اسم الكاتب : ايناس سعدي عبدالله
أصبح العراق مع مطلع القرن السادس عشر ساحة للصراع بين دولتين قويتين مختلفتين، هما: الدولة العثمانية والدولة الصفوية، وهو صراع شغل معظم هذا القرن. ولعل أهم ما نتج عن هذه الفوضى السياسية والعسكرية، والضعف الشديد في سلطة المراكز المدنية في البلاد، وقد ادى ذلك الى بروز دور القبيلة ازاء انحسار دور المدينة الاداري والحضاري، اذ كانت القبيلة هي القوة الجماعية الوحيدة المؤهلة لأداء ذلك، باعتبار أن القبائل تلي بقوتها العسكرية قوة المدن مباشرة، فضلاً عن أن العصبية الاجتماعية في المجتمع القبلي أقوى مما هي عليه في المجتمعات الحضرية المتمدنة، ذلك أن العلاقات الاجتماعية والاقتصادية بين أعضاء المجتمع القبلي الواحد كانت على الدوام أبسط وأكثر ترابطاً منها في مجتمع المدينة القائم على تعدد الفئات والطبقات. وعلى هذا، فأن ازدياد أهمية القبيلة على حساب المدينة، كان في حقيقته غلبة المجتمعات البسيطة على المجتمعات المعقدة المتعددة الطبقات والمسؤوليات، وكان تغير البنية الاجتماعية هذا قد أفسح المجال أمام القبائل للظهور على المسرح السياسي العراقي، لتلعب دورها في مقدرات المدن العراقية ذاتها. وكان هذا – في الواقع – عودة إلى مرحلة متخلفة سابقة، حين كانت القبائل تشكل القوة الاجتماعية الرئيسية قبل قيام المدن ونموها. مع هذا الوضع الاجتماعي، كان على العثمانيين أن يتعاملوا، وأن يقيموا سلطتهم السياسية في البلاد المحتلة، ولم يكن للحكام الجدد من الرصيد الحضاري ما يمكن أن يقدموه للحياة المدنية في العراق، حيث الحكم العثماني يقوم على قاعدة إبقاء الأوضاع بصفة عامة على ما كانت عليه قبل السيطرة العثمانية، دون تغيير حقيقي في جوهر العلاقات الاجتماعية والاقتصادية القائمة. وتكشف لنا أعمال السلاطين العثمانيين الأوائل في العراق عن طبيعة نظرتهم إلى المدينة العراقية، وهي نظرة ترتكز على تصور أن المدينة ليست إلا حصناً أو قلعة مهمتها الرئيسية حفظ الأراضي التابعة للسلطان، ومركزاً لجمع الضرائب من تلك الأراضي وإرسالها إلى السلطة المركزية في اسطنبول. وطبيعي أن هذا التصور لمهمة المدينة كان يستلزم أن تمضي الدولة العثمانية في سياسة إقرار الأوضاع القائمة فعلاً مع محاولة الاستفادة من هذا الواقع إلى أقصى حد ممكن. وعلى هذا، فقد ترك السلطان سليم الأول مدن شمالي العراق، شهرزور والعمادية وأربيل وراوندوز وغيرها بيد الأمراء والسلالات القبلية الموجودة في عهده، فاستمرت هذه القوى – وأغلبها قبلي تماماً في السيطرة على مقدرات تلك المدن عدة قرون من بعده. ولم يغير السلطان سليمان القانوني عندما غزا العراق في القرن السادس عشر الميلادي شيئاً من هذه القاعدة، فظلت مدن الشمال على وضعها السابق، وأستمر شيوخ قبائل آخرون وزعماء عشائريون ريفيون يسيطرون على المدن العراقية الواقعة في منطقة نفوذهم، فعندما عرض زعيم قبيلة المنتفك القرية المسيطرة على البصرة ولاءه للسلطان العثماني 1553م أقره في حكمه، على الرغم من أهمية البصرة كمدينة ذات موقع عسكري واقتصادي هام. وتركت مدن كثيرة ومراكز تجمعات سكانية مختلفة في جنوبي العراق ووسطه تحت سيطرة القبائل المجاورة، التي اكتفت بإعلان الولاء الشكلي للسلطة الجديدة. ورغم العثمانيين استطاعوا في عام 1546م، فك البصرة من يد المنتفك إلا أن المدينة بقيت عملياً، خاضعة إلى نفوذ هذه القبيلة القوية. وكان أمر رجوع المدينة إلى قبضة المنتفكين يعد احتمالاً قائماً في كل وقت وقد سقطت البصرة فعلاً بيد الشيخ مانع أمير المنتفك عام 1690م وأسس حكومة وأستولى على المدن المجاورة من القرنة (على ملتقى دجلة والفرات). يمكن القول بأن خضوع المدينة العراقية للقبائل البدوية والريفية، كان رغم بعض النواحي الإيجابية القليلة – يعد تدهوراً خطيراً لتلك المدينة، وتردياً واضحاً في أنشطتها الحضرية وإذا ما أستثنينا الحكومات المؤقتة التي أقامها المنتفكيون في البصرة، والتي حظيت ببعض التأييد والاحترام من قبل تجار المدينة وسكانها، فأن أغلب المدن كانت تعاني من ضغط القبائل عليها أو فقدانها الأمن اللازم لاستمرار نشاطها الحضاري. وكان الاختلاف القائم بين قيم القبيلة ومثلها وما تمثله من روح عسكرية متنقلة لا تعرف الاستقرار، وبين قيم المدينة المرتكزة على نشاطاتها التجارية والإنتاجية المستقرة، يمثل هوة اجتماعية كبيرة يصعب تجاوزها إلا على حساب المدينة ذاتها. وبقيت المدن في نظر القبائل تعد عالماً غريباً غير مألوف بالنسبة لها، ولم تجد أغلب القوى القبلية آنذاك حرجاً في استغلال الفرص السائحة التي تمكنها من الاستيلاء على المدن المجاورة وكنتيجة لتدهور سيادة المدينة وضعفها، اهملت الأراضي الريفية الواقعة حولها، وسرى الاهمال إلى شبكة الأنهار والمصارف اللازمة للري والزراعة، وكان هذا بدوره سبباً في تعاظم أخطار فيضانات الأنهار، وحدوث المجاعات التي انتهت بعزل المدن عن بعضها البعض وعن القرى وتدميرها، أو هجرة سكانها منها تدريجيا. من أهم المدن العراقية التي اندثرت في أوائل العصر العثماني، مدينة واسط الشهيرة، ذات التراث الزاهر في القرون الوسطى، وذلك حين أدى اهمال شؤون الري إلى ابتعاد مجرى دجلة عن المدينة، وتحوله إلى مجراه الشرقي المنحدر إلى بلدة القرنة فعم الخراب سائر المدينة. وما أن حل القرن السابع عشر حتى كانت هذه المدينة تقوم وحدها وسط البرية، وكان النهر الذي طالما أشتهر بقصبه الذي تتخذ منه الأقلام قد جف. ولم تمض إلا سنوات حتى هجرت المدينة برمتها وللسبب نفسه، أضطر أغلب سكان مدينة النجف، على حافة الصحراء إلى الجلاء عن مدينتهم، حتى لم يبق من دور المدينة – في القرن السادس عشر – إلا عشر ما كانت عليه من قبل، ولم يبق من سكانها إلا الخطيب والأمام والموظفون وقليل غيرهم بينما تركها الآخرون. وكانت أسعار مياه الشرب باهظة الثمن، حيث يضطر سكان البلدة إلى نقل تلك المياه من نهر الفرات عند بلدة الكوفة. ومثل ذلك، ما حدث لمدينة الرماحية القريبة من النجف وهي من المدن القديمة التي يرتقي تاريخ إنشائها إلى القرن الرابع عشر. فقد ادى إهمال العناية بمجرى الفرات إلى تشعب نهد جديد منه في 1688م عرف بنهر ذياب، وأخذ يخترق تلك الانحاء متوسعاً شيئاً فشيئاً، ولما لم تكن ثمة سدود تمنع ذلك التوسع فقد أدى تحول مجرى الفرات نفسه وابتعاده عن نهر الرماحية الذي كان يأخذ مياهه منه. فأجدبت تلك الأنحاء وأضطر سكان الرماحية إلى هجر مدينتهم ولجأوا إلى الجزر التي نشأت في المناطق الغارقة ومنذ ذلك الحين خمل ذكر الرماحية وقل شأنها. ومثلما أدى التحول المستمر في مجاري الأنهار في جنوبي العراق إلى اندثار مئات المدن والقرى مما حفلت بذكر أوصافها كتب الجغرافيا العربية في القرون الوسطى فقد ادت عوامل أخرى إلى الاضطراب السياسي الذي شهدته المنطقة باعتبارها ساحة للصدام المباشر بين العثمانيين والصفويين وظهور عدد من القوى القبلية والأمارات العشائرية وسقوط البلاد فريسة لتطاحن مرير بين تلك القوى غير الحضرية. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، اندثار مدينة شهرزور ذات الماضي الزاهر في القرن السابع عشر، فقد نجم عن الحروب المستمرة بين العثمانيين والايرانيين وسيطرة أمارة أردلان القبلية تدهور المدينة ثم اندثارها، حتى لم يعد من الممكن تعيين موقعها الآن. ولم يتبق منها سوى أسمها الذي أخذ يطلق على الإقليم فحسب. أدت النزاعات العشائرية الدموية بين القبائل القاطنة في سهل شهرزور والجبال المحيطة بها، وتعرض المنطقة إلى غزوات المحتلين المستمرة إلى انحطاط مدن أخرى كان لها شأن في العصور الوسطى، من أهمها مدينة أربيل ذات الماضي الزاهر وقد بلغ من تدهور أحوال المدينة أنها أمست في القرن العاشر بلدة صغيرة يتنازع عليها حكام الأمارات العشائرية الكردية القاطنة في المنطقة، ثم استقرت لتكون إحدى توابع أمارة سوران الأمارة الصغيرة التي كانت تنافس أمارة أردلان سيادتها على اقليم شهر زور القديم. ولحق التدمير مدن التخوم العراقية القريبة من أيران فاندثرت مدينة حلوان الشهيرة وتضاءل شأن مندلي ومدن منطقة (النهروان) التي طالما اشتهرت بالخصب والثروة الزراعية مثل بادرايا وباكسايا وغيرها.