نوفمبر 5, 2024
36898

اسم الكاتب : علي ثويني

محض سؤال عابر خطر على بالي بصدد ترشيح بغداد ، حينما نلمس المنافسة على اشدها،والرديف ينتظر فشل المرشح الاول ليخطفها من فمه،وكل بلد يحاول ان يزج ما عنده من مدن تراثية في تلك الترشيحات التي أمتد شوطها بين تريم اليمنية وتلمسان الجزائرية. ويبدو أن المدن المصطفاة جاءت على خلفية طبيعة بيئاتها التي توحي بمحافظة ورسوخ للتراث في ثنايا حياتها الحالية. وهكذا رشحت النجف عام 2012 فخابت وأخجلت الثقافة العراقية، ثم رشحت بغداد هذا العام واملنا أن تتحدى الفشل وتعلن عن انها أكبر من كل العواصم الثقافية التي رشحت ، فبغداد ليست أسم عابر ولا دخيل غابر، بل أثر وموثر غائر في عمق الظاهرة الحضرية ،وعلم في صلب الثقافات العربية والإسلامية والعالمية.
وعودة الى تقليد الإعلان عن عاصمة للثقافة العربية،كمبادرة من طرف منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة والمهتمة بالثقافة، إقتفاءا لأثر أوربي سار عليه القوم و شرع في تطبيق فكرة عاصمة الثقافية العربية منذ العام 1996، وجاء ذلك بناءًا على اقتراح للمجموعة العربية في تلك المنظمة خلال اجتماع اللجنة الدولية الحكومية العشرية العالمية للتنمية الثقافية (باريس ما بين 3 و7 يناير 1995م) وفي الدورة الحادية عشرة لمؤتمر الوزراء المسؤولين عن الشؤون الثقافية في الوطن العربي والذي عقد بالشارقة – الإمارات العربية المتحدة (21-22 نوفمبر 1998م).
وفكرة عاصمة الثقافة الأوروبية كانت أحد المبادرات التي أضطلع بها الإتحاد الأوربي لاختيار مدينة أوروبية لمدة عام واحد لعرض الحياة الثقافية بها ومدى نجاح مشاريع التنمية الثقافية. ويتم في العادة اختيار العاصمة الثقافية بعد منافسة تشمل تقديم مشروع متكامل مع موازنة جاهزة وتختار وفق الأهمية الثقافية المقدمة بغض النظر إن كانت المدينة الفائزة هي العاصمة أم لا. وفي خضم شيوع مفهوم (مدن المعرفة) الذي يتسع تطبيقه، جاءت الفكرة في البدء لمدينة تمثل الثقافة الأوروبية، حيث تولدت الفكرة في عام 1983 من قبل ميلينا ميركوري، والتي كانت وزيرة الثقافة اليوناني. التي إعتقدت أن الثقافة، لم تعط نفس الاهتمام بأمور السياسة والاقتصاد، وأن المشروع هو لتعزيز الثقافات الأوروبية داخل الدول الإتحاد. وبدأ بتنفيذ البرنامج في صيف 1985 وكانت أثينا هي أول حاملة لللقب. خلال الرئاسة الألمانية للعام 1999، وتغير مسمى المشروع من مدينة الثقافة الأوروبية لعاصمة الثقافة الأوروبية.
وصلب الفكرة أن الثقافة عنصر مهم في حياة المجتمع ومحور من محاور التنمية الشاملة. وتهدف إلى تنشيط المبادرات الخلاقة وتنمية الرصيد الثقافي والمخزون الفكري والحضاري، وذلك عبر إبراز القيمة الحضارية للمدينة المستضيفة لفعاليات تظاهرة عاصمة الثقافية وتنمية ماتقوم به من دور رئيسي في دعم الابداع الفكري والثقافي تعميقاً للحوار الثقافي والانفتاح على ثقافات وحضارات الشعوب وتعزيز القيم، والتفاهم والتآخي، والتسامح واحترام الخصوصية الثقافية.
ومنزلة بغداد نموذجية في كل تلك اللوائح ، ولايزوغ وقعها عن حافر قدر بغداد الأزلي، التي نعدها مشروع حضري يؤكد تراكم الزمان في ذات المكان، حيث أنها تاسست بعد اوروك(الوركاء) بحوالي أربعة آلاف عام،لكنها حفظت العهد لها، فمثلما كانت سومر و”أورها” باحواشها وسطوحها وخامة طابوقها، كانت بغداد سليلتها بإعتداد. ومن سوء طالع بغداد أن معالمها أختفت وحالها كاد أن يدرس عام 1831،بعد طوفان وطاعون داود باشا الكرجي. لكنها أثبتت انها عنقاء الزمان وأم العراق وقلبة الازلي ،فهي لم تنحاز لنينويى الدجلوية ولا لبابل الفراتية ،بل ارتضت وسطية في المكان والفكر وإسترسال الزمان. وحسن طالعنا يكمن في سامراء التي حفظتها عزلتها عن (الدمار البشري الشامل) حيث ان (فرهود) الطابوق لم يترك لنا مدينة على حالها. وإذا قارنا شواخص سامراء التي توحي لنا توأمة لعمائر بغداد، فانها سيان مع بابل بالتمام والكمال. وهذا الأمر يبدو للمعاين المعماري أكبر من العابر وغير العابئ.
ولم يحدث من فراغ بأن دولة الإسلام أختارت البصرة 636م ثم الكوفة638م باكورتين لأعلان تحضرها ومجال ممارستها خارج الجزيرة،بسبب الاثر الرجعي والعرف الراسخ والسائد والملازم الماكث تحت طبقات الأرض العراقية. وهكذا شكلت تلك المدينتين(سميتا العراقين) مع بغداد عام 762م، مثلث الرسوخ الإسلامي المؤسس. حيث نذهب إلى ان كل الحضارات قد صعدت الى الذروة خلال القرنين أو الثلاث قرون الأولى، ثم يليها قرون الإشترار من ذلك المنتج، حتى يصيبة الخمول والتكرار ويدب به الكسل فيضمحل ويضمر. وهكذا وعلى هذا المبدأ فإن القرون المؤسسة للثقافة الإسلامية والعربية، لايمكن ان تكون إلا عراقية محضة، فمثلث(بغداد-كوفه-بصرة) كان قد رسّخ أسس الشواخص ودق الثوابت والقواعد، وكل ما أتى بعدها، كان شارحا لها ومكملا لحيثياتها، ولا ضرورة لنجهد نفسنا في البحث عن ريادات تتعدى تلك الحقبة ،وسنجد دون غضاضة بان ما ورد بعدها لم يكن إلا تمحيص وتقليب وتطوير لما نهل من نبعها وبزغ من بؤرتها.نقرا مقولة لمصري أحمد زكي باشا(1867-1934) يصف تلك الحالة الحضارية: (كان العُراق في القرن الثاني والثالث من الهجرة مزدانا بمدينتين كبيرتين هما الكوفة والبصرة، وهما (لعمري!)، شبيهان بما نراه الآن في اكسفورد وكامبريدج من اعمال أنكلترا. فلقد كانتا في أيام اولئك الغطاريف البهاليل، كعبتين للعلم والتعليم،ويحجهما طالبوا النور وجهابذة العرفان من كل فج عميق)(من كتاب: موسوعات العلوم العربية ). حتى لنجد أن الدكتور طه حسين يشير في إحدى أحاديثه، الى ان ثلثي الثقافة الإسلامية وردتا من مصدر عراقي.
صحيح أن بغداد عانت الويلات من أهلها وحسادها والطامعين بها ومحتليها، فجاء خرابها المبرم عام 1258م على يد المغول، لكنها لم تكن القاضية، فترنحت حتى القرن السادس عشر، حيث أنهت القرون الإيلخانية والجلائرية ثم (الخروفية) و(العثمانية) ألقها واطفأت نورها. وقد أثر هذا على أرثها المادي بعمق،لكنه لم يؤثر على مددها الروحي والفكري والحضاري، فمازالت الاسماء التي تصدح في عالم الإسلام تقبع في روضات وتحت قباب بغدادية، رغم الضياع والإهمال والإفراط والتفريط الذي حرمنا من جزيل ذلك الأثر والشاهد الدامغ المؤثر. فما زالت الحضارة الإسلامية تفخر بـ(الصفر) وقد عمدته بغداد في دار حكمتها التي لم تطأها مدن التأريخ في إرتقاءها ، وهذا ليس إلا غيض من فيض منتج الرياضيات ،والهندسة والفلك والفلسفة والدين والأدب..الخ. وهنا يحضرني إعتراف سويدي لمنزلة بغداد عند الغربيين قالها إنغمار كارلسون الكاتب والدبلوماسي السويدي واصفا إياها تلك القرون : (في الوقت الذي كان فيه أهل شمال أوربا يهيمون على وجوههم من سطوة الهمجية ،ويكتسون جلود الحيوانات، كانت بغداد بين الأعوام 750-1258 مركز العالم المستقطب وكانت تنعم بحضارة مزدهرة متطورة )(من كتاب: أوربا والإسلام-ترجمة سمير بوتاني).
أمست قرطبة صدى لصوت بغداد وغنجت نسائها مقلدات نساء بغداد وأنتقلت (الغاء) بدل (الراء) الى باريس من اصلها البغدادي، ولبسن أميرات أوربا الموصلي والدمشقي تقليدا لحرائرها، وتملقت القسطنطينية بغداد وأسبغت على نفسها لقب(بغداد البسفور) ، وامسى اسم (بغدان) اي البغدادي(من بغداديان) لقب الأمراء في أوربا الشرقية، ومكث حتى قبل قرن في مولدافيا التي تسمى في الأثر العربي والتركي (بلاد البغدان) نسبة لأميرها. وألتبست عند الغربيين في القرون التوالي أي في القرن السابع عشر، حيث ظنوا أنها نفسها (بابل)، حتى ان الأمير والرحالة الإيطالي (ديلا فاله) اشار الى ذلك عام 1625، وظنوا أن ملوية سامراء هي برج بابل المشيد الباق. وهكذا أدغم اسمها المضئ عنوة أو جهل، حتى أنها كنّت في القرنين الأخيرين من الحكم العثماني(سيبيريا العثمانية)، كونها أمست مبعد للولاة غير المرغوب بهم.
كل ذلك الأثر وكل تلك المنزلة، ومازال بعضنا أو بعضهم يتمتم بغل مبطن: (هل تستاهل بغداد ذلك الشرف؟). ونقول لهم أن تتويج بغداد هو شرف لهذا التقليد المقتبس(عاصمة الثقافة) ،حينما شرفته بغداد بحضورها ومنزلتها العالمية كأغزر مدن التاريخ منتجا للعقل ،وأعمق أثرا ثقافيا عالميا وإسلاميا وعربيا، من كل ما فات وما سيرد في قوائم المدن المرشحة والتي ستترشح في قادم السنين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *