نوفمبر 22, 2024
غع

اسم الكاتب : سليم الحسني

في الحلقة (60) من هذه السلسلة، كتبت بشكل مباشر واضح، عن فساد الكتل السياسية بلا استثناء، وعن فساد المثقفين والإعلاميين المرتبطين بهم من خلال اعتياشهم على قادة هذه الكتل، فيما لو أحجموا عن مطالبة القادة الذين يتبعونهم أو يتعاطفون معهم بكشف الفاسدين.

وكتبت أقول ان من المستبعد أن يظهر موقفاً من الكتّاب والإعلاميين ضد قادة هذه الكتل، بمعنى أنهم يدركون أن قادتهم فاسدون وأن كتلهم فاسدة. ولكنهم لا يستطيعون التعبير عن ذلك إما بسبب الحاجة المالية في هذه الظروف المعيشية القاسية، أو بسبب الخوف من إنتقام القادة بالقتل والخطف والاعتداء، أو لأن بعضهم يمتهن الاعتياش ومستعد للتقلب على القادة تبعاً لقاعدة الولاء لمن يدفع أكثر.

على الفضائيات، يظهر بعض الأشخاص يدافعون بشدة عن هذا القائد وذاك، ويخوضون نقاشات حادة ضد محاوريهم من الضيوف الآخرين، وحين ينتهي اللقاء، يتبادلون فيما بينهم النكات والسخرية من القادة الذين كانوا قبل دقائق يوهمون المواطن بأنهم يدافعون عنهم بحماسة الحريص على الحقيقة.

هذا المشهد البائس لا يختلف عن النواب حين يظهرون يتصارخون ويتنافخون غضباً حول قضية معينة، وعندما يبتعدون عن الكاميرات يوقّعون على صفقات الفساد، أو يشتركون في غلق ملفات الفساد.

يمتلك الاعلامي والمثقف الحق في الحفاظ على حياته من بطش القادة وأتباعهم فلا يجرؤ على الكلام علناً، وللاعلامي الآخر الذي يريد أن يسد رمقه ويعيل عائلته العذر ايضاً حين ينشد إطعام ابنائه، فلا يستطيع ان يدين القائد الذي يعمل في مؤسسته.

لكن الإدانة تتجه لهذا المعتاش الذي يمتهن الخداع من أجل المكسب المالي والمنفعة الشخصية، فيؤجر قلمه وصوته لمن يدفع أكثر.

إن هذا المعتاش لا يشكل حالة طارئة في الوسط الإعلامي، كما أنه لا يشغل مساحة صغيرة، ولن يكون عمره المهني قصيراً. فلقد تجمعت عوامل الخراب منذ زمن طويل بسبب هذا النموذج في العراق ـ وفي بلدان كثيرة ـ لقد كان هذا النموذج هو الحالة الشائعة في زمن صدام، وحين سقط عام 2003، جاءت الفرصة الكبيرة والسهلة، لإنهاء هذه الظاهرة من المشهد العراقي، بفضل الحرية أولاً، وبفضل امكانية البناء الصحيح للدولة، لكن ذلك لم يحصل.

فالحرية العامة في المجتمع، تحكّم بها بعض قادة الكتل ففرضوا الخوف على الإعلامي المستقيم والصريح، فقطعوا لسانه وكسروا قلمه بالخوف من سطوتهم. أي أنهم جعلوها حرية انتقائية، فهي متاحة للمؤيدين، ومحرّمة على المعارضين لقائدهم.

أما بناء الدولة فكان وهماً كبيراً، نتج عنه الجوع والفقر والإقصاء للكفاءات الاعلامية والمثقفة التي تريد أن تقول الحقيقة، فما كان من هؤلاء إلا الوقوع تحت ضغط المعيشة الصعبة، فتحاشوا النقد وابتعدوا عن كشف فضائح القادة، وإلا صاروا على الرصيف مع عوائلهم، أو تعرضوا للقتل والمضايقة والاعتداء.

ولم يربح من هذا الخراب والتردي والفساد المتفشي، إلا الفئة الثالثة وهي المعتاشة بالصوت والقلم، وهؤلاء هم الذين يصنعون الرأي في مساحات كبيرة من المجتمع، إنهم يعلمون على إبقاء الإرادة ميتة في صدور الأتباع، ويعملون على تجميد عقولهم، وعلى توجيه أنظارهم باتجاه شخص واحد فقط، هو القائد الذي يكون مقدساً أو حكيماً أو أملاً أو استثناءً من بين الآخرين.

هذه الفئة الثالثة هي التي تدعونا الى تسليط الضوء عليها، في مهمة تضامنية يتعاون عليها المواطن الحريص والقارئ الواعي، لأنها تمثل جهاز التضليل للرأي العام، وتشكل خط الدفاع الذي يعتمد عليه المسؤول الفاسد.

لقد استطاعت الكثير من الشعوب التخلص من بؤسها وتعاستها، عندما تمكنت من كشف هذه الفئة من الإعلاميين المعتاشين، فصارت عملية الاصلاح سهلة. والمثل القريب على ذلك، ما فعله التونسيون من خلال مواقع التواصل الاجتماعي وفي مقدمتها (الفيسبوك)، وتبعهم المصريون حين أبعدوا عن المشهد الفئة المعتاشة من الاعلاميين، فظهر بقوة الموقف المعارض ضد مبارك حتى تم اسقاطه، ثم كرروا الأمر نفسه مع حكم الاخوان برئاسة مرسي.
لو اعتمد المواطن والقارئ والمتابع، عملية رفض علنية لما يكتبه ويتحدث به المثقف والإعلامي المعتاش في دفاعه عن قائده، لأمكن صناعة خطوة مهمة باتجاه تحرير الإرادة وتحريك العقل باتجاه البناء، بعد أن يفقد القادة الفاسدون، أجواء الحماية الاعلامية والتضليل المهيمن على الاتباع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *