471253155_2065144110605911_2417229735593713784_n

ناجي الغزي

في مشهد يثير الدهشة والمرارة، نجد اليوم أن بعض الذين كانوا جزءًا من منظومة صدام القمعية—من بعثيين وفدائيي صدام—ينعمون بحقوق تقاعدية وامتيازات وكأنهم خدموا دولة عادلة، بينما يُترك المعارضون الحقيقيون الذين قاوموا ذلك النظام في الداخل والخارج في طيّ النسيان. كأنهم لم يكونوا يوماً جزءاً من هذا الوطن، أو كأن تضحياتهم كانت مجرد تفاصيل هامشية في تاريخ العراق الحديث.

وما يزيد من قتامة هذا الواقع هو الانتقائية الفاضحة في الذاكرة السياسية، حيث يتم التنديد بجرائم الجولاني وتنظيمه في الشام، بينما يتم التغاضي عن جرائم فدائيي صدام، الذين مارسوا أبشع أشكال القمع والوحشية، من قطع الرؤوس إلى تعذيب الأبرياء في أقبية الأجهزة الأمنية. كيف صار البعض يرى الإرهاب في شكل واحد فقط، بينما يغض النظر عن إرهاب الدولة الذي مارسه نظام البعث؟ وكيف صار جلادو الأمس رجال دولة اليوم، بينما المناضلون الحقيقيون منسيون أو مهمشون ؟

*إعادة تدوير البعثيين: الاختراق المنهجي للدولة*

إن من أكثر المفارقات إيلاماً أن بعض أزلام حزب البعث الصدامي تمّت إعادة تدويرهم من قبل أحزاب السلطة في هذا النظام الجديد، حتى وصل بعضهم إلى مناصب عليا كوزراء، ووكلاء وزارات، ومديرين عامين، بل وتربع البعض على عرش المؤسسات الإعلامية الرسمية وغير الرسمية وبعض المؤسسات التنفيذية والتشريعية وأجهزة الأمن والمخابرات. هؤلاء الذين كانوا جزءاً من آلة القمع الصدامية لم يعودوا مجرد أشخاص عاديين، بل باتوا جزءاً من مراكز القرار، وهو ما يفسر حجم الفوضى والتخريب المنظم الذي يعيشه العراق اليوم.

إن أغلب ما يجري من اختراقات ومخالفات وإساءات للدولة العراقية يعود إلى هؤلاء الذين يعملون بطريقة ممنهجة لإجهاض التجربة السياسية وإفشال النظام السياسي بشتى الطرق والأساليب. فالفساد المتفشي، والإساءة إلى الزيّ العسكري، واختراق المؤسسات الأمنية، وابراز ظاهرة الفانشستات وكثرة المؤتمرات الساذجة وتوزيع الهدايا والدروع بطريقة بخسة على مسارح مبتذلة، وقد وصل بالبعض حتى تمجيد نظام صدام بشكل علني أحيانًا، كلها ممارسات تؤكد أن هناك إرادة شيطانية خفية لنشر الابتذال بوجه جديد، دون أي رادع حقيقي.

*خذلان الأحزاب الإسلامية لتاريخها النضالي*

ما يفاقم هذا الوضع هو أن الأحزاب الإسلامية، التي كانت في طليعة مقاومة نظام البعث، قد انشغلت بمكاسبها السياسية إلى الحد الذي جعلها تتجاهل تضحيات رفاقها وشركائها في النضال. لقد قدّم هؤلاء المعارضون أرواحهم وحرياتهم في سبيل عراق خالٍ من الاستبداد، سواء في انتفاضة 1991 أو عبر المعارضة الفكرية والسياسية في الخارج، لكنهم اليوم يجدون أنفسهم مهمشين، بينما يحتلّ البعثيون السابقون مواقع السلطة وصناعة القرار.

كان من المفترض أن تكون هذه الأحزاب أكثر وفاءً لمناضليها، لكنها فضّلت إعادة التفاوض مع الماضي وفق منطق المصالح، فصار البعثي السابق جزءاً من النظام السياسي الجديد ، بينما المعارض المستقل لا مكان له.

*التهميش المتعمد للمستقلين*

إن أقسى ما يواجهه المعارضون المستقلون الذين ناهضوا البعث من خارج التنظيمات الحزبية هو التجاهل التام لتضحياتهم. هؤلاء الذين لم ينخرطوا في الأحزاب السياسية وجدوا أنفسهم محرومين حتى من الاعتراف الرمزي بحقوقهم ونضالهم. لقد أكلت المنافي زهرة شبابهم، وتحملوا الاغتراب والتهجير القسري لعقود من الزمن، ليعودوا اليوم إلى وطن بالكاد يعرفهم، بل ربما يتعامل معهم وكأنهم غرباء.

لا أحد يذكر أسماءهم في أي محفل، ولا تُكرَّم تضحياتهم، وكأنهم لم يكونوا جزءاً من هذا الصراع الطويل ضد الاستبداد البعثي. المفارقة هي أن البعض من البعثيين السابقين صاروا يطالبون بـ”العدالة” لأنفسهم علانيةً، بينما هؤلاء المناضلون الحقيقيون لم يحصلوا حتى على كلمة شكر من الوطن الذي ناضلوا من أجله.

*هل من عدالة تاريخية؟*

إن هذا الزمن الأغبر ليس مجرد مرحلة سياسية سيئة، بل هو مرحلة مؤلمة ان ترى إعادة تدوير للظلم، حيث تُطمس الحقيقة، ويُكافأ الجلاد، ويُنسى المناضل. لا يمكن بناء وطن عادل دون الاعتراف بتضحيات من قاوموا الاستبداد، ولا يمكن الحديث عن تصحيح المسار دون أن يكون العدل حجر الأساس فيه.

إذا لم تتدارك القوى السياسية الحاكمة خطأها، وتعيد الاعتبار لهؤلاء المناضلين, وإذا لم تُحاسَب هذه الاختراقات، سوف تخسر هذه القوى تدريجياً قواعدها وجماهيرها،

كاتب سياسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *