ينص على إن الملك مصون غير مسؤول، وعلى الفصل بين السلطات الثلاث، فقد مُنح الملك حق تسمية رئيس الوزراء، وحل مجلس الوزراء، وحل مجلس النواب، والمصادقة على القوانين والقرارات.. التي شكلت خللاً في مضمون الدستور الديمقراطي وفتحت باباً واسعة لهيمنة الملك والسلطة التنفيذية على السلطات الثلاث والتي برزت بشكل صارخ في الفترة الثانية من العهد الملكي. 

برز أول إخفاق صاحب سياسات الحكومات العراقية في موقف النخبة الحاكمة السلبي من تنفيذ مطالب الشعب الكردي التي وردت كحقوق مشروعة وعادلة تضمُن الدولة العراقية تنفيذها، على وفق اتفاق تم بشأنها قبل إلحاق ولاية الموصل بالعراق بين عصبة الأمم والملك فيصل الأول والحكومة في عام 1925/1926. علماً بأن عصبة الأمم هي الأخرى قد ابتلعت الموقف الذي ورد في معاهدة سيفر بحق الكرد في إقامة حكم ذاتي في شمال كردستان (كردستان تركيا) ليتطور إلى دولة مستقلة يُمكن لكردستان الجنوبية (كردستان العراق) أن تلتحق بها. وقد تسبب كل ذلك في نشوء تحركات وعمليات مختلفة تطالب بالحقوق المشروعة من جانب الكرد قادت إلى قتال وسقوط ضحايا كثيرة. ونجم موقف النخبة الحاكمة العراقية من طبيعة التربية القومية العثمانية الشوفينية التي تعلمت بها وتثقفت عليها، والقائمة على كره الكرد واعتبارهم “ترك الجبال”، وليسوا شعباً بذاته له حقوقه المشروعة، كما له واجباته كباقي شعوب العالم.

ثم برز الإخفاق الثاني في عام 1933 في نفاد صبر الحكومة العراقية في مواجهة مطالب الآشوريين العديدة والصعبة التحقيق، الذين استوطنوا العراق بعد خروجهم من مناطق سكناهم في حكاري، جنوب شرق تركيا، أثناء الحرب العالمية الأولى، واستخدام السلاح في موقع ديرابون على الحدود العراقية السورية أولاً، وفي سهل سميل في لواء الموصل ثانياً، وحصول مجزرة بشرية ضدهم، كان يمكن تجنبها بالصبر والأناة والحكمة الضرورية.

وفي عام 1935/1936 انطلقت حركات كردية في كردستان العراق وأخرى فلاحية في الفرات الأوسط والأدنى مناهضة لسياسات الحكومة، الأولى مطالبة بحقوق عادلة ومشروعة مهضومة، والثانية لأربعة أسباب جوهرية: قانون تسوية حقوق ملكية الأراضي الجائر بحق الفلاحين، ورفض الفلاحين دفع الضريبة الاستهلاكية على الإنتاج الزراعي، إذ كانت ثقيلة على الفلاحين دون الملاكين والسراكيل، وضد التجنيد الإجباري للشبيبة الفلاحية، إذ كان الفلاحيون يستخدمون أبناؤهم في الزراعة، إضافة إلى تفاقم تهريب السلع إلى دول الجوار التي كانت ترفع من أسعار المتبقي منها في الداخل وترهق الفلاحين. (قارن: م.م ومیض سرحان ذیاب الربيعي، حركة العشائر في الفرات الاوسط والادنى، 1935-1936، معھد الإدارة في الرصافة/ هيئة التعليم التقني). وقد واجهت الحكومة هذه الحركات بالعنف واستخدام السلاح وأرسلت الجيش العراقي لضرب الكرد وقصف مواقع الفلاحين، إذ اعتبرتها الحكومة تمرداً يجب فظه بالقوة العسكرية. وكان الموقف مناهضاً للكرد والفلاحين ولصالح كبار الملاكين وكانت له عواقب وتبعات سلبية على المجتمع والعلاقة مع الدولة.

لقد أدت سياسات الحكومات المتعاقبة، الداخلية ومواقفها لصالح السياسات البريطانية، إلى بروز قوى وأحزاب سياسية معارضة لقوى حاكمة، لكنها كانت تشارك معها أحياناً في تشكيل الحكومات. وظهرت اتجاهات قومية يمينية مناهضة ليهود العراق، إذ فُصل المئات من الموظفين اليهود من بعض الوزارات وإحلال مسلمين مكانهم، لاسيما في فترة وزارة أرشد العمري في عام 1934/1935، كما استمر تنامي عدد العاطلين عن العمل وعدم تنفيذ مشاريع موعودة، إضافة إلى بروز اتجاه قومي يميني شوفيني في الشارع العراقي، لاسيما في نهج نادي المثنى بن حارث الشيباني القومي اليميني وفي الموقف من يهود العراق، وتنامي التعاون بين النادي وأعضاءه ومؤيديه مع الدولة الألمانية النازية المناهضة لليهود والشيوعيين ومشاركة فعالة من قنصل ألمانيا في العراق حينذاك الدكتور فرتز گروبه.

تبلورت وبرزت اتجاهات المعارضة السياسية في انقلاب عسكري عام 1936 مناهض للهيمنة البريطانية وسياسات الحكومة من مواقع الوسط واليسار، وبعض قوى اليمين أيضا، بقيادة بكر صدقي العسكري، الذي اغتيل عام 1937 وأعلن بموته فشل الانقلاب.

وفي عام 1938 أصدرت الحكومة العراقية ذيل قانون العقوبات البغدادي رقم (51) لسنة 1938، حيث نصت الفقرة الاولى من المادة الاولى” يعاقب بالإشغال أو الحبس مدة لا تزيد على سبع سنين أو الغرامة، أو كليهما، كل من حبذ أو روَّج بإحدى وسائل النشر المنصوص عليها في المادة 77 من هذا القانون أياً من المذاهب الاشتراكية أو البلشفية أو الفوضوية أو الإباحية”. كما نص على الحكم بالإعدام على كل عسكري ينتمي للحزب الشيوعي العراقي. وهي نصوص مخالفة لبنود ومضامين الدستور العراقي التي تمنح الإنسان حرية العقيدة والفكر وحرية الرأي، وقد وضع وأقر هذا القانون بضغط مباشر من بريطانيا وبمبادرة نوري السعيد خشية تنامي الفكر اليساري.

اشتد الخلاف بين الحكومات العراقية المتعاقبة وقوى المعارضة وتبلور في انقلاب جديد قاده أربعة من العقداء العسكريين القوميين العرب ومن سياسيين من أمثال يونس السبعاوي ورشيد عالي الگيلاني والحاج أمين الحسيني، مفتي القدس، ونادي المثنى بن حارث الشيباني و”حزب الشعب” القومي السري حينذاك. وتم هذا الانقلاب بدعم فعلي من المانيا الهتلرية ومن قوى مناهضة للهيمنة البريطانية. وقد حظي بتأييد واسع من جميع الأحزاب السياسية العراقية المعارضة. وقد جوبه بقوة وبطش من جانب القوات المسلحة البريطانية وانتهى بفشله وهروب قادة الانقلاب المدنيين والعسكريين إلى خارج العراق. وحين أُعيد العسكريون إلى العراق، حوكموا بسرعة وأعدموا. لقد كانت هذه أول أحكام بالإعدام على عناصر من قوى سياسية في العرق، مما أوجد شرخاً جديداً في العملية السياسية. كما أعدم في عام 1946 أربعة ضباط كرد عراقيين بسبب مشاركتهم في قوات جمهورية مهاباد الكردية التي أسست في عام 1946 في كردستان إيران، وبعد أن سلموا أنفسهم ووعدوا بمحاكمة عادلة تم الحكم عليهم بالإعدام ونفذ بهم الحكم فعلاً. وبذلك اتسع الشرخ وتعمق بين الحركة الكردية والحكومات العراقية المتعاقبة وتبخرت ثقتهم بالنخبة الحاكمة.

إن نشوء أوضاع ديمقراطية وحريات بسيطة في أعقاب سقوط دول المحور في الحرب العالمية الثانية في العراق دفع جمهرة من المثقفين والنشطاء السياسيين إلى تقديم طلبات تأسيس أحزاب سياسية وجمعيات مدنية، وقد منحت بعض الأحزاب السياسية، مثل الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الاستقلال، وحزب الأحرار، والاتحاد الوطني، وحزب الشعب،[4] في حين حرم حزب التحرر الوطني من العمل الشرعي، وهو قريب من الفكر اليساري والحزب الشيوعي. كما منحت عصبة مكافحة الصهيونية إجازة العمل العلني، ثم سحبت بذرائع واهية ونذير شؤم ضد يهود العراق وصدرت بعض الأحكام بحق قياديي هذه المنظمة الديمقراطية.[5] إن الخشية من حصول مدّْ ثوري يساري في البلاد دفعت الحكومة إلى إجراءات غير ديمقراطية استهدفت تقليص الحريات العامة والحياة الديمقراطية البسيطة. فعمدت إلى توجيه أول ضربة قاسية لمظاهرة 28 حزيران في بغداد حيث سقط فيها أول شهيد عراقي شيوعي هو شاؤول طويق، ثم تلتها حوادث مروعة أخرى منها: قمع إضراب عمال النفط في كركوك بالحديد والنار وحصلت مجزرة كاورباغي في تموز 1946 حيث راح ضحيتها 16 عاملاً و30 من العمال الجرحى، ثم وقعت مذابح أخرى مماثلة في قاعدة الحبانية وميناء البصرة وعمال سكك الحديد. وفي هذه الأجواء عمدت النخبة الحاكمة إلى بدء مفاوضات مع الحكومة البريطانية لاستبدال معاهدة 1930 بمعاهدة جديدة بسبب رفض الشعب للأولى، ولكن الشعب كان يرفض مثل تلك لمعاهدات عموماً. فوقَّعَ صالح جبر معاهدة بورتسموث في 15 كانون الثاني 1948، مما أدى إلى نهوض مظاهرات عارمة في كل أنحاء العراق، فكانت وثبة كانون التي سقط فيها شهداء واعتقال عدد كبير من المتظاهرين وتقديمهم للمحاكمة وصدور أحكام قاسية بحقهم من جهة، ولكنها استطاعت إلغاء هذه المعاهدة وسقوط وزارة صالح جبر من جهة أخرى. وفي ذات الوقت حصل جزر شديد في الحركة الديمقراطية العراقية، مما شجع الحكومة وبدفع مكثف وشديد من بريطانيا إلى إعدام خمسة من قادة الحزب الشيوعي العراقي الذين اعتقلوا خلال الفترة 1947-1949، وهم ثلاثة من أعضاء المكتب السياسي يوسف سلمان يوسف وزكي بسيم وحسين محمد الشبيبي، إضافة إلى إعدام عضوين في اللجنة المركزية للحزب هما ساسون دلال ويهودا صديق يهودا.     

مع نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي تبلور صراع جديد على الصعيد العالمي بين الاتحاد السوفييتي ومجموعة من الديمقراطيات الشعبية في أوروبا وفي الصين، وبين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة. وأصبح العراق جزءاً من الحرب الباردة التي تفاقمت سنة بعد أخرى بين المعسكرين ووقف إلى جانب المعسكر الغربي. ومن هنا بدأت محاولات جادة لجعل العراق عضواً في أحلاف عسكرية تقودها بريطانيا أو الولايات المتحدة تحت عنوان “الدفاع المشترك”، في حين كانت القوى السياسية المعارضة تقف ضد توريط العراق في هذه الأحلاف وإلى جانب الحياد الإيجابي الذي بدأ يتبلور من مجموعة دول نامية في القارات الثلاث. كما واجه المجتمع مشكلات عديدة كالبطالة والفقر وغياب الحريات وامتلاء السجون بالمعتقلين السياسيين والتعذيب الشرس في مديرية التحقيقات الجنائية والشُعب الأمنية في مدن الألوية. لهذا تجلت مطالب الشعب والمتظاهرين في عام 1952 بعدد من المطالب الملحة منها: إلغاء معاهدة 1930، تشكيل حكومة ديمقراطية، وتعديل قانون الانتخابات، وإلغاء الأحكام العرفية، وإعادة حرية التنظيم السياسي والنقابي.. إلخ. ولما يئست القوى السياسية من اتخاذ أي إجراء سليم، ولم تنفع اعتصامات وإضرابات طلبة الكليات في بغداد والمظاهرات التي امتدت إلى سائر أنحاء العراق في لجم الحكومة عن إجراءاتها غير الديمقراطية طيلة الفترة الواقعة بين بداية المظاهرات وتشكيل الوزارة الجديدة بعد استقالة مصطفى العمري وتسليم السلطة لرئيس أركان الجيش الفريق الأول نور الدين محمود. كما لم تستطع الحكومة إيقاف المظاهرات مما جعلها تعمد إلى إعلان الأحكام العرفية ومنع التجول في البلاد وإنزال قوات الشرطة والشرطة السياسة وقوات الجيش إلى الشوارع واستخدام العنف ضد المتظاهرين، مما أدى إلى سقوط ضحايا قتلى وجرحى. وفي مواجهة هذه الانتفاضة استخدمت القوات المسلحة الرصاص الحي، ثم استخدمت لأول مرة الغاز المسيل للدموع وإلى شن حملة اعتقالات واسعة بين صفوف المتظاهرين أو اعتقالهم ليلاً من بيوتهم، مما أدى إلى أن يكون يوم 23 تشرين الثاني اليوم الأخير في انتفاضة تشرين الثاني 1952. ومن الجدير بالذكر إن أحد الساخرين أرسل برقية إلى رئيس الوزراء الجديد قال فيه “تسعيركم الشلغم أثلج صدورنا!”، لأن رئيس الوزراء كان قد أصدر بعض الإجراءات بأمل تهدئة الأوضاع. لقد كانت النكتة لا تخلو في مواجهة العنف الحكومي، ففي وثبة كانون الثاني، وبعد أنت تسلَّم السيد محمد الصدر، وهو رجل دين معمم وعضو مجلس الأعيان، رئاسة الحكومة، انطلقت أهزوجة في الشوارع العراقية تردد “ردناك عون اطلعت فرعون يا بو لحية النايلون”.

لم تكن الأحزاب والقوى السياسية العراقية، كلها دون استثناء، قد طرحت قبل انتفاضة 1952 شعار إسقاط الملكية، بل كانت كل المطالب، بما فيها مطالب قوى اليسار والحزب الشيوعي العراقي، قد اقتصرت وركزت على الإصلاح السياسي الداخلي، لاسيما حول قضايا الحريات الديمقراطية والحقوق الأساسية للمجتمع وتطوير الاقتصاد الوطني وضد البطالة والفقر ومن أجل التصنيع …إلخ أولاً، وإيقاف محاولات جرّ العراق للأحلاف العسكرية الدولية ثانياً، خاصة وأن هذه الفترة قد شهدت طرح مشروع الشرق الأوسط من جانب الولايات المتحدة الأمريكية في سعي جاد لربط العراق بالقوى العسكرية الغربية. ولأول مرة ارتفع في الشارع العراقي شعار إسقاط النظام الملكي باعتباره المسؤول عن الأوضاع الداخلية المتردية، وعن توريط العراق بالسياسات البريطانية والدولية والحرب الباردة، إضافة إلى التدخل الفظ في شؤونه الداخلية. كما إن هذه الانتفاضة كسبت إليها جميع القوى السياسية العراقية، بما فيها الأحزاب البرجوازية والقومية واليسارية والشخصيات المستقلة، بل وتجاوبت معها بعض القوى الدينية، مثل المرجع الديني الشيعي محمد حسين كاشف الغطاء حين رفض اللقاء والحوار مع السفير الأمريكي في بحمدون/لبنان، متفقاً مع مطلب إبعاد العراق عن الأحلاف العسكرية الأجنبية.

لا بد من الإشارة إلى أن الانقلابات العسكرية التي حصلت في العقدين الرابع والخامس، ومن ثم احداث الوثبة والانتفاضات في الخمسينيات من القرن الفائت، قد أدت كلها إلى نشوء معسكرين متناقضين في المصالح والأهداف ومتصارعين في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية اليومية، وهما:

أولاً: معسكر البلاط الملكي والنخبة السياسية الحاكمة المرتبطة بالحزبين الحاكمين الحزب الدستوري برئاسة نوري السعيد، وحزب الأمة الاشتراكي برئاسة صالح جبر، ومعهم شيوخ العشائر وكبار الملاكين وكبار التجار الكومبرادور وكبار الموظفين والمؤسسات الدينية التي ازداد اعتمادها على بريطانيا وعلى القوات العسكرية في قاعدتي الحبانية (بغداد) والشعيبة (البصرة)، وازداد التلاحم بينها والدفاع عن مصالحها المشتركة.

ثانياً: معسكر القوى المناهضة لهذا التحالف وبنيته التي تشكلت من البرجوازية الوطنية، لاسيما الصناعية، والبرجوازية الصغيرة بفئاتها العديدة كالمثقفين والطلبة والكسبة والحرفيين، وكذلك الطبقة العاملة وجمهرة واسعة من الفلاحين. ولم يكن قوام هؤلاء من العرب فحسب، بل ومن القوميات الأخرى، لاسيما الكرد، الذين لم يشعروا يوما بأنهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات وأنهم مهمشون حقاً في المجالات كافة وكانوا يعانون من التمييز.

وقد كان تدخل الملك، أو الوصي على العرش، والحكومات المتعاقبة، وخلافاً لدستور 1925، له الأثر الأكبر في التأثير على قرارات وسياسات مجلس النواب وانتخاباته ودوره، وكذلك على القضاء والإعلام، وعلى غياب الاستقرار السياسي. فعلى سبيل المثال أشار الزميل فارس كريم فارس في رسالته لنيل شهادة الماجستير، بعنوان “مستقبل العراق وأثره على الاستقرار الإقليمي، جاء فيها: “فقد تعرض خمسة عشر مجلس نيابي للحل من مجموع ستة عشر منذ انتخاب اول مجلس نيابي عام 1925 الى نهاية حكم الملكية، كما تألفت 59 وزارة بواقع 233 يوم متوسط عمر الوزارة الواحدة وخضعت البلاد في اغلب الفترة المذكورة الى الاحكام العرفية.”[6] (راجع: فارس كريم فارس، “مستقبل العراق وأثره على الاستقرار الإقليمي، معهد البحوث والدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية في القاهرة عام 2015م). لقد لعبت النخبة الحاكمة دوراً سلبياً كبيراً في مصادرة الحريات العامة والتجاوز على الدستور وعلى حقوق الإنسان، والتي يفترض أن تُبَّرز لمن لم يعش، أو يقرأ عن هذه الفترة وعن سياسات الحكومات الملكية المتعاقبة وأوضاع الشعب العراقي وحياة البالغة العظمى البائسة.

في عام 1951 ارتكبت الحكومة العراقية عملاً فظيعاً وفظاً، عملاً عدوانياً مخالفاً لنص الدستور العراقي في تحريمه لإسقاط الجنسية عن أي مواطن أو مواطنية مهما كانت الأسباب، في حين أصدر النظام الملكي العراقي قانوناً أباح فيه إسقاط الجنسية عن يهود العراق فقط “إن تأخروا ثلاثة شهور خارج الوطن”، أو من يريد إسقاطها!! فمارسوا شتى أساليب الاضطهاد والقهر السياسي والاجتماعي بين أعوام 1947-1953، وفيما بعد أيضاً، لكي يتخلصوا من 120 ألف مواطن ومواطنة من أتباع الدين اليهودي ومن مختلف الأعمار. واستمرت هذه العملية إلى أن انتهى وجود أي يهودي في العراق عملياً.[7] لقد كانت خسارة فادحة للعراق بمواطنيها، كما خسر اليهود وطنهم العراق، باعتبارهم جزءاً من مواطني ومواطنات البلاد. ولا بد هنا من الإشارة إلى أن مؤامرة تهجير اليهود كانت رباعية الأطراف ساهمت فيها حكومات الدول التالية: إسرائيل، وبريطانيا، والولايات المتحدة والعراق. وكان توفيق السويدي، رئيس الوزراء، الذي صدر في عهده قانون إسقاط الجنسية عن يهود العراق حينذاك، هو الواجهة، في حين كان نوري السعيد وأغلب النخبة الحاكمة مع هذا القرار والذي صادق على القانون غالبية أعضاء مجلس النواب العراقي ومجلس الأعيان وبروز اعتراضات قليلة أو تحفظات محدودة. وكان مزاحم الباجه جي أحد أبرز المعارضين الذي قدَّمَ مطالعة مهمة في مجلس الأعيان ضد هذا القرار. [8]ومنذ عام 1947 بدأت السجون العراقية تمتلئ بالسياسيين المعارضين لسياسات الحكومات المتعاقبة، وسقط لقوى المعارضة شهداء في المظاهرات، وشهدت سجون العراق شهداء سقطوا برصاص الشرطة أيضاً بسبب مطالبتهم الحصول على حقوق سجناء سياسيين وتحسين أوضاعهم. اليكم أمثلة بهذا الصدد:

** في 18 حزيران 1953 نفذت شرطة سجن بغداد مجزرة ضد السجناء العزل، بسبب رفضهم نقلهم من سجن بغداد إلى سجن نقرة السلمان الصحراوي، فأدى ذلك الهجوم الشرس إلى استشهاد سبعة سجناء وجرح 22 سجيناً ونقل البقية 120 سجيناً إلى سجن بعقوبة.[9]

** وفي 2/9/1953 وقعت مجزرة ثانية في سجن الكوت ضد السجناء العزل الذين كانوا يطالبون بتحسين أوضاعهم وتغذيتهم، إذ شنَّت شرطة السجن وشرطة القوة السيَّارة هجوماً شرساً باستخدام الرصاص الحي ضد السجناء مما أدى إلى استشهاد 8 سجناء وجرح 94 سجيناً ونجاة 19 سجيناً فقط. وأكدت التحقيقات التي أجريت في حينها، بأن إدارة السجون كانت مصممة على “تلقين السجناء والسياسيين عموماً” درساً لا ينسى!![10]

** في سجن بعقوبة بإدارة مدير السجن علي زين العابدين كان التعذيب والإساءة للسجناء تحصل يومياً، وفي الغالب الأعم دون وجود سبب سوى كون مدير السجن والشرطة يمنحون مكافأة مالية إذا ما استطاعوا إجبار أحد السجناء على تقديم البراءة المذلة، وبسبب حقد وكراهية دفينين. فعلى سبيل المثال لا الحصر، ركز هذا المجرم في حينها على تعذيب الشاعر والكاتب، الذي غيَّب فيما بعد، عبد الرزاق الشيخ علي، إذ كان يضرب على رقبته بحذائه، مما أدى إلى أصابته بمرض عصبي استمر يرافقه في فترة الإبعاد في بدرة إلى حين اختطافه في بغداد وتغييبه.[11]

في الفترة الواقعة بين 1947-1958 كلكلت السجون العراقية والمواقف على الآلاف من السجناء السياسيين من مختلف الاتجاهات السياسية، لاسيما قوى اليسار وفي مقدمتها أعضاء وأصدقاء ومؤازري الحزب الشيوعي العراقي، وقوى ديمقراطية أخرى ومن ثم بعض العناصر البعثية، وعانوا من مرارة التعذيب الوحشي في التحقيقات الجنائية وفي أغلب الشُعب الأمنية في الألوية بما فيها التعليق بالمروحة، وقلع الأظافر والكوي بالسجائر، والضرب بالصوندات والخيزران.

علينا هنا الإشارة الواضحة بأن مدراء السجون كانوا يتعاملن مع السجناء السياسيين لا على وفق ما يرونه مناسباً، بل كانوا يمارسون ما يتفق عليه مع وزير الداخلية وموافقة رئيس الوزراء، بل والبلاط أيضاً. إذ من غير المعقول بأي حال أن يقرر مدار السجون بشن حملات قتل وجرح عشرات السجناء دون موافقات من جهات عليا بهدف الخلاص منهم أو تأديبهم!   

في عام 1954 جرت انتخابات المجلس النيابي وحصل 11 نائباً من قائمة الجبهة الوطنية على مقاعد نيابية من مجموع 135 نائباً. لم تستطع النخبة الحاكمة، وعلى رأسها نوري السعيد، تزوير صناديق هؤلاء المرشحين في مناطقهم، كما لم تستطع تحمل وجودهم في المجلس النيابي، فُحل المجلس بإرادة ملكية وبطلب ملح ومباشر من نوري السعيد. وفي هذا العام شكل نوري السعيد حكومة جديدة وأصدر المراسيم الاستبدادية الاستثنائية التالية:

1- مرسوم إسقاط الجنسية رقم 17 لسنة 1954 عن المتهمين والمدانين باعتناق الشيوعية من قبل المجالس العرفية.

2- مرسوم رقم 18 لسنة 1954 القاضي بغلق النقابات والجمعيات والنوادي.

3- مرسوم رقم 19 لسنة 1954 القاضي بحل الأحزاب السياسية.

4- مرسوم رقم 24 لسنة 1954 القاضي بإلغاء امتيازات الصحف.

5- مرسوم رقم 25 لسنة 1954 القاضي بمنع الاجتماعات العامة والتظاهرات. [12]

وفي هذه الأجواء الإرهابية التي مارسها الحكم أجرى نوري السعيد انتخابات المجلس النيابي وفاز بـ 123 مقعداً بالتزكية ودون منافس من مجموع 135 نائباً، ولم يسمح لأي معارض ديمقراطي أن يرشح نفسه للانتخابات أو يصبح عضواً في هذا المجلس. وبهذا توفرت لنوري السعيد الفرصة الكبرى لفرض السياستين الداخلية والخارجية اللتين جاء من أجلهما. فأقر المجلس النيابي دخول العراق في حلف بغداد (السنتو) عام 1955 بمشاركة كل من تركيا وإيران وباكستان والعراق وبريطانيا وبتأييد كامل من الولايات المتحدة الأمريكية، كما كان قبل ذاك قد وقع على اتفاقية مع الأردن، وميثاق مع تركيا في 23/02/1955 والذي تحول إلى حلف بغداد في تشرين الثاني 1955. وكان الشعب العراقي قد رفض هذا الحلف واحتج عليه وخرجت مظاهرات ضد زيارة عدنان مندريس، رئيس وزراء تركيا للفترة 1950-1960 إلى بغداد، كما كُتبَ الكثير ضد هذا الحلف من جانب قوى المعارضة السياسية. [13]

لم يعد الكثير من الناس يتذكر الدور الرجعي لحكومات النظام الملكي في المنطقة العربية. فتأمر العراق ضد مصر وسوريا خلال فترة الخمسينيات لا تزال في الذاكرة من عاش هذه الفترة الحرجة من حياة الدول العربية. وقد وجهت القوى الديمقراطية والتقدمية النقد الشديد للعراق وهاجمت سياسات الأحلاف العسكرية والتآمر ضد القوى الديمقراطية من خلال حلف بغداد وتشكيل لجنة مختصة بمكافحة الشيوعية ولم تكن تعني غير مكافحة كل القوى الديمقراطية تحت غطاء مكافحة الشيوعية. وقد وضع الدكتور عبد العزيز الدوري وعالم التاريخ العراقي سكرتيراً لهذه اللجنة، وهو الذي كان يتحدث عن القومية العربية وينتمي للقوميين العرب.

لم تصبر قوى المعارضة كثيراً على الضيم، فانطلقت في انتفاضتها ضد سياسة الحكومة العراقية إزاء تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي ضد مصر في عام 1956. وكانت مشاركة الشعب واسعة في جميع أنحاء العراق. وفي هذه الانتفاضة استخدم النظام الملكي كعادته الحديد والنار لإنهاء الانتفاضة، فسقط شهداء وأعدم آخرون، وأعلنت حالة الطوارئ وصدرت مجموعة كبيرة من الأحكام بحق المتظاهرين وزجوا بالسجون وعانوا الأمرين من التعذيب النفسي والجسدي.     

يتبجح البعض بأن النظام الملكي قد عمل الكثير لصالح الشعب، وكأن ليس من واجبه ذلك. إذ لا شك في أن النظام الملكي قد أنجز العديد من المشاريع المهمة إضافة إلى ما أشرت إليه في الحلقة الثانية، منها إقامة السدود والخزانات لمواجهة الفيضانات التي كانت تتعرض لها بغداد بشكل خاص، وساهم في دفع كبار الملاكين إلى شراء المضخات والمكائن الزراعية، كما قدم المصرف الزراعي القروض لهم وللمزارعين المتوسطين، مما ساهم في تحسين الإنتاج الزراعي، ولكنه لم يخفف من استغلال كبار الملاكين للفلاحين الفقراء، بل زاد من فقرهم ورغبتهم في هجرة الريف والانتقال إلى المدينة، والتي تفاقمت في العقد السادس من القرن الماضي وشكلت حزاماً حول بغداد والمدن الكبرة الأخرى. وحقق التعليم الابتدائي توسعاً في قبول التلاميذ والتلميذات ووصل التعليم إلى بعض مناطق الريف العراقي، وكذلك ازداد عدد طلبة المتوسطة والثانويات، وازداد عدد الكليات المتخصصة، لاسيما الفروع الإنسانية، إضافة إلى كليات الطب والصيلة والعلوم والهندسة والرياضيات. إلخ، كما اتسعت في فترة الحكم الملكي قاعدة الفئات المتعلمة والمثقفة من الرجال والنساء، واتسع تأثيرهم على المجتمع وعلى وعيهم الاجتماعي والسياسي. وساهمت مؤسسة كالوست كولبنكيان بإرسال عدد كبير من خريجي الإعدادية للدراسات الهندسية، ولاسيما النفط، إلى الولايات المتحدة على نحو خاص، وهو الذي مُنح 5% من إيرادات نفط العرق الخام المُصدر على وفق امتياز 1924.

لا بد من متابعة بعض المعلومات المدققة عن الاقتصاد العراقي وأوضاع الناس المعيشية والسياسية خلال فترة الخمسينيات من القرن الماضي، لكي نتبين واقع الحال حينذاك ولا نعتمد على الذاكرة التي يشوبها الكبر أحياناً والحنين أحياناً أخرى والكثير من الأمور الأخرى.

لقد عرف الريف خلال سنوات الحكم الملكي الكثير من الهبّات والانتفاضات الفلاحية المناهضة لهيمنة الإقطاعيين على الأرض والماء والحيوان والمكائن الزراعية والمضخات المائية والمحصول واقتطاع أكبر نسبة ممكنة من الدخل الزراعي لصالح مختلف فئات كبار ملاكي الأراضي الصالحة للزراعة والسراكيل، في حين كانت حصة الفلاحين النزر اليسير من الدخل الزراعي، مما دفع بنسبة مهمة منهم إلى الهجرة إلى المدن والعيش في أطرافها على هامش الحياة الاقتصادية فيها. وكانت لهذه الظاهرة عواقبها السلبية على الفلاحين المهاجرين أولاً، وعلى سكان المدن ثانياً. وهذا الواقع المرير دفع بالأحزاب السياسية المناهضة للملكية أن ترفع شعارات مناهضة للإقطاع وتدعو إلى إصدار وتنفيذ قانون للإصلاح الزراعي بما يسهم في مكافحة التخلف وإنهاء سيطرة كبار الملاكين على الأرض والريع المنتج من قبل الفلاحين واستخدامه البذخي الاستهلاكي في المدن. إذ هيمن كبار ملاك الأراضي، أو المستحوذون عليها بتعبير أدق، على نسبة عالية من خيرة الأراضي الزراعية في العراق والتي كانت تحقق لهم ريعاً تفاضلياً بسبب خصوبة الأرض وقربها من الأنهار ومن المدن، في حين كان الفلاحون وصغار المزارعين لا يملكون سوى مساحات صغيرة أو أنهم مجبرون على العمل لدى كبار الملاكين، وهم يشكلون الغالبية العظمى، ويمكن للجدول التالي أن يبين واقع توزيع الملكية الزراعية عشية ثورة تموز 1958:   

توزيع الأراضي الصالحة للزراعة في ظل النظام الملكي في العراق في عام 1958 [14]

حدود حجم الملكي الزراعية /دونم

عدد الملكيات الزراعية

المساحة الكلية/ دونم

التوزيع النسبي للمالكين %

التوزيع النسبي لحدود الملكيات –التوزيع النسبي للمالكين – المساحة الكلية (دونم)-عدد الملكيات الزراعية – حدود حجم الملكية الزراعية (دونم)  

10,5 –                       86, 1      –         2.446.952 –  144802      من 1 – 100    دونم

21,5                           11,9           5.024.736            70126        من 101 –  1000 دونم

68,0                          2,0                15.855.621         3418      من 1001 – 100.000  فأكثر

100                             100                 33.477.309       168346       المجموع

قارن: صبري، أنور والخالدي، أسعد. تجربة الإصلاح الزراعي في العراق. ط 1. مطابع دار الثورة. بغداد. 1974. ص 46.

ومنه يتبين واقع غياب العدالة في الاستحواذ على أراضي الدولة من جانب كبار الملاكين، والتي كانت قبل ذاك تحت تصرف الفلاحين المنتجين. ولكن دعونا نتابع اللوحة الكاريكاتيرية التي رسمها نوري السعيد لحل المسألة الزراعية في العراق. ففي عام 1956 ألقى نوري السعيد خطاباً نادراً من إذاعة بغداد أطلق عليه فيما بعد بخطاب “دار السيد مأمونة”، ولم تكن الدار مأمونة، تحدث فيه عن عدد من المسائل منها كيف يعالج مشكلة الأرض، وكان جوهر رأيه:

يتزوج شيوخ العشائر وكبار الملاكين الكثير من النساء وتنجب زوجاتهم الكثير من الأبناء، وحين يموت هؤلاء الآباء يتم تقسيم أراضي الأب على الأبناء، … وهلمجرا. وبهذا تتقلص مساحات الأراضي التي بحوزة هذه العائلات!! هكذا تصور نوري السعيد حل مسألة الأرض الزراعية في العراق ومكافحة الإقطاع، على حد قول المثل “عيش يا كديش حتى يطلع الحشيش!”.

أما في القطاع الصناعي فقد تركزت جهود مجلس الإعمار (1950) ووزارة الإعمار (1953) على إقامة مجموعة من المشاريع الصناعية خلال الفترة الواقعة بين 1951-1958، تم إنجاز ثلاثة منها فقط قبل وقوع ثورة تموز عام 1958، في حين استمر العمل بخمسة مشاريع أخرى أنجزت في أعقاب الثورة. وكانت المشاريع الثلاثة المنجزة هي مشروع إنتاج الإسمنت في سرچنار/السليمانية، ومشروع الغزل والنسيج/الموصل، ومشروع الإسفلت في القيارة/الموصل. أما المشاريع الصناعية التي أنجزت فيما بعد فكانت مشروع السكر/الموصل، ومشروع المنتجات القطنية/الهندية، ومشروع الإسمنت في حمام العليل/الموصل، ومشروع السجاير/السليمانية، ومشروعات إنتاج الطاقة في أبو دبس وبغداد والنجيبية، وتم إنجاز هذه المشاريع في أوائل الستينات من القرن الفائت.[15] كما ساهم المصرف الصناعي بإنشاء مشاريع صناعية مختلطة، ونشط القطاع الخاص بإقامة مشاريع صناعية عديدة برؤوس أموال محلية. ومن يتابع السياسة التجارية حينذاك سيجد إنها لم تساهم بأي حال في دعم قطاعي الصناعة والزراعة، بل كانت تُغرِق الأسواق بالسلع الأجنبية من منتجات بريطانيا، مما كان يعيق النمو الاقتصادي غير النفطي في البلاد، كما لم يقلص منافسة السلع الأجنبية للإنتاج المحلي.

ونتيجة ذلك، وبعد أن كان طابع الاقتصاد العراقي المهيمن زراعياً ريعياً وحيد الجانب، أصبح منذ أوائل الخمسينيات اقتصاداً ريعياً نفطياً وحيد الجانب، فتراجعت مشاركة القطاع الزراعي، ومعه قطاع الصناعة الضعيف أساساً، في تكوين الناتج المحلي الإجمالي وصافي الدخل القومي لصالح قطاع النفط الخام. وزادت تبعية العراق استيراداً وتصديراً لبريطانيا ومكشوفيته الكاملة عليها، والذي أدى بدوره إلى عدم قدرة الاقتصاد العراقي على استيعاب الزيادات السكانية المتأتية من بعض العوامل المهمة: ارتفاع معدلات النمو السكانية سنوياً التي تراوحت بين 3،0-3،2%، وتقلص معدلات الوفيات بين الأطفال لتحسن الحالة الصحية عموماً وتوفر الأدوية، وقد تجلى ذلك في ارتفاع متوسط عمر الفرد وتحسن الهرم السكاني.      

من يتابع السياسة العراقية في فترة العهد الملكي يرى بأن هناك مجموعة محدودة من النخبة الحاكمة التي كانت تهيمن على السياسة العراقية وتشكيل الحكومات المتعاقبة لم يتجاوز عدده ألـ 166 شخصاً، وكانت الغالبية منهم من أصول عسكرية، إذ بلغت نسبتهم 60% من مجموع النخبة الحاكمة في العهد الملكي.[16] فالسياسي العراقي المخضرم نوري السعيد، حليف وصديق بريطانيا والغرب الأول في العالم العربي، كان ضابطاً عسكرياً في الجيش العثماني، تولى رئاسة الوزراء 14 مرة بين 1930-1958، وشارك كوزير للدفاع أو للداخلية أو للخارجية أكثر من ذلك بكثير. وكان لكثرة العسكريين منذ بدء تشكيل الحكومة العراقية الأثر السلبي الكبير على اتجاهات تطور العراق. يشير إلى ذلك بوضوح كبير وصواب الدكتور نبيل ياسين حين كتب”

“أضف الى ذلك ان التركيبة التي وجدها العهد الملكي أمامه ، هي تركيبة تتكون من اكثر من ستمائة من ضباط الجيش العثماني من العراقيين الذين تمتعوا بميزتين ستلقيان بظلالهما الكئيبة على طبيعة السلطة وعلى تاريخ العراق . الاولى كانت النزعة العسكرية التي حكمت عقلية الحكم وسلوك عدد كبير من رؤساء الوزارات المتحدرين من الجيش العثماني مثل نوري السعيد وياسين الهاشمي وطه الهاشمي وجعفر العسكري وجميل المدفعي وعلي جودت الأيوبي ، ولذلك فان استخدام الجيش في حل الخلافات الناشئة بينهم او استخدام الجيش في الانقلابات العسكرية لم يكن بعيدا عن تفكيرهم السياسي الذي يعتمد على استخدام الجيش ، الاداة الوحيدة لحسم الصراع . والميزة الثانية لم تكن منفصلة عن الاولى. فالتركيبة العسكرية هذه لم تنشأ الّا وفق أسس عشائرية وطائفية ومناطقية اقامتها السلطة العثمانية وطبقتها في حكم العراق. ولذلك فليس من الغريب او الاستثنائي ان يستمر هؤلاء في التمسك بهذه الاسس وتعميقها وجعلها المعايير الوطنية التي يقوم عليها نظام الحكم ، والتي ستستمر وتكون اساسا لازمة الحكم المستمرة في العراق. “[17]

هذه الفقرة والفقرة التي سبقتها تقدم ملخصاً مكثفاً عن معاناة الشعب العراقي، لاسيما قواه السياسية المعارضة، من سياسات الحكم الملكي الداخلية، ومن الدور الفظ والكبير لبريطانيا في التدخل في شؤون العراق الداخلية والخارجية، والتي أهمل حكام العراق ذلك، بل ساروا على وفق ما أمر به ممثلو بريطانيا في العراق، المندوب السامي والسفارة البريطانية والتي قال عنها عزيز علي في مونولوج صلي عالنبي:

“صَل عَا لنَّبِي صَل عَا لنَّبِي…واصِل أياغَه هَالصِبِي

مالِح وطَيِّب لَبْلَبِي…خوْش زْلِمَه هَا لجَلَبِي

(مُختار ذاك الصوْب) هَمْ…ممنون مِنَّه والنَّبِي

الّلهُمَّ صَلّي عَا لنَّبِي”.

و”مختار ذاك الصوب” كنية يطلقها ابناء بغداد على المندوب السامي البريطاني، وفيما بعد على السفير البريطاني في منطقة صوب الكرخ ببغداد.”.[18] كم أتمنى على من يمدح العهد الملكي أن يستمع بوعي ومسؤولية إلى مونولوجات عزيز علي الكثيرة والمحللة لواقع العراق السياسي والاجتماعي حينذاك. وبهذا المعنى كتب نوري السعيد نفسه وقبل قتله الشنيع والمرفوض كلية، مقالة نشرتها مجلة لايف الامريكية بعد مصرعه شاكياً من دور الغرب في التأثير عليه وعلى سياسات العراق حينذاك ما يلي: “انني كعربي وبرغم صداقتي للعالم الحر ، أقول جهرا : ان طاقتي في التحمل بلغت نهايتها ، فلقد طفح الكيل كثيرا جراء سياسات الغرب معنا . ويشاركني في مشاعري كل المسؤولين العرب في العالم . لقد سبق ان نبهناكم ونصحناكم مرارا بضرورة انصافنا وحل قضيتنا قبل ان يستفحل الامر ، ولكنكم تجاهلتمونا ، فحّلت في المنطقة عدة مشاكل وخطوب .. والان انني ارى كوارث مقبلة في الافق البعيد ، فهي ان حلت عن طريق اليأس .. فلا بد ان يتجدد سعيرها الملتهب على ايدي شيوعيين او ارهابيين في المستقبل القريب ، ويقيني ان اخمادها حين ذاك لن يكون هينا بأي حال من الأحوال.”. [19]

من هنا يمكن القول بوضوح شديد بأن المعارضة العراقية كانت على حق كبير حين كانت تدين التدخل الغربي في الشؤون العراقية وتدين حكام العراق الذين كانوا لا يأخذون برأي الشعب العراقي والمعارضة العراقية، بل كانوا خاضعين لسياسات الغرب، ساكتين عنها، ومنفذين لها، وفي مقدمتهم نوري السعيد نفسه.

العوامل المتنوعة والمتباينة في الموقف من النظام الملكي

في الحلقة الأولى من هذه السلسلة ذكرت وجود أربع مجموعات من الناس، بغض النظر عن حجم كل منها، ولكنها موجودة كفكر وممارسة، وهي تطرح تصورات متباينة ومغايرة للواقع الذي كان قائماً في العراق في العهد الملكي. وفي هذا المقالة اتابع بنية هذه المجموعات وبلورة وإبراز العوامل الكامنة وراءها والمحركة لكل منها:

1) مجموعة من الشبيبة لم تتعرف على طبيعة وسياسات وسلوكيات حكومات النظام الملكي، ولكنها تعيش مأساة النظام الحالي، وتلك التي عاشت مأساة وكوارث وحروب النظام البعثي التوسعية، أو سَمَعتْ عنه من جهات معينة رأيها في النظام الملكي وحسناته، وابتعدت كلية عن ذكر سوءاته، التي كانت سبب الإطاحة به.

هذه المجموعة من شبيبة العراق التي ولدت في نهايات فترة النظام الدكتاتوري البعثي التي عانت من الاستبداد وعواقب الحروب والحصار الاقتصادي الدولي، من المجاعات والبؤس والفاقة، أو تلك التي ولدت في فترة النظام السياسي الطائفي المقيت الراهن التي زاد في معاناتها الإرهاب والتشريد والقتل والفساد والتمييز الديني والمذهبي المتشدد، ومن واقع السبي والاغتصاب والنزوح الداخلي والتهجير القسري بعد اجتياح داعش لمحافظة نينوى وعبث الميليشيات الطائفية المسلحة بالمجتمع والاقتصاد الوطني.. إلخ، من جهة، وهي التي لم تعش في فترة الحكم الملكي ولا تعرف عنه، ولكنها لا يمكن أن تتصور بأنه يماثل ما يعانيه الناس في الفترة التي هي فيها، من جهة أخرى، هو الذي يجعلها تنفر وتعتقد بأن ما حصل في 14 تموز 1958 كان السبب في كل ما حصل لاحقاً، والمسؤول عن الأوضاع البائسة والمدمرة التي تعيش تحت وطأتها يومياً.

لا شك، إن ما حصل في العهد الملكي من أوضاع سيئة لا يمكن مقارنتها، بما حصل أثناء وبعد انقلاب شباط 1963، أو ما حصل بعد عودة البعث ثانية إلى الحكم وبقاءه فيه بين 1968-2003، أو معاناتها مع ما يحصل اليوم في البلاد. وهذه حقيقة واقعة حقاً لا يجوز إنكارها أو إهمالها. ولكن يفترض في من عاش تلك العقود أن يطرح للشبيبة العراقية حقيقة أنهم، وهو يعيشون حياة مليئة بالمشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنفسية المعقدة التي تجعل من حياة الغالبية العظمى من المجتمع جحيماً لا يطاق، يكمن بالأساس في جوهر سياسات النظام السياسي الذي أقامته الفئات الحاكمة في العهد الملكي، إذ لم يكن الأساس الذي بني عليه العراق متيناً وديمقراطياً جيداً، بل كان وإلى حدود بعيدة بذهنية عسكرية وروح شوفينية ورؤية غير ديمقراطية للمجتمع والمعارضة السياسية، كما حاولت تبيانه في الحلقتين الثالثة والرابعة السابقتين، كما أشرت إليه في الحلقة الثانية التي جرى فيها الإشارة إلى بعض إيجابيات النظام الملكي. فتشويه الدستور الديمقراطي وتزوير الانتخابات والقبول بوجود نظام اقتصادي سياسي شبه إقطاعي–شبه استعماري، وتشكيل تحالف بين كبار الملاكين والكومپرادور التجاري وكبار موظفي النخبة الحاكمة، وعلى رأسها نوري السعيد والوصي عبد الإله بن علي وصالح جبر، مع بريطانيا، وقبولها تدخل بريطانيا الفظ واليومي في جميع شؤون حياة الشعب وسياسات الحكم، واتساع الفجوة بين حياة وغنى الأغنياء وبؤس وفاقة الفقراء، وتدهور شديد للحياة الديمقراطية وامتلاء السجون بالسياسيين …الخ، كلها كانت سبباً في تحرك أجزاء من القوات المسلحة، التي تشكل جزءاً من الشعب وتتأثر بأوضاعه وحياته اليومية، للإطاحة بنظام الحكم الملكي وإقامة الجمهورية العراقية. إن من واجب كل الوطنيين والديمقراطيين شرح هذا الواقع وذلك الدور، لاسيما وأن ذاكرة الكثير من الناس قصيرة وينسون ما عاناه الآباء والأمهات في العهد الملكي، والتي كانت سبباً في تأييدهم الحار والحازم لانتفاضة العسكر والذي لعب الدور الحاسم الفعلي في تحويل تلك الانتفاضة العسكرية في 14 تموز 1958 إلى ثورة شعبية عارمة شملت البلاد كلها، فيما عدا تلك القوى التي كانت تحكم البلاد والتي خسرت حكمها ومكاسبها وامتيازاتها واستغلالها للشعب.

لم يكن من العبث أن تقف الغالبية العظمى من الفئة المثقفة العراقية الواعية من مختلف الاختصاصات ومن مختلف الفنون الإبداعية إلى جانب قوى المعارضة العراقية في فترة الحكم الملكي وتتلقى من الحكم الملكي كل العنت والاضطهاد والسجن، كما حصل في زج طلبة المتوسطة والثانوية والشبيبة في معسكر الشعيبة عقاباً لنشاطهم السياسي، أو في حجز جمهرة كبيرة من طلبة الكليات والمثقفين والعلماء وأساتذة الكليات والمعاهد في معسكر السعدية بسبب مواقفهم الفكرية والسياسية، دع عنك امتلاء السجون بالمثقفين وخريجي الكليات والمعاهد والفنانين، إضافة إلى الكثير من العمال والكسبة والحرفيين.         

2) مجموعة من الناس عاشت مرحلة النظام الملكي وعرفت سوءاته، ولكنها عند مقارنة ما حصل فيما بعد، لاسيما بعد انقلاب شباط/فبراير 1963، تجد إنه كان أفضل بكثير من العيش في ظل نظام البعث أو في ظل النظام الطائفي والفاسد الحالي.

إن هذه المجموعة من الناس ربما عانت أو لم تعانِ من مشكلات ومصاعب كبيرة ومباشرة في العهد الملكي، لهذا تجد في العهود التي تلت 1963 وفي الواقع الراهن، ما لا يمكن مقارنته بالعهد الملكي من حيث السوء والمعاناة. وهي على حق في ذلك، إذا نظرنا إلى حجم المعاناة والقسوة المفرطة والمدمرة التي حصلت مع انقلاب شباط 1963. ولكن هذه المجموعة تنسى حقيقة أساسية هي أن النظام الملكي أرسى الأساس الهش لدولة ديمقراطية ومجتمع مدني علماني من جهة، وزاد في الطين بلة حين بدأ بتشويه الدستور وتزور الانتخابات علناً حتى تجرأ نوري السعيد ليتحدى أعضاء المجلس النيابي ليقول لهم بشحمة لسانه بأنه يتحدى جميع النواب في قدرتهم الذاتية للوصول إلى مقاعد مجلس النواب دون دعم الحكومة المباشر لهم. قالها في واحدة من جلسات مجلس النواب العراقي. هكذا كان واقع الأمر فعلاً! 

 وهنا يمكن الإشارة على عامل آخر، عامل الحنين الذي يمتلك الناس: كل الناس، لاسيما حين يمرون بفترة عصيبة وقاسية. وحين يلاحظون بأن الفترة التي عاشوا فيها لم تكن سيئة كالتي يعيشون فيها حالياً. تشير معاجم اللغة العربية (معجم عربي عربي) إلى الحنين بكونه: صوت الأم الى ولدها؛ صوت الذي في فؤاده نزعة ألم؛ صوت الريح والنسيم الرقيق؛ صوت العود عند النقر عليه ؛ صوت القوس عند الإنباض ؛ صوت المرأة تفتقد زوجها ؛ صوت المشتاق.[20] أما الشاعر محمود درويش فيصف الحنين بصيغ شتى منها قوله: “الحنين أنين الحق العاجز عن الإتيان بالبرهان على قوة الحق أمام حق القوة المتمادية.” وفي موقع آخر يقول: “أنين البيوت المدفونة تحت المستعمرات، يورثه الغائب للغائب، والحاضر للغائب، مع قطرة الحليب الأولى، في المهاجر والمخيمات.” كما يقول “لا أحد يحن إلى وجع”.[21] ولكن وجع اليوم الأقسى ينسي الإنسان وجع الأمس القاسي، ويبدأ الحنين للماضي!!! 

كتب الصديق الفنان والمخرج السينمائي والكاتب قيس الزبيدي رسالة شخصية معبراً عن ارتياحه لمضمون المقالين الأول والثاني في هذه السلسلة وتعليقا عليهما بصدد الحنين: “درس العلماء مؤخرًا الشعور بالحنين للماضي وما فيه من سعادة يشوبها الألم، ووجدوا أن لهذا الشعور وظيفة إيجابية؛ إذ إنه يحسِّن الحالة المزاجية، وربما الصحة النفسية أيضًا؛ فقد ألقت دراسة جديدة بالضوء على فائدة الشعور بالحنين للماضي، وتوصلت إلى أن هذا الشعور لا يحبسنا في الماضي، بل إنه في الواقع يرفع من معنوياتنا وشعورنا بالحيوية.”.[22] حين أتصفح مواقع الاتصال الاجتماعي أو الرسائل الإلكترونية التي تصلني عبر البريد الإلكتروني أجد كمَّاً هائلاً من الصور التي تُنشر عن حياة المجتمع في العهد الملكي، عن الطالبات والمعلمات فارعات الرؤوس في المدارس الثانوية وفي الكليات، عن شوارع بغداد في الخمسينيات من القرن الفائت، عن التمور العراقية، عن الأكلات الشهية حينذاك، عن الحفلات الموسيقية والمسرحيات ومجالس الأدباء، وعن البلم والقفة والمسگوف على نهر دجلة… إلخ. وبهذا الصدد كتب قيس الزبيدي في رسالته الآنفة الذكر مشيراً إلى أن الباحث تيم وايلدشوت -أحد المشاركين في دراسة عن الحنين من جامعة ساوثهامبتون مع سيديكايدس- أن هناك الكثير من الطرق التي يشعر الناس من خلالها بالحنين للماضي؛ ومنها النظر إلى الصور أو طهي وجبات معينة أو مشاركة قصص الذكريات أو عزف الموسيقى. ويصف وايلدشوت هذا الشعور الذي نمر به بصورة طبيعية عدة مرات في الأسبوع بأنه “استجابة مناعية نفسية، تحدث عندما تواجهك بعض عقبات الحياة”. لذا إذا شعرت بأنك مضطرب قليلاً في موسم الأعياد، اصطحب نفسك في رحلة إلى الماضي مستعيناً بألبوم صور الذكريات.”.[23]

3) مجموعة لبرالية فكرا ًوسياسة تؤيد النظام الملكي وتكتشف بعض سيئاته، ولكنها تعتبر إن ما حصل كان البداية للتطور المدني الذي قطعه انقلاب 14 تموز 1958، من جهة، وهي في الغالب الأعم ذات منحى يميني وضد القوى اليسارية، لاسيما ضد الحزب الشيوعي العراقي، وتوجه نيرانها ضد هذه القوى وكأنها وحدها كانت وراء إسقاط النظام الملكي أو الخراب الذي حصل فيما بعد. لقد كانت بداية النظام الملكي طيبة عموماً، ولكنه تراجع منذ منتصف العقد الرابع من القرن الفائت، وتفاقم سنة بعد أخرى، لاسيما بعد الحرب العالمية الثانية إلى حين سقوط النظام، ولم تعد هناك أي نسمة ديمقراطية.

لقد كان للعهد الملكي مثقفوه وجمهرة من السياسيين والاقتصاديين، لكنهم لم يشكلوا الأكثرية في إجمالي القوى المثقفة والسياسية والاقتصادية، بل كانوا قلة بالقياس للقوى الديمقراطية واليسارية والمستقلة، لاسيما في صفوف المثقفين. وكان المثقفون والسياسيون والاقتصاديون، سواء من أيد منهم نظام الحكم أم خالفه في بعض سياساته، قد وجدوا في النظام الملكي البرلماني قاعدة أساسية لمجتمع قائم على أساس اللبرالية السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وهي وجهة نظر سائدة في العالم الرأسمالي وفي غالبية البلدان النامية، وبالتالي كانوا يعتقدون بأن أي إصلاح في الوضع الداخلي يفترض أن يأتي عبر الانتخابات النيابية وبعيداً عن استخدام العنف والسلاح. وهو أمر صائب من حيث المبدأ. ولكن السؤال الذي يبتعد هؤلاء عن الإجابة عنه هو: هل فسح نظام الحكم الملكي لقوى المعارضة السياسية الحق في العمل السياسي العلني، أم كان بين فترة وأخرى يلغي الأحزاب والنقابات والصحف والمظاهرات والاجتماعات ويفرض الأحكام العرفية (حالة الطوارئ) في البلاد؟ وهل كان النظام يسمح بمعالجة ملكية الأرض الزراعية التي استحوذ عليها شيوخ العشائر والميسورون في المدن؟ الجواب يأتينا من نوري باشا السعيد الذي وضَّحَ رأيه في كيفية حل المسألة الزراعية، الذي أشرنا إليه، أو في موقف المحاكم من الفلاحين ومطاردة الشرطة لهم في المدن التي لجأوا إليها للعمل مع عائلاتهم، لإعادتهم إلى “سيدهم!” الإقطاعي ليعملوا لديه بالسخرة كالرقيق عملياً بذريعة دفع الديون التي بذمتهم!! وهل فسحوا لوجهات النظر الفكرية والسياسية أن تتصارع، أم كان السجن نصيب من يخالف، وشملت القوى والشخصيات البرجوازية الوطنية الإصلاحية التي كان نصيبها السجن أيضاً، كما حصل للأستاذ كامل الجادرجي أو الأستاذ محمد مهدي كبة أو عشرات غيرهم في عام 1957 مثلاً، دع عنك امتلاء السجون بالشيوعيين واليساريين والديمقراطيين والمستقلين؟ وهل وظف الحكم الملكي أموال النفط فعلاً للتنمية والإعمار. لقد أنجزت دراسة حول المناهج الاقتصادية التي وضعها مجلس الإعمار في فترة الحكم الملكي 1950-1958 لمتابعة مستوى وضعها وتنفيذها:

“لقد وضع مجلس الإعمار خلال هذه الفترة ثلاثة مناهج استثمارية خمسية، صدر أولها في عام 1951 ليغطي الفترة حتى عام 1955، ثم عدل وأضيفت عليه مبالغ جديدة ومدد حتى عام 1956. وقد جرى تخصيص مبلغ قدره (31) مليون دينار تقريباً لتنمية الصناعة الوطنية. إلا إن ما صرف فعلاً من هذا المبلغ كان (5,4) مليون دينار فقط، أو ما يعادل 17،4% من المبلغ المخصص للصناعة، أو ما يعادل 3،5% من مجموع تخصيصات المنهاج الخماسي الذي بلغ مجموع تخصيصاته 155،3 مليون دينار. وفي عام 1955 صدر المنهاج الاستثماري الثاني ليشمل الفترة حتى عام 1959، وقد كان نصيب الصناعة في التخمينات 43،6 مليون دينا أو ما نسبته 14،3/ من المجموع الكلي للمنهاج”، من ثم جرى تمديد فترة المنهاج حتى العام 1960، إلا أن تنفيذ المنهاج الثاني لم يكن بأفضل من المنهاج الأول. كما إن تنفيذ مشاريع المنهاج الكلية في القطاعات الأخرى لم تكن بأفضل حالاً من المنهاج الصناعي.[24] من هنا لم تكن الإطاحة بنظام الحكم الملكي نابعة عن رغبة وإرادة ذاتية لبعض الضباط الأحرار فحسب، بل جاءت وبالأساس بسبب نشوء شروط موضوعية وذاتية نضَّجت ووفَّرت مستلزمات الانقضاض على النظام وإسقاطه، إذ لم يعد أمام القائمين بالانتفاضة العسكرية طريقاً آخر غير هذا الطريق وما أعقبه من تحولات سياسية واجتماعية واقتصادية في البلاد.

4) مجموعة من الناس من عائلات محافظة وميسورة تضررت من منجزات ثورة الرابع عشر من تموز 1958، منهم بشكل خاص كبار ملاكي الأراضي الزراعية والعقارات أو المستحوذين عليها، وكبار التجار الكومبرادور، وأغلب المؤسسات والمرجعيات الدينية … الخ، وهؤلاء جميعاً يحنون للماضي ويكرهون الثورة التي أطاحت بحكمهم الملكي وسحبت امتيازاتهم وقلصت مصالحهم حينذاك. علماً بأن هؤلاء وغيرهم من نفس النمط الفكري والسياسي الرثين قد استعادوا كل، بل وأكثر مما صادرته ثورة تموز 1958 من الأراضي التي كانت بحوزتهم أو السلطة والنفوذ والتأثير والبريستيج التي أُخذت منهم وزادوا عليها نهباً وسلباً للمال العام وتخريب وتلويث البلاد.

إن الكثير من أبناء وأحفاد تلك القوى السياسية التي حكمت العراق بين 1921-1958 قد استعاد أوضاعه السابقة من جديد، وزاد عليها. وهو أمر يمكن متابعته من خلال الدور المتعاظم لشيوخ العشائر وملاك الأراضي وغيرهم حالياً في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد. إن هذه المجموعة من البشر تقوم اليوم بنشر رأيها بتمجيد العهد الملكي وشتم ثورة تموز 1958 على نطاق واسع، ومنها أو عبرها تنشر الكثير من صور الحياة الماضية وإشاعة الحنين للماضي، ولكنها تسكت عن معايب ذلك النظام والمنجزات التي حققتها ثورة تموز 1958 في السنتين الأولى والثانية على نحو خاص. هذه المجموعة محكومة فيما تقوم به بعاملين مهمين هما:

** جسَّدَ نظام الحكم الملكي السابق تحالفاً بين القوى الاجتماعية والسياسية المالكة أو المستحوذة على الأراضي الزراعية والمهيمنة على التجارة الخارجية والداخلية، وعبَّر عن مصالحها المشتركة خير تعبير، ووفِّر لها امتيازاتها وغناها وثرواتها وعيشها المرفه، وبالتالي فهي التي خسرت نظامها السياسي وفقدت امتيازاتها وتضررت مصالحها بقيام الثورة وبالسياسات والإجراءات التي اتخذتها حكومة الثورة برئاسة عبد الكريم قاسم.

** كما إن النظام السياسي الحالي يجسد جزءاً أساسياً مما تطمح إليه ويوفر لها شروط استعادة مصالحها ومواقعها في السلطة والمجتمع، وهي تحاول دفع الأمور بالاتجاه الذي يلبي مشاريعها، وتتطلع إلى إعادة نظام الحكم الملكي للعراق، كما في طروحات “الأمير” علي بن حسين بن علي بن الحسين شريف مكة، الذي يعمل من أجل ذلك، وهي بالتالي تحاول أن تستثير عواطف وحنين الناس إلى ماضٍ لم يتعرفوا عليه ولم يعانوا منه، بل عاشوا مرارة حكم البعث الدموي والحكم الطائفي الفاسد ومراراته وخرابه الجاري.

في عام 2004 كتبت مقالاً أهديته لهذا “الأمير!” تحت عنوان “ذكريات مرة في ضيافة التحقيقات الجنائية- بمناسبة اليوم العالمي ضد التعذيب-،[25] أشرت فيه إلى أساليب التعذيب الوحشية التي مورست بحق صديقي ورفيقي الفنان الملحن وعازف الكمان الأستاذ عبد الأمير صالح الصراف وبحقي خلال فترة الاعتقال في التحقيقات الجنائية ولمدة أسبوعين، وهي عينة بسيطة من الأساليب التي مورست في تعذيب المعتقلين حينذاك.

وعليه يمكن القول بأن ما ينشر حول مدح النظام الملكي يعبر من جانب عن حنين لما كانت تعيش فيه هذه المجموعة من الناس من بحبوحة وحكم، ومن جانب أخر رغبتها الشديدة في العودة الفعلية إلى النظام الملكي أو في ظل نظام يلبي كل مصالحها التي هي ضد مصالح غالبية الشعب. وأرى ضرورة تأكيد حقيقة أن هذه القوى كانت هي السبب الأساسي والرئيسي وراء تشوه النظام الملكي والإساءة البالغة للدستور الديمقراطي وحياة المجتمع، وهي التي وفَّرت مستلزمات إسقاطه. ولم تكن حركة الضباط الأحرار إلا اليد التي نفذت ما أستوجبه تطور الأحداث والوقائع التاريخية في العراق. إن من واجب من يتصدى لهذا الموضوع أن يميز بين المجموعات التي تتحدث عن الماضي وعن ثورة تموز 1958. وألَّا يرمي كل هذه المجموعات في سلة واحد، وكأنهم شيء واحد! وبودي أن أختم هذه الحلقة بما كتبه الأستاذ قيس الزبيدي بصدق ووضوح:

“نجد أن النوستالجيا (الحنين) لا بد أن تفهم في سياق الحاضر والعلاقة معه، فحالة النوستالجيا مؤشر على وجود علاقة مرتبكة بين الذات وإدراكها للعالم والواقع من حولها، سواء نحن كأفراد أو كجماعات في لحظة تاريخية معينة، وحينما يكون الواقع غير مدرك أو مستوعب تماما من قبل الذات تصبح غير قادرة على تعريف هويتها أو تسكين نفسها في موضع آمن داخل هذا العالم، فتلجأ إلى العيش في الماضي كنوع من المراوغة والالتفاف على الواقع المرفوض، ويظل الحنين مصاحبا لها إلى ما يشعرها بالأمان والاستقرار. إلا أن سؤالا هاما يمكن أن يُطرح علينا، حول ما إذا كانت النوستالجيا دوما تتجلى باعتبارها هروبًا من الواقع المأزوم.” [26] وجوابي عن هذا السؤال هو: ليس في كل الحالات أو بالضرورة، كما حاولت تبيانه في هذه الحلقة وميزت بين المجموعتين الأولى والثانية من جهة والمجموعة الثالثة من جهة أخرى، ثم المجموعة الرابعة أخيراً.

انتفاضة الجيش وثورة الشعب في 14 تموز 1958

لا يمكن لأي حركة سياسية أو عسكرية أن تنجح في قلب نظام حكم في أي بلد من البلدان وتتسلَّم السلطة، ما لم تكن شروط ومستلزمات تلك العملية، الموضوعية منها والذاتية، ناضجة ومتوفرة. فمن تابع فترة نظام الحكم الملكي في العراق في العقدين الخامس والسادس من القرن الماضي، يستطيع أن يقدر بأن الصراع بين المجتمع وقواه السياسية من جهة، والفئات الحاكمة وسلطتها السياسية من جهة أخرى، قد بدأ بالتفاقم المتسارع، وإن عوامل التفكك والانحلال بدأت تنخر بالدولة الملكية وتؤهلها للتغيير. ولم تكن الوحدات العسكرية التي قادها عبد الكريم قاسم في الرابع عشر من تموز 1958 سوى الأداة التنفيذية لفعل قوانين التطور الاجتماعي والتحولات التاريخية الذي تجلى في المد الثوري العارم الذي شهدته بغداد العاصمة وبقية المدن والقرى العراقية، كما شهده العالم في صبيحة الانتفاضة العسكرية المظفرة.

أهداف حركة الضباط الأحرار

حدَّدت حركة الضباط الأحرار أهدافها باختصار بما يلي: 1) إلغاء النظام الملكي وإقامة الجمهورية؛ 2) الخروج من الاتحاد الهاشمي مع الأردن؛ 3) الخروج من منطقة الإسترليني؛ 4) نبذ الأحلاف العسكرية والخروج من حلف بغداد والالتزام بالحياد ودول عدم الانحياز؛ 5) إلغاء الإقطاع وتشريع قانون الإصلاح الزراعي وتحرير الفلاحين؛ 6) إقامة أفضل الروابط مع الدول العربية، وخاصة مع الجمهورية العربية المتحدة؛ 7) العمل عل تحرير فلسطين؛ 8) إقامة العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية مع جميع البلدان على قدم المساواة؛ 9) العمل على تأمين حقوق الشعب العراقي بثروته النفطية وتامين دخل أكبر لتأمين تنفيذ مشاريعه التنموية؛ 10) العمل على النهوض بالبلاد من حالة التخلف في مختلف المجالات.[27] وهي كما يلاحظ القراء والقارئات أهدافاً طموحة، بعضها واقعي ومطلوب وبعضها الأخر قد اصطبغ بالوهم، كما في الفقرة السابعة والتي كان الجميع، بمن فيهم من كتب هذا الهدف يدرك استحالة تحقيقه وبالوجهة التي كان قد وضعها القوميون العرب في حركة الضباط الأحرار حينذاك، ولا زالوا يتحدثون بذات الخطاب السياسي، في حين لم يعد من فلسطين في عام 1947 أو حتى بعد قرار التقسيم إلا النزر اليسير.     

أهداف جبهة الاتحاد الوطني

حددت اللجنة العليا لجبهة الاتحاد الوطني أهدافها بما يلي: “1) إسقاط حكومة نوري السعيد، وحل المجلس النيابي؛ 2) الخروج من حلف بغداد، والتزام الحياد الإيجابي؛ 3) إطلاق الحريات الديمقراطية، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وإلغاء كل ما يتعارض معها من مراسيم وتشريعات شاذة؛ 4) إلغاء مرسوم الإدارة العرفية، وحل المجالس العرفية، وإطلاق سراح المعتقلين والمسجونين السياسيين، وإعادة المفصولين إلى وظائفهم وكلياتهم ومدارسهم وإلغاء مرسوم إسقاط الجنسية عن المواطنين؛ 5) تعزيز الروابط مع البلدان العربية المتحررة.”[28]

كانت هذه الأهداف بمجملها تعبر عن وعي بواقع العراق وتحمل مسؤولية تغيير هذا الواقع بما يعيد التناغم والانسجام بين النظام السياسي وسياساته وإرادة ومصالح الشعب في الداخل والخارج. ولم تجسد تطرفاً أو عبَّرت عن روح الانتقام من أحد، سواء أكان من العائلة المالكة، أم من النخبة السياسية التي حكمت العراق طوال 37 عاما. وهنا تستوجب الإشارة إلى استحالة السيطرة على ردود أفعال الناس إزاء ما عانوه من الحكم الملكي، بعد انتصار الثورة, وبهذا الصدد يمكن إيراد أمثلة من دول كثيرة حصلت فيها انتهاكات كبيرة، كان ينبغي لها ألَّا تحصل، كما في ثورة 14 تموز في فرنسا، أو ما حصل في العراق بالنسبة لشخصيات ثلاث ليس بقتلهم فقط، بل التمثيل بجثثهم وسحلها وتعليقها على أعمدة في شوارع بغداد أيضا، وهم عبد الإله بن علي، ونوري السعيد، وصباح نوري السعيد، إضافة إلى قتل الملك الشاب فيصل الثاني، الذي كان لتوه قد تسلم العرش، وجميع أفراد العائلة الهاشمية المالكة الذين وجدوا في قصر الرحاب حينذاك. وهي جريمة بشعة نفذها النقيب عبد الستار العبوسي دون قرار صادر عن الزعيم الركن عبد الكريم قاسم، أو عن لجنة الضباط الأحرار، وانتشر خبر مفاده أن عبد السلام محمد عارف هو من أعطى الأمر بقتلهم! وليس هناك من وثائق يمكن بموجبها تأكيد أو نفي هذا الادعاء.

مسيرة ثورة 14 تموز 1958

مرَّت ثورة تموز/يوليو 1958 بفترتين هما:

الفترة الأولى: النهوض والمنجزات وبداية الصراعات والمصاعب

لم تحصل أعمال شغب أو نهب أو سرقات للبيوت والمحلات التجارية، ولم تقع حوادث أمنية، ما عدا الجريمة التي أشرنا إليها بقتل أو بقتل وسحل أفراد من النخبة الحكمة، رغم خروج الملايين إلى شوارع البلاد. فقد عبَّرت الحشود الشعبية عن نضجها العام ووعيها السياسي وحرصها على ممتلكات الدولة والمجتمع. وتجدر هنا المقارنة بين أيام الثورة الأولى عام 1958، وبين ما حصل في بغداد والمدن الأخرى بعد احتلال العراق عام 2003. إذ سمحت القوات الأمريكية التي احتلت بغداد بوقوع عمليات نهب وسلب لدوائر الدولة وبيوت المسؤولين والكثير من المحلات التجارية والبنوك، إضافة إلى الاستيلاء على الكثير منها. شارك في ذلك الكثير من جنود وضباط الاحتلال، لاسيما في نهبهم لثروتنا الوطنية من المتاحف العراقية والقصور الرئاسية والبنوك. إن هذه الأعمال المشينة عبَّرت بعمق ودقة عن حالة الجماهير بعد 35 عاماً أو 50 عاماً من هيمنة القوى البعثية والقومية الشوفينية على الحكم وعن الدكتاتورية والاضطهاد والظلم التي عانت منها تحت حكم حزب البعث، إضافة إلى الحروب والمجاعات التي تسبب بها وعمقها وزاد فيها الحصار الاقتصادي الدولي.

خلال هذه الفترة تم إعلان الدستور المؤقت بمضامين ديمقراطية وتأكيد شراكة العرب والكرد في هذا الوطن، وحرية أتباع الديانات والمذاهب في ممارسة دياناتهم وطقوسهم، وتشكيل مجلس الرئاسة من ثلاث شخصيات سياسية تجمع بين المدنيين والعسكريين، وبين الشيعة والسنة وبين العرب والكرد في أن واحد، والخروج من حلف بغداد ومن منطقة الإسترليني، وعقد اتفاقية تصنيع البلاد مع الاتحاد السوفييتي وإصدار قوانين العمل والعمال والإصلاح الزراعي والأحوال المدنية وتوسيع العلاقات الدبلوماسية مع الدول الاشتراكية وغيرها، والدعوة إلى إقامة أفضل العلاقات مع الدول العربية والمجاورة، والانضمام لدول عدم الانحياز، ومبادرة تشكيل منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، وقرار استعادة 99،5% من الأراضي غير المستغلة التي كانت بحوزة شركات النفط الأجنبية، وتوزيع الأراضي السكنية على العائلات الفقيرة، لاسيما في مدينة الثورة، وتأسيس جامعة بغداد والتوسع في إرسال البعثات والزمالات الدراسية ومكافحة الأمية…الخ.

واجهت هذه الإجراءات ردود فعل متباينة على المستويات الداخلية والعربية والدولية. فعلى المستوى الداخلي وقفت الغالبية العظمى من المجتمع إلى جانب السياسات الاقتصادية والاجتماعية والدولية التي مارستها حكومة عبد الكريم قاسم وأيدتها بحرارة، لأنها كانت تتطلع لها وتحتاجها، في حين كانت مجموعة صغيرة من الفئات التي تضررت بتلك السياسات، ممن أشير إليهم سابقاً، قد رفضت الثورة ومنجزاتها وبدأت تعيد تنظيم صفوفها لمواجهتها. كما برزت صراعات سياسية جديدة في نهاية هذه الفترة بين مجموعتين سياسيتين مختلفتين من جهة، وحكومة الثورة من جهة أخرى، ثم تفاقمت في الفترة الثانية، وهما الحزب الديمقراطي الكردي (الكردستاني)، بسبب الموقف من القضية الكردية وتباين الرأي بينهما، ومن ثم المؤسسات الدينية السنية والمرجعيات الدينية الشيعية بسبب قانون الأحوال المدنية وحقوق المرأة الذي أقرَّ بعضها القانون، ومسائل أخرى تمس التحولات الاجتماعية التي وقفت القوى الدينية كلها ضدها والادعاء بشيوعية قاسم!!

وعلى المستوى العربي برز نشاط عسكري أمريكي في لبنان بهدف التدخل وإفشال الثورة بالتعاون مع الأردن والحكومة اللبنانية في فترة رئاسة كميل شمعون. ولكن الجموع الثائرة وتهديد الاتحاد السوفييتي منع التدخل السافر ضد الثورة. أيدت الجمهورية العربية المتحدة ورئيسها جمال عبد الناصر موقفاً واضحاً مؤيداً للثورة. ولكن سرعان ما اتخذت خطورة أخرى على لسان رئيسها جمال عبد الناصر بدعوته لإقامة الوحدة مع مصر وسوريا. علماً بأن الدولتين كانا لتوهما قد أعلنا الوحدة بينهما. وحين رفضت حكومة قاسم تنفيذ هذا الشعار اتخذت الجمهورية العربية المتحدة موقفاً مناهضاً لحكومة قاسم. تبنت القوى القومية والبعثية شعار الوحدة وجعلته هدفاً مركزيا لها مما أدى إلى انشقاق الشارع العراقي إلى مجموعتين، إحداهما ايدت الوحدة وأخرى رفعت شعار الاتحاد الفيدرالي لتجاوز شعار الوحدة، رغم إن الوضع لم يكن مناسباً لكلا الشعارين. وتسبب هذا الصراع إلى نشوب خلاف جديد مع الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي طرح السؤال التالي: كيف سيكون وضع الكرد وكردستان في حالتي الوحدة أو الاتحاد؟ علماً بأن الجميع، بمن فيهم الكرد، بأن الوضع لا يساعد على إقامة الوحدة أو الاتحاد الفيدرالي.

لم تكتف الجمهورية العربية المتحدة بطرح هذا الشعار، بل نظمت تحالفا ضد الثورة ونهجها وموَّلت القوى القومية والبعثية وكل المناهضين للثورة بالمال والسلاح والعتاد وسخَّرت الإعلام المصري والسوري وأسست إذاعة خاصة لتبث من دمشق باسم العراق. لم يمر على الثورة عامها الأول حتى نفذ أول تمرد وتآمر على جمهورية 14 تموز من جانب القوميين والبعثيين ومن ساندهم من القوى المتضررة من الثورة. وحصل هذا التآمر بعلم وتأييد تامين من عبد الناصر ومكتب المخابرات المركزية الأمريكي، حين تحرك العقيد عبد الوهاب الشواف ونفذ تمرداً فاشلاً في الموصل في أذار/مارس 1959. وقد أدى ذلك إلى توترات إضافية شديدة في أوضاع البلاد السياسية، وإلى نزوح كبير للعائلات المسيحية وعائلات شيوعية إلى بغداد بسبب حملة إرهابية واغتيالات مكثفة ضدهم جرت في الموصل.

لم تستطع الدول الرأسمالية وشركات النفط الاحتكارية قبول الثورة وعواقبها على وجودها العسكري ومصالحها الاقتصادية والسياسية في العراق، بما اتخذته حكومة الثورة من اجراءات عرَّضت الكثير من مصالحها ومواقعها إلى مخاطر جمة لا في العراق فحسب، بل في منطقة الخليج وعموم الشرق الأوسط، مما دفعها إلى الدخول في عملية تآمر واضحة ضد الوضع الجديد والسعي لتشويهه في الصحافة والإعلام الدوليين وإثارة الإشكاليات الداخلية وتمويل القوى المتآمرة.

لم يكن الوعي السياسي للأحزاب السياسية العراقية كلها دون استثناء، رغم وجود تباين فيما بينها. فالقوى القومية والبعثية استخدمت أسلوب بث الإشاعات وممارسة الاغتيالات السياسية والتآمر، في حين أيدت قوى سياسية أخرى نظام الحكم الجديد، كما لم يكن قاسم والحكومة على مستوى المسؤولية الكبيرة. وكانت الحكمة القديمة تقول: القيام بالثورة أسهل بكثير من الاحتفاظ بها وبزخمها وتنفيذ سياساتها وتطويرها وحمايتها. في هذه الفترة بالذات، لاسيما بعد محاولة اغتيال قائد الثورة الزعيم الركن عبد الكريم قاسم من جانب قوى حزب البعث، برزت بشكل واضح أولى علامات اهتزاز الوضع وانفراد قاسم بالسلطة وقراراتها وإجراءاتها والاستفادة من صراع القوى والأحزاب السياسية العراقية لتعزيز مواقعه، وسعيه لتكريس وجود القوات المسلحة في السلطة من خلاله، والتخلي عن الوجهة الأساسية التي كان على الحكم السير صوبها، أي إرساء أسس الحياة الديمقراطية واعتماد دستور ديمقراطي متقدم ودائم وإجراء انتخابات نيابية، أي البدء بتسليم السلطة إلى المدنيين وعودة القوات المسلحة إلى معسكراتها لحماية حدود البلاد.

لقد حصلت صراعات حادة بين القوى الوطنية والديمقراطية واليسارية من جهة، والقوى القومية والبعثية ومن ساندها من قوى النظام السابق من جهة ثانية، واستقطب الوضع حول وجهة تطور البلاد وتركز على شخصين هما عبد الكريم قاسم وعبد السلام محمد عارف على التوالي، رغم إن الصراع كان أبعد وأعمق من أن يقتصر على الشخصين المذكورين، إذ كان على اتجاهين في السياسة والاقتصاد والحياة الاجتماعية. ورفعت الجماهير الواسعة، التي ملأت شوارع العاصمة والمدن الأخرى، شعارات منها: عاش الزعيم الأوحد عبد الكريم قاسم، والحزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيم، والاتحاد الفيدرالي، ولم يكن لقيادة الحزب الشيوعي دور في ذلك، ولكنها لم تقف ضدها. في حين برَّزَ البعثيون والقوميون وقوى رجعية عبد السلام محمد عارف وهتفوا لجمال عبد الناصر، ورفعوا شعار الوحدة وعملوا بقوة ودأب ضد قاسم والشيوعيين وكل الديمقراطيين. وكان الوضع يزداد تأزماً. فتوجه قاسم بالقمع ضد القوميين والبعثيين بحدود ضيقة جداً وأعدم شخصيات عسكرية منهم بتهمة التآمر. ولم يكن ضرورياً في كل الأحوال، بل عمق ووسع دائرة الصراع. ثم بعد فترة وجيزة غير الدفة، إذ توجه بالقمع ضد الشيوعيين والديمقراطيين، لاسيما بعد وقوع الصراعات الدموية في الموصل وكركوك وسقوط قتلى وجرحى، ثم البدء بعمليات اغتيال للشيوعيين والديمقراطيين في مختلف مدن العراق من جانب قوى البعث والقوميين، إضافة إلى قيام الحكم باعتقال إعداد غفيرة من الشيوعين وزجهم في السجون بسبب رفعهم شعار “السلم في كردستان”، بعد أن بدأت المعارك بين الجيش العراقي والقوات المسلحة الكردية في أيلول عام 1961.

وفي الفترة الأولى، ومن أجل حماية مكاسب الثورة، اعلنَ قاسم قرار تشكيل المقاومة الشعبية رسمياً، وكان الشيوعيون واليساريون والديمقراطيون المستقلون قوامها الأساس. لعبت هذه المنظمة شبه العسكرية تحت قياد ضابط حكومي هو العقيد طه مصطفى البامرني، الذي كان قبل آمر الحرس الملكي، الذي عينه رئيس الحكومة، دوراً في مواجهة بعض الأعمال المعادية والكشف عن بعض مؤامراتها، ولكن المعلومات الحيادية المتوفرة تشير إلى ارتكاب بعض الأخطاء من قبل بعض الشباب الأعضاء فيها وإساءة تصرف في هذه المدينة أو تلك. وقد شن المعادون للثورة حملة شعواء موجهة ضد المقاومة الشعبية، مما أدى إلى إعلان حلها وتعرض أفرادها إلى حملة ظالمة من جانب القوى المعادية للثورة. ولا بد من الإشارة الواضحة بأن العقيد البامرني لم يكن عضواً في حركة الضباط الأحرار ولا عضواً أو مؤيداً للحزب الشيوعي العراقي، بل كان ضابطاً احتضنه عبد الكريم قاسم وكان ملتزماً بما كلف به في قيادة المقاومة الشعبية.[29]

أصدرت حكومة الثورة قراراً بتشكيل محكمة الشعب لمحاكمة النخبة القيادية الحاكمة في العهد الملكي، وفيما بعد، أولئك الذين اتهموا بالتآمر في أحداث الموصل وكركوك. وإذا كانت ضرورية ومعبئة في البداية، فإنها تحولت بمرور الوقت إلى منبر للخطابة والدعاية والسخرية من المتهمين والدعاية المكثفة للزعيم الركن قاسم. وأصبحت المحكمة غير متناغمة مع أصول المحاكمات الشرعية وحقوق الإنسان وحقوق المتهمين مهما كانت التهم الثقيلة الموجهة لهم، إلِّا إنها كانت تحاكي مزاج غالبية الناس وتتناغم مع مستوى وعيهم ومدى إدراكهم لحقوق الإنسان. وهي الأخرى تعرضت مع رئيسها فاضل عباس المهداوي إلى حملة كبيرة أدت في النهاية إلى إنهاء عملها.

فترة الانتكاسة والسقوط للعهد الجمهوري الأول

الفترة الثانية: فترة الانتكاسة والإجهاز على الجمهورية الأولى

بدأ الوضع الداخلي يزداد تعقيداً وتشابكاً. فما أن بدأ الجيش عملياته العسكرية ضد قوات الپيشمرگة الكردستانية في خريف عام 1961، وما أن أعلنت القيادة الكردية “ثورة أيلول” من نفس العام، ورفع الحزب الشيوعي العراقي شعار “السلم في كردستان”، حتى بدأت حملة اعتقالات واسعة في صفوف الشيوعيين وأعضاء في الحزب الديمقراطي الكردستاني في بغداد والألوية الكردستانية وإصدار أحكام سريعة وقاسية بحق المعتقلين وزجهم في السجون، فنشأ توتر ملحوظ وضار بين الحزب الشيوعي وعبد الكريم قاسم. وكانت أجهزة الأمن والقضاء مستعدة لهذا الغرض، لأنها لم يحصل فيها التغيير المنشود وتعاملت بشراسة، وربما أكثر مما كان يسعى إليه قاسم. كما بدأت الجماعات الإسلامية الشيعية تتجمع تحت واجهة الحزب الفاطمي وتتحرك ضد حكومة قاسم وتشديد التهم ضده وضد الشيوعيين. وفي الوقت ذاته رفع البعثيون والقوميون سقف هجومهم الشرس على الحكم والقوى الديمقراطية اليسارية والحزب الشيوعي بدعم مكثف وشامل من جانب الجمهورية العربية المتحدة ورئيسها جمال عبد الناصر ودول الخليج والسعودية ودول حلف بغداد. وتمادى كبار ملاكي الأراضي الزراعية في الريف العراقي في تصديهم لتنفيذ بنود قانون الإصلاح الزراعي بدعم مباشر من الجهاز الإداري في القطاع الزراعي وتعطيله واتهام الفلاحين بالتعرض لهم، مما أدى إلى حصول توتر في الريف واتهام الحزب الشيوعي بالوقوف وراء ذلك أيضاً، لاسيما تنامي شعور لدى الفلاحين بابتعاد حكومة الثورة عن مساندتهم وحل مشكلاتهم المتفاقمة وعواقبها السلبية على الإنتاج الزراعي وعلى حياتهم. كل هذا أشَّر تحولاً ملموساً عن المبادئ والحياة الديمقراطية التي أعلنت عنها حركة الضباط الأحرار وبرزت في أعقاب ثورة تموز حتى بداية خريف عام 1959 وبداية عام 1960. فما هي العوامل الكامنة وراء هذا التراجع في مسيرة ثورة 14 تموز 1958؟

 إنني كمتابع لأحداث تلك الفترة يمكنني تسجيل الاستنتاجات التالية:

أدرك عبد الكريم قاسم شدة الأزمة الداخلية المتفاقمة التي تعيشها البلاد والثورة، ولكنه لم يرَ السبب في سياساته وإجراءاته وابتعاده عن العمل الحكومي الجماعي والانفراد الفعلي بالسلطة، بل عزاها لغيره وللأحزاب السياسية العراقية. لهذا لم يطرأ على باله تغيير دفة السياسة لصالح الدولة الديمقراطية والمجتمع المدني والبدء بإنهاء فترة الانتقال بوضع دستور دائم والتهيئة لانتخابات برلمانية ديمقراطية لنقل السلطة إلى القوى المدنية وإقامة الدولة الديمقراطية والمجتمع المدني وعودة القوات المسلحة إلى ثكناتها. بل راح قاسم يفجَّر الصراعات مع القوى والشركات الأجنبية ودولها. وقد لعبت هذه السياسة دورها في زيادة حدة التوتر في الأوضاع الداخلية والخارجية. كان يأمل امتصاص الاحتقان الداخلي. ولكن ما حصل كان عكس توقعاته تماماً.

فقد عمد إلى المطالبة بالكويت، باعتبارها جزءاً من ولاية البصرة منذ العهد العثماني وقبل ذاك أيضاً. وهي حقيقة من حيث المبدأ وكانت قبل ترسيم الحدود من جانب الاستعمار البريطاني. بهذه المطالبة هيج ضده بريطانيا ودول الخليج والسعودية مرة واحدة، فبدأ العمل المكثف لتوفير الحلفاء في الداخل للانقضاض على الحكم الوطني.

ثم بدأ قاسم معركة جديدة مع شركات النفط الأجنبية وألزمها على التفاوض لاستعادة بعض حقوق العراق في نفطه، لاسيما موضوع “تنفيق الريع” وما إلى ذلك. وبهذا حرك شركات النفط الاحتكارية وكل الدول الرأسمالية التي تقف مع هذه الشركات ضده. كما لم تكن الدعوة إلى تشكيل الأوبك موقع ارتياح من قبل شركات النفط العالمية ولا الدول الرأسمالية.[30]

ولا شك في أن وقوف الحكومة العراقية إلى جانب الحياد الإيجابي والتحرر من حبائل الحرب الباردة والعمل مع دول عدم الانحياز، قد حركت العالم الغربي ضد العراق واُعتبرت سياسات قاسم كلها موجهة ضدها ومساندة للاتحاد السوفييتي وحلفاءه، وأنها كلها ناجمة عن وجود ودور للشيوعيين في البلاد وتأثير الحزب الشيوعي على قاسم وحكومته وسياساته!!

في ذات الفترة أجرى قاسم تغييرات واسعة في قيادات الفرق العسكرية العراقية، إذ أبعد الشيوعيين والديمقراطيين أو الذين شعر بأنهم إلى الحزب الشيوعي العراقي أو يتعاطفون معه إلى مواقع بعيدة عن العاصمة بغداد، ونسَّب مكانهم عناصر قومية وبعثية، أو من الضباط القدامى من العهد الملكي الذين لا يكنون الود لحكومة قاسم. وقدم قاسم بهذه التنقلات أكبر خدمة ممكنة غير مقصودة لتلك القوى التي كانت تتآمر عسكرياً ضده وضد الجمهورية الأولى.

رفض قاسم بإصرار عجيب، رغم حديثه عن تشكيل لجنة لوضع دستور دائم وإنهاء فترة الانتقال، إلى تحديد فترة الانتقال وإنجاز ما هو ضروري، إذ إن الواقع الفعلي كان يشير إلى خمس مسائل حاسمة:

إنه لا يريد التخلي عن السلطة مقرونة باشتداد النزعة الفردية في حكم البلاد وفي اتخاذ القرارات، وعدم عودته للحكومة ولا حتى استشارتها فيما يتخذه من إجراءات.

وهو غير راغب بوضع دستور دائم في الوقت الحاضر ولا يميل إلى إجراء انتخابات برلمانية أو حياة ديمقراطية دستورية.

وأنه مصر على بقاء العسكر في السلطة، وأن يبقى هو القائد العام للقوات المسلحة ورئيس الحكومة في آن واحد، كما أضعف دور مجلس السيادة الثلاثي كلية. 

وأنه قد حقق تفوقه على القوى الأخرى بتأييد الشعب له، باعتباره الزعيم الأوحد للبلاد. وبهذا بدأت محاولاته التخلص من دور وتأثير الحزب الشيوعي على الجماهير من جهة، ودور القوميين والبعثيين من خلال ضرب بعضهم، أو إعادة بعضهم لمواقع المسؤولة من جهة أخرى، لإرضاء بعض الدول العربية.

وأن تكون المعارك الخارجية التي أثارها مساعدة له في تخفيف الاحتقان الداخلي وإشغال الناس بقضايا وطنية مثل “استعادة الكويت” ومفاوضات النفط.

مع هذا التراجع في سياسة قاسم واعتقاله المزيد من الشيوعيين والديمقراطيين وإبعاد الضباط الشيوعيين والديمقراطيين عن مواقع المسؤولية في القوات المسلحة، برز صراع ملموس في قيادة الحزب الشيوعي العراقي واللجنة العسكرية التابعة للحزب، دار حول الموقف من دور عبد الكريم قاسم وحكومته. كان الرأي الأول يميل إلى إجراء تغيير في العراق اعتماداً على قدرات الحزب والقوى الديمقراطية القريبة منه في القوات المسلحة، في حين رفض الرأي الآخر ذلك وأكد ضرورة العمل مع قاسم ومساعدته في تجاوز العثرات الراهنة في سياساته. تغلب الرأي الثاني في الحزب، كما وجد التأييد من جانب الاتحاد السوفييتي، الذي رأى في حكومة عبد الكريم قاسم وفي العراق دولة متحررة وصديقة يستوجب دعمها. ولا يعرف حتى الآن ما إذا كان فحوى هذا الصراع قد وصل إلى آذان عبد الكريم قاسم، فضلاً عن الشعار الخاطئ الذي رفعته الجماهير “الحزب الشيوعي في الحكم مطلب عظيم”، فانتفض ضد الحزب وقرر معاقبته بالطريقة التي أدت إلى عواقب وخيمة عليه وعلى الحزب الشيوعي وعلى الشعب العراقي كله، رغم أن قرار قيادة الحزب الشيوعي النهائي كان لصالح العمل مع قاسم ودعمه.

لقد كانت تحركات المتآمرين صارخة ومفضوحة، يسمعها ويتلمسها كل إنسان يمتلك حساً سليماً ورؤيةً سياسية واقعية وناضجة. وفي حينها تلقى الحزب الشيوعي العراقي معلومات كثيرة ودقيقة تشير إلى استعدادات قوى التآمر، بُلّغَ بها عبد الكريم قاسم أكثر من مرة. لم يأبه بها واعتبرها، كما يبدو، مناكدة من الحزب الشيوعي ضد البعثيين والقوميين! وكان يؤكد باستمرار بأن الجيش والشعب معه ولن يخشى أحدا. فكانت الطامة الكبرى، وكان الانقلاب الفاشي الدموي الذي قاده حزب البعث وأشرفت عليه وكالة المخابرات المركزية ووفرت له المعلومات لتنفيذ مجزرة رهيبة ضد قادة الثورة والحزب الشيوعي العراقي، وضد القوى الديمقراطية وحركة التحرر الوطني في العراق.

يجري الحديث عن نزاهة ووطنية قاسم وعن دوره في الخلاص من النظام الملكي وإصداره التشريعات الديمقراطية المهمة. هذا الكلام صحيح جداً وتماماً، ولا يشك فيه حتى أعداء قاسم. ولكن النزاهة والوطنية وحب الفقراء ومأثرة قيادة الثورة سمات طيبة ومهمة، غير إنها ليست كافية لوحدها لقيادة البلاد وحماية المكاسب ومصالح الشعب، بل لا بد لها أن تقترن بوعي عميق وقناعة تامة بالنظام السياسي الديمقراطي والحياة الحرة والدستورية والبرلمانية، والمجتمع المدني الديمقراطي والعلماني، والتداول السلمي الديمقراطي للسلطة والالتزام بدور القوات المسلحة كمؤسسة في حماية حدود الوطن وليس حكم البلاد أو التدخل في شؤون الحكم. يفترض في الحاكم الديمقراطي أن يعي مسؤوليته إزاء الشعب والوطن، وأن يتصرف بحكمة وعقلانية وروح جماعية إزاء مصائر البلاد. لم يتمكن قاسم، كما أرى، وعي الأوضاع الإقليمية والدولية المحيطة به والتي لم تكن إلى جانبه، بل كانت كلها تعمل بسرعة وكثافة ضده. لم تكن تلك المتطلبات الديمقراطية متوفرة في قاسم بفعل تربيته العسكرية وحبه للسلطة وقناعته بانه الشخص الأفضل والأمثل والأكثر إخلاصاً في خدمة الشعب وحماية الوطن والأكثر صدقاً في الدفاع عن الفقراء، وأن الشعب كله والجيش معه ولن يخذلاه! وقد لعبت الجماهير الشعبية دوراً ملموساً فيما يمكن تسميته بنشوء هذه الرؤية الذاتية والنرجسية لدى قاسم.

لم يكن عبد الكريم قاسم وحده المسؤول عما حصل في العراق، لكنه كان المسؤول الأول، بل تتحملها معه القوى السياسية الديمقراطية والتقدمية واليسارية التي لم يكن وعيها ونشاطها بالمستوى المطلوب، بما يسهم في تجنيب المجتمع ما حصل له في انقلاب شباط/فباير 1963 وما بعده. ولكن المسؤولية الكبرى والأساسية في كل ما حصل للشعب والوطن تتحملها تلك القوى التي تآمرت على العراق والحكم الجمهوري الأول وعلى المكاسب الوطنية والديمقراطية التي تحققت للشعب خلال فترة قصيرة من عمر الجمهورية، فضلاً عن القوى العربية والإقليمية والدولية وشركات النفط الاحتكارية التي شاركت القوى الداخلية في عدائها للثورة ومكاسبها ولعبد الكريم قاسم بالذات. لقد لعبت الولايات المتحدة ووكالة المخابرات المركزية ودول حلف بغداد، ولاسيما الجارة إيران، والدول العربية، لاسيما، مصر ودول الخليج والسعودية والأردن دوراً عدوانياً مباشراً ضد الشعب العراقي والجمهورية الأولى وضد قائد ثورة تموز 1958.

إن ما حصل في 8 شباط/فبراير 1963 حتى سقوط نظام التحالف البعثي-القومي-الرجعي-الأمريكي من مجازر دموية ضد قادة الثورة وضد قادة وكوادر وأعضاء وأصدقاء الحزب الشيوعي والقوى الديمقراطية ومناصري قاسم وضد المجتمع عموماً، فضلاً عن جريمة قطار الموت وإعدام المناضلين الشجعان حسن سريع ورفاقه، وزج الآلاف في السجون والمعتقلات وتنفيذ عمليات التعذيب في قصر الخزي والعار، قصر النهاية المشؤوم، لكفيل بفضح الأهداف الإجرامية والخيانية الوطنية لقادة هذا الانقلاب الفاشي في أساليبه والخياني في أهدافه وعمالة منفذيه. ولم يكن غريباً أن يصرح نائب رئيس وزراء حكومة الانقلاب علي صالح السعدي في لحظة صحوة ضمير” جئنا بقطار أمريكي!”[31] ويبدو أن القطار الأمريكي والقطار الإيراني لا زالا يعملان في أوضاع العراق الراهنة!

الهوامش والمصادر

[1]  د. راجع: رشيد الخيون، نوري السعيد وبريطانيا، الرسالة العراقية.

[2]  قارن: بدر خالد البدر، مع قافلة الحياة، 1987، الكويت.  

[3]  راجع: د. فالح مهدي، “مقالة في السفالة: عن حاضر العراق”، دار سطور، بغداد، 2019.

[4]  راجع: محمد حمدي الجعفري، بريطانيا والعراق، حقبة من الصراع 1914-1958، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2000، ص 145.

[5] راجع: حسين مروّة، ثورة العراق، دار الفكر الجديد1958، ص 33.

[6] راجع: فارس كريم فارس، “مستقبل العراق وأثره على الاستقرار الإقليمي، معهد البحوث والدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية في القاهرة عام 2015م.

[7]  راجع: د. كاظم حبيب، يهود العراق والمواطنة المنتزعة، دار المتوسط، إيطاليا، 2015.

[8] راجع: الدكتور عدنان الباجه جي، “مزاحم الباجه جي سيرة سياسية”، منشورات الوثائق والدراسات التاريخية، لندن، 1989، ص 410-415.

[9] راجع، محمد علي الشبيبي، من أعماق السجون، موقع الحوار المتمدن، 2012.

[10] قارن: عبد المنعم تقي، حادثة سجن الكوت سنة 1953، ملاحق المدى، 28/07/2013.

[11] راجع: جاسم الحلوائي، حدث هذا قبل نصف قرن 4-4، الحوار المتمدن، عن حالة السجن بين 05/05/-09/07/2015.

[12] راجع: حامد الحمداني، ثورة 14 تموز في نهوضها وانتكاساتها واغتيالها، دار نشر فيشون ميديا-السويد، 2006، ص 60.

[13] راجع: ميثاق ثم حلف بغداد 1955، جريدة المدى، العدد 3015، بتاريخ 23/02/2014.

[14] قارن: صبري، أنور والخالدي، أسعد. تجربة الإصلاح الزراعي في العراق. ط 1. مطابع دار الثورة. بغداد. 1974. ص 46.

[15] راجع: د. كاظم حبيب/ لمحات من عراق القرن العشرين، المجلد الخامس، العراق بين نهاية الحرب العالمية الثانية وسقوط النظام الملكي، دار أراس، أربيل، 1913.

[16]  راجع: د. عقيل الناصري، الجيش والسلطة في العراق الملكي 1921-1958، دار الحصاد، ط1، 2000، ص 135.

[17] المصدر: نبيل ياسين، التاريخ المحّرم، قراءة تحليلية وقائعية للفكر السياسي العربي – العراق نموذجا، الطبعة الأولى 1998.

[18] قارن: منتدى سماعي الطرب (موقع الكتروني).

[19] راجع: أ. د. سيّار الجميل، العراق 1958 في الوثائق البريطانية الحلقة الثانية: نوري باشا السعيد، موقع الدكتور سيّار الجميل.

[20] موقع المعاني عربي عربي)، موقع الكتروني.

[21]  محمود درويش، لا أحد يحن إلى وجع، موقع أدبنا، 14/09/2016.

[22]  أرشيف الكاتب كاظم حبيب.

[23]  المصدر السابق نفسه.

[24]  راجع: د. كاظم حبيب، دراسة في اتجاهات ومشاكل التطور الصناعي في العراق للفترة 1917-1963، مجلة الجامعة المستنصرية، العدد 2، السنة 1971، مطبعة سلمان الأعظمي، بغداد، 1971.

[25] راجع: كاظم حبيب، ذكريات مرة في ضيافة التحقيقات الجنائية- بمناسبة اليوم العالمي ضد التعذيب، نشر في الحوار المتمدن بالعدد 880 بتاريخ 30/06/2004 في محور حقوق الإنسان.

[26] قيس الزبيدي، رسالة خاصة في أرشيف الكاتب كاظم حبيب.

[27] قارن: حامد الحمداني، ثورة 14 تموز في نهوضها وانتكاساتها واغتيالها، فيشو ميديا-السويد، 2006، ص 172/173.

[28]  قارن: المصدر السابق نفسه.

[29] راجع: رفعة عبد الرزاق محمد (إعداد)، تقرير العقيد طه البامرني آمر الحرس الملكي عن احداث 14 تموز، ملاحق جريدة المدى اليومية » الأخبار » الملاحق » ذاكرة عراقية، تاريخ النشر: الأحد 14-07-2013.

[30] راجع: الدكتور عبد الله إسماعيل، مفاوضات العراق النفطية،1952-1968، دار نشر لام، لندن 1989، الملاحق.

[31] راجع: محاضر مجلة الطليعة المصرية لعام 1964 في لقاء بين هيئة تحرير المجلة وعلي صالح السعدي في مقر المجلة في القاهرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *