اسم الكاتب : عبد الحميد الصائح
مهما أوتينا من المعرفةِ بالتفاصيلِ والافتراض والتقمّص لا يمكنُ تحسّسُ آلامِ وآثارِ عمليات التعذيب وانت تستمع اليها ممن تعرّضَ لها فعلاً وعاشَ مأساتها في دهاليز السجون والمعتقلات التي تشهد اهانة الجنس البشري بشتى الصور. فالتعذيب هو أقسى ما يمرّ على الإنسان من فعلٍ وحشي مهما كانتْ مبرراتُه، وهو أسوأ ما جادتْ به تجربةُ الوجودِ الإنساني، بل إنه رغمَ المتغيراتِ الهائلة وتطورِ سبلِ الحياة والمعيشة والنظام والسلطة، ظلّ “ابرز ثمرات الحضارة التي تُميّزُ الإنسان عن سائرِ الحيوانات ” على حدّ تعبيرِ بير نهاردت ج هروود في كتابه المهم “تاريخ التعذيب”، فالوحوش لا تقتلُ المخلوقات الأخرى “لمجرد الابتهاج”. والوحوش لا تبني معسكراتِ اعتقالِ أو غرف غاز. ولا تعذّب الوحوشُ أبناءَ جنسِها إلى أنْ تُهلكَهم ألماً. ولا تمارسُ الوحوشُ متعةً جنسيةً منحرفةً على حسابِ معاناةِ أقرانِها وآلامهم، ومع أنّ هروود يستعرضُ تاريخَ التعذيب منذُ العصور القديمةِ بآلياتِه وطرقِه ومشاهدِ القسوةِ التي يوظّفُ الجلاّدون فيها الخيالَ والابتكارَ لتعذيبِ ضحاياهم ، الاّ أنّ الأسبابَ ظلتْ في حدودِ دافعَين أساسيّين؛ السلطة والعقيدة . فتعذيبُ العبيد والمتمردين على سلطات الملوك يقابله تعذيب المتهمين بالتجديف والاختلاف مع السلطات الدينية ، وماذهب من بين هؤلاء من أبرياء لاهم مجدّفون كافرون ولاهم متمردون معارضون . فجَزُّ الرؤوس ورميُ أجسادِ الضحايا للحيوانات والحشرات وتقطيع الأوصال والإبادات الجماعية من خنق بالغاز للعوائل والاطفال و احراق المخيمات واعدام العلماء واذابة الاجساد في احواض التيزاب والمقابر الجماعية ، الى مايدور في الغرف المغلقة من كوارث تمارس ضد الجسد البشري بهدف انتزاع اعتراف أو عقاب انتقامي . يظل عملاً وحشيّاً غيرَ مبرّر مهما كانتْ دوافعُه.
وانقاذاً لصنفِ البشر من هذا العارِ الأسطوري؛ ذهبتْ المنظماتُ الدولية والتجمعاتُ المنادية بالحقوق الى وضعِ لوائحَ لمناهضةِ التعذيب ومراقبةِ سلوكِ السلطاتِ السياسيةِ والدينيةِ في العالم التي تحوم حولها شبهة ممارسة التعذيب في ادارتها وضوابطها الخاصة .
أقل مايمكن عملُهُ في هذا الاتجاه هو تذكّر ضحايا التعذيب في العالم واتخاذ يوم عالمي لمساندة ضحاياه .
تداعى ذلك كله وانا استمع الى شهادات مفزِعة من نساء ورجال في أعمار متقدمة تعرّضوا للتعذيب في زمن نظام صدام من خلال مبادرة سفارة العراق في بريطانيا الأحد الماضي لإحياء اليوم العالمي لمناهضة التعذيب كلمات – استذكار – شهادات ومعرض فوتغرافي ووثائقي لجانب من عمليات التعذيب وصور لضحاياه العراقيين . حيث ترى وتسمع من الضحايا مباشرة مأساة تكسير الاطراف وتعذيب الأطفال أمام امهاتهم وتعذيب النساء أمام ازواجهن و تقطيع أوصال من جسَدٍ حيّ يرى اوصاله مقطّعة بعينه. بل الأكثر من ذلك هو تخيّل مالمْ نسمعه من الذين استشهدوا أوشلت قدراتهم بفعل التعذيب . ولعل أهمّ اشارةٍ في التجمّع وردتْ في كلمةِ سعادة السفير السيد جعفر محمد باقر الصدر الذي حذر وهو يستذكر ماجرى في اقبية النظام السابق الذي كان التعذيبُ منهجاً في تعامله مع منتسبيه ومناهضيه على حد سواء ، من أساليب التعذيب والظواهر الحالية التي وصفها النائب أحمد الجبوري رئيس لجنة السجناء والشهداء والمعتقلين بالفردية وغير المنضبطة التي تحدث اليوم وتخلف المزيد من الضحايا .
إن الأسوأ من التعذيب نفسِه هو نسيانُه وعدمُ تذكّر ضحاياه ، ولذلك فانّ إحياءَ هذا اليوم مع كل مناسبة شعبية أو عيد وطني أو ديني انما يهدف الى التذكير بجرائم الطغاة والتحذير من تكرارِها لخلق مجتمعٍ متحضر ، حيث لاتحضر ولامدنية مع التعذيب ، فالمجتمعات التي تخلّصت من التعذيب كوسيلة لانتزاع الاعترافات أو العقوبات الجسدية انما تساهم في تحرير الانسان من هذا العار البشري ، وهنا احدّد ( التعذيب الجسدي) لأنّ انواع التعذيب الاخرى المعنوية في هذا العالم لا تحصى ولاتحصر من فقر وأمية وتجهيل وظلم وعبودية؛ وحتى عذاب الحنين أو الضياع بينَ الوطنِ والمنفى، أو “احتمالُ الأذى ورؤيةُ جانيهِ” كما يقول المتنبي، تجعلنا ضحايا للتعذيب جميعا.