نوفمبر 2, 2024
مازن لطيف.. واعد الثقافة العراقية

اسم الكاتب : علي ثويني


لايمكن الحديث عن سوق الوراقين البغدادي وموئلها الكتبي “شارع المتنبي” إلا وتسطع شخصية شاب ألمعي، حلو اللقاء والطلة صادق المشاعر، مهادن ووسطي يعرفه الجميع ويضرب عنده اللقاء،ووتتقطاع عن أعتاب مكانه، مكانات وقامات ثقافية، حتى يعده الكثيرون مرجعهم وعرابهم ومحل تسائلهم عن كل شارد السوق ووراده، حتى لقبته دعابة (مختار وإختيارية شارع المتنبي).
وبغياب الفضاءات الثقافية المختصة ومبانيها الشاخصة ، فقد أمسى هذا المكان المتفق عليه فطريا من معشر الكتاب وشتات المساهمين في الثقافة الكتابية والمهتمين بحركة الفكر والنخب الأكاديمية والمتعلمة ، حتى أمسى الشارع دالة تتوق لها الخواطر ولاسيما في نهاية الأسبوع والعطل ، لنجد المواعيد وقد ضربت مسبقا هناك، وشكلت فضاء ورئة ومتنفس وسلوى ومهبط الهوى لكل هؤلاء. فهنا يعم التواد وتنطلق الحناجر بالأخوانيات وتتقاذف القبلات والتحايا، وتلتقي الوجوه التي تفارقت سنين، ويعج صخب هنا وهناك من حوار وتسائل وجواب أو مناد مروج لبضاعته.ولمازن طيف موقعه المميز في تلك الأجواء البغدادية الصميمة، فهو الملم بكل إصدارات الثقافة والطبعات ومحص لكل الأسماء ما أختفى منها وما بان أو خبأ أو لمع ، حتى أحتكم له المتساجلون، فأمسى مايقوله الفيصل، وقصده المتسائلون فأدلهم دون فضل ولا ترفع أو خيلاء ،ليذكرنا بتواضع ثقافتنا قبل أن تطأها عنجهية البداوات من كل صوب وحدب.
وغير هذا وذاك فإن هذا الشخصية البغدادية الشابة الدينامية يحمل في سرائره روح المبادرة وتسطع في ذهنه الأفكار بلماحية عجيبة، فكثير من مشاريع النشر كانت من أمهات مقترحه على الأحباب،وكثير من الندوات الثقافية كانت نتيجة لمسعاه وإتصالاته المجردة عن التزلف والمحاباة والتملق ومقصده أظهار الفكر وأصحابه، حتى تعرف جمهور بغداد والعراق على كثير من جنود الثقافة العراقية المجهولين أو المغيبين أو القابعين في طيات النسيان أو تعدتهم الأحداث فسكنوا دون حراك،أو أغتربوا وأنزووا دون جعجعة وتطبيل شللي ، فبادرهم مازن بالتسائل والمتابعة والتنظيم والنشر، وأزاح عنهم غبارا غطى رفوف المنتج العراقي.
وتعدى تأثيره السوق بهرجه ومرجه إلى الإعلام المؤثر اليوم والمخترق للأثير الى كل بيت، حيث يعد مازن دالة فيها، بالرغم من شحة ظهوره على الشاشة وصفحات الجرائد ، حتى لنعد ان الكثير من الشخصيات التي تظهر في الندوات وتدلي التصريحات أوأن الكثير من المقالات والمساهمات المنشورة لم تكن إلا ويمكث مازن عرابا لها، متجردا عن مصلحة أو نفع ذاتي أو غرض، غير إيمانه المطلق بعراقيته المجردة عن كل ناصب وجازم، فهو لايفرق بين شخص وآخر بسبب ما يفرق أو يجمع ، بل نجد أحبابه من كل أجيال وطبقات وتلاوين الفسيفساء العراقي، مفاضلا بينها من معيارية باعها وكراعها في المساهمات الثقافية العراقية.
عرفت مازن وأنا في غربتي التي أقتربت اليوم من عقدها الرابع، وتراسلنا تحابا وتوددا وألتقيته أول مرة قبل سبعة أعوام في دمشق في موعد مضروب مسبقا، قادما من غربتي السويدية، وهو من بغداد التي تملئ كيانه. فكان الشوق واللهفة كفيل بدفئ اللقاء ومتعة الحوار والتجول في دمشق وحاراتها ومقاهيها ومكتباتها، حتى مر الوقت خلالها مثل السحاب. وفي يومنا الثالث شعرت بأن صاحبي بدأ يشعر بدوار وتطفح على محياه مسحة من الشرود ، ولم أجد مبرر في ما حصل من جراء ملل أو تململ ، ولم أفهم الظاهرة وأشخصها متناسيا، حتى بدأت تسطع في اليوم الرابع، حينما بدأ كلامه عن بغداد يأخذ منحا عاطفيا وطفق يتكلم بشجن، حتى تبين لي أن صاحبي يعاني من المرض العظال الذي لادواء له وهو (الحنين للوطن home sick) ، الذي قفزت فوقه مكرها فطالت غربتي وقل شقائي وكثرت حيلتي، بيد أن مازن كان واقع تحت براثنها ،ولايبرح بغداد إلا ويتوق لها شوقا مجنحا،وبوقت قياسي لم يدركه أمثالي، حتى أضطررت أن أقربه من رغبته في العودة، فسعيت لأقرب وسيلة نقل لأركبه فيها إلى بغداد مودعا بغصة، على أمل اللقاء هناك في الوطن الذي لامتعة ولا إنشراح إلا فيه.
في لجة الضياع وإبان ترنح الوعي وأفول الصعود الحضاري، تعاني الثقافة العراقية أول ما تعانيه من فقدانها لإحتواء رموزها الثقافية، ناهيكم عن إنحباس في هبوب التيارات وشحة في المنتج. يحدث هذا بالرغم من كم وكيف المبدعين، ولا أبالغ حينما أصنف مازن لطيف أحد دالاتهم. فبالرغم من إنشغاله الوظيفي وكثرة إرتباطاته ومساعيه وتشعب مشروعه، لكنه متواجد في النشر في الصحف الورقية والأنترنت، وله مساهمات في الكشف عما تناساه القوم من ثراء للمنتج الثقافي السابق الذي أخفته إخفاقات السياسة وضياع الإستقرار والإستمرار لمنتج الثقافة الذي سبق الحقبة الشمولية البعثية التي درس تحت غمتها كل ثراء وعمق من منتج أساطين الثقافة ورعيلها الأول الذي أسس لثقافة واعية ذاتوية إبتداءا من أربعينات القرن العشرين وأينعت في الستينات منه ،حتى قضمته مقصلة البعث لتشوه الوجه الجميل لتلك الثقافة، ولنحصد من هذا الفعل قبح مستشري ومنبث في شجون الحياة العراقية والبغدادية. وكان مازن سباق الى إقتناص ما نسي أو أبتذل خلال تلك الحقبة وأحتفظت به مكتبات الخاصة التي بيعت على الأرصفة خلال حقبة الكساد إبان الحصار الظالم على العراقيين وثقافتهم تسعينات القرن الماضي ،وتوجها فترة الإحتلال الذي أشاع حالة من السوقية وسطوة الظلامية ، رغم مساع الخيرين من أمثاله برد الإعتبار للشارد والوارد منها، حتى لنعده جندي مجهول في ذلك المسعى الذي ينم عن حمية وإيثار ونكران ذات مثالية.
كنت قد ولجت يوما الى أحد المؤسسات الثقافية الكبرى في بغداد، وقابلت مديرها الذي يحمل لقب (أستاذ دكتور)، بيد أني لم أجد عنده أي معرفه أو إطلاع بحاضر الثقافة وماضيها، وجهل مطبق برموزها ومنشورها ناهيك عن عدم حمله لأي مشروع لها ، حتى تبين لي لاحقا أنه نصب ضمن سياقات المحاصصة الملتبسة والملتوية، وإذ أشك في آهليته العلمية وحتى شهادته وإدعاءه الإغتراب في إحدى عواصم الثقافة الغربية الكبرى ،. فحز في نفسي من تلك المفارقة التي أوحت لي ظلامية المشهد الثقافي العراقي حينما نجد رجل مبجل غير مؤهل، ومشرف دون أن يتكلف، لثقافة تعاني الفراغ والفاقة وتشكو كاسد الحصاد ، لحقبة أكل يابسها أخضرها، فبرق في ذهني تساؤل من جراء تلك المفارقة: كيف يكون هذا الشاب الألمعي الكيس يقبع وراء الكواليس، وثمة شخوص موهومين لاموهبين يتبوءون سلطة قرار الثقافة ومصيرها.
مازال أملنا منصبا على أن تأخذ قوى الخير الشابة والمؤهلة مثل شخص “متعدد المواهب” مازن لطيف قسطها في تبوأ ما تستحقه من مناصب لمفاصل الثقافة، ليس دفاعا أو بحثا لهم عن إمتياز أو إنحياز، بل لدعوانا مخلصين بإعادة تأهيل الثقافة العراقية على يد هؤلاء الطموحين بمواهبهم وغير المنتمين للأحزاب والأهواء والإستقطابات المشظية للعراق كأمة وثقافة.

1 thought on “مازن لطيف.. واعد الثقافة العراقية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *