اسم الكاتب : عرابي عبد الحي عرابي
فعلاقة الغالب بالمغلوب ليست وحيدة الاتجاه دائماً وإن تحقق التغلّب عسكرياً، وبذا تكون العلاقة بينهما علاقة تفاعل تميل فيها الكفة، أحيانًا، إلى الغالب العسكري والثقافي في حين لا يتحقق ذلك في حالة الغلبة العسكرية دون الثقافيّة.
يدرك المتابعون للشأن العام عموماً والثقافي خصوصاً، وجود نمطيّةٍ مسبَقةٍ من التعاطي مع الأحداث والتحليلات والأفكار، بخاصة تلك التي امتدّ أثرها إلى السياقات الاجتماعية المختلفة بدءاً من الفضاء العام وصولاً إلى الأسرة من حيث استنادها إلى مدارس معيّنة –تعود بمجملها- إلى الأفكار الغربيّة.
إننا اليوم في عصر “الليبرالية” ولحظة انتصار وهيمنة “النموذج الليبرالي الغربي” ولذلك تغزونا مقولاتها المدجّجة بأقوى وسائل التأثير، وتفرض على تفكيرنا أولوية أسئلتها وإشكالياتها، وتزودنا بقوالب تشكّل تفكيرنا، وتمارس استبداداً عقلياً ونفسياً على كثيرٍ من المتطلعين للثقافة المعاصرة.
الاستلاب الحضاري أمام الغالب!
يمكن لنا أن نلتمس عند ابن خلدون نظرة خاصّة لم يسبق أن تطرّق إليها علماء المسلمين السابقين بالتفصيل، ولعلها تفسّر لنا حالة الاستلاب العامة لدى المجتمعات الإسلامية أمام الغلبة الحضارية للغرب، حيث يرى أن “المغلوب مولع -أبدًا- بالاقتداء بالغالب”، وهذا ما يمكن تمثّله –بالمثل- في سياق الحديث عن العلاقة بين المستعمَر والمستعمِر، المعبر عنهما هنا بالغالب والمغلوب.
ولنتبين الرؤية “الخلدونية” ههنا فإننا نقتبس النص الآتي من مقدّمته العمرانية الشهيرة، [الفصل الثالث والعشرين] وكان لافتاً إلى أنه عنونها بـ”فصلٌ في أن المغلوب مولَع أبدًا بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر عوائده” معللاً ذلك بأن “النفس أبداً تعتقد الكمال في من غَلَبَها، وانقادت إليه إما لنظره بالكمال بما وَقَر عندها من تعظيمه أو لما تغالَطَ به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك واتصل لها اعتقادًا، فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبّهت به، وذلك هو الاقتداء، أو لما تراه -والله أعلم- من أن غلب الغالب لها ليس بعصبيّة ولا قوة بأس له وإنما هو بما انتحَلَتْه من العوائد والمذاهب تغالط أيضاً بذلك عن الغلب وهذا راجع إلى الأول، ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها بل وفي سائر أحواله”. وعند الوقوف عند هذا النص يتبين لنا أن ابن خلدون يبرز علاقة وثيقة بين ظاهرتين مختلفتين وهي ظاهرة التغلب الحضاري إلى جانب ظاهرة التبعية الحضارية والاجتماعية.وبالرغم من أن ابن خلدون يقبض على مفصل مهم من مفاصل العلاقة بين الغالب والمغلوب، وهو مفصل الاقتداء والتقليد، إلا أن هذا لا يتحقق إلا في حالة الانهزام الثقافية.
فعلاقة الغالب بالمغلوب ليست وحيدة الاتجاه دائماً وإن تحقق التغلّب عسكرياً، وبذا تكون العلاقة بينهما علاقة تفاعل تميل فيها الكفة، أحيانًا، إلى الغالب العسكري والثقافي في حين لا يتحقق ذلك في حالة الغلبة العسكرية دون الثقافيّة.
وهذا يظهر لنا مدى جدّية المحاولة التي قدمها ابن خلدون في تطوير مفهوم العمران الإنساني، من خلال محاولة الكشف عن القوانين التي لا تتغير مع تغير الوجود البشري عبر التاريخ، ونمذجة المدن والدول والحضارات وأنماط الحياة التي تتعرض لها مجتمعاتها.
عالمنا العربي بين التقليد النابع والمفروض
يحسب المتابع للواقع العربي أن شباب مجتمعاتنا العربية -منذ مطلع الألفية الأخيرة- باتوا مستلَبين أمام الغرب في كل شيء حتى على مستوى اللغة، فبات التحدّث بكثير من الكلمات الإنجليزية أو الفرنسية مع المحيط العربيّ ظاهرة يتصاعد انتشارها، بالرغم من أن اللغة العربية كانت لغة العالم عندما سادت في العالم نهضة وعلماً وتقدماً، إلا أن أبناءها اليوم يعتقدون أنها ليست كافيةً لتكون لغة العلم مرة أخرى، أو على الأقل بلغ الزهد بهويتهم إلى حدّ التطبيع الثقافي مع كل ما يتقبّله الغرب –وإن خالف الإسلام وفطرة الإنسان- وهذا ما يوضح مدى تحكّم عقدة النقص في هذا السياق، وهذا لا يتوقف على اللغة فقط بل يرتبط بكل ما يخص الإنسان من ملبس ومأكل وغيرهما.
وهنا ثمة ملمح يجب التنبّه إليه، وهو أن اللاعبين الكبار على رقعة السياسة اليوم يدركون أنه لا يمكن ضمان مصالحهم الاستراتيجية ونفوذهم الدولي إلا بتدجين خطاب الهويّة أو القضايا الكبرى، لتنسجم في النهاية مع متطلبات الهيمنة الغربية.
ولا يمكن لأحد أن يتصوّر أن هذا محض كلام يلقى على عواهنه، بل تؤيده الوقائع وتدعمه الظواهر، فلا أحد –على سبيل المثال- يتصور إمبراطورية عسكريّة بحجم الولايات المتحدة –مثلاً- ولا تفكّر بإدارة مصالحها، وتكييف الخطابات الممانعة لهيمنتها، وأنها ستجلس متفرجة على الثقافات المناوئة لها، بل إن التفكير كذلك هو السذاجة بعينها، ولذا فإن أحد أهم أهداف هذه الدول هو صناعة استراتيجية إعلاميّة لتسويق توجهاتها وأفكارها، وهو ما قامت به مراكز البحث والتفكير العلمي –ثينك تانك- على اختلاف إيديولوجياتها.
وُلدت أولى مراكز التفكير والبحث العلمي –السياسيّة والفكرية- تاريخيّاً في الولايات المتحدة، وبات عدد مراكزها يزيد الآن عن 1500 مركز، تؤسّس لشبكة قوية ومهمة بين نحو 5465 مركزاً يعمل في 170 بلداً، وهذا يشير إلى أنّ نسبة المراكز الأمريكية في العالم تصل إلى 58% من مجموع مراكز التفكير الاستراتيجي، وجلّ هذه المراكز أنشئ بعد إسقاط جدار برلين، أي في السنوات الثلاثين الماضية.
تستثمر الولايات المتحدة في “سوق الأفكار” أكثر ممن سواها، فقد أنفقت في عام 2008 نحو 561 مليون دولار على ثمانية من المراكز العشر الأوائل التي لديها، مقابل 112 مليون دولار أنفقت على معظم المراكز الاستراتيجيّة في أوروبا، كما أن أعداد الباحثين في هذه المراكز يفوقون نظراءهم في أوروبا، فباحثو مركز راند الشهير يتفوق عددهم على الباحثين في كافة المراكز الأوروبية بالرغم من أن ميزانية مركز راند أقل من ميزانية مراكز أخرى في الولايات المتحدة كمركز ميترا التابع لوزارة الدفاع الأمريكية والذي يخصص له سنوياً قرابة مليار و300 مليون دولار.
عودة إلى ابن خلدون
إن ابن خلدون شخصية سبقت عصرها في شتى حقول المعرفة المتعددة، من علم التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع والتربية وعلم النفس الاجتماعي وعلم الدولة وشؤونها السياسية، ولن نكون من المغالين إن قلنا إن فضله في توجيه العلوم الاجتماعية وبعثه من طي النسيان لا ينكَر، لولا التهميش المتقصّد وعدم التراكمية المعرفية لنتاج هذا العلّامة، رغم أنه باستطاعة المتمعن والقارئ لابن خلدون استدعاءه واستحضاره في مختلف البيئات والأزمان وإن اختلفت في الظاهر، خصوصاً لاعتبارات ترتبط بتعميماته ومقولاته وقراءاته المتعلقة بالوعي والثقافة والوجود اليومي للفرد في المجتمع.
لقد رسم ابن خلدون بقانون “تقليد الغالب” هذا خارطة معرفية لسير عملية الاقتداء والتقليد والتي تؤدي بالضرورة إلى التماهي والتوحد في سلوك وأفكار وعادات وأسلوب حياة الغالب من خلال المعادلة المعروفة المنتصر هو “الذي يصيغ الواقع المفروض على المغلوب وفقاً لقواعد اللعبة”، ووفقاً لما تمليه مصالحه الاقتصادية والسياسية والأمنية حتى ولو كانت على حساب المقهورين. والهزيمة في هذا المضمار لا تعني الجانب المادّي فقط وإنما تنساب إلى مختلف الجوانب المعنوية والنفسية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية.
ههنا فإنه لا يوجد للمهزوم إلا أن يستعيد هويته ويحاول النهوض من جديد، إلى جانب التخلص من حالة الاستلاب الحضاري من خلال مقاومة المتغلّب وترسيخ فكرة تجاوز آثاره، أو الإذعان لتوجهاته والانصياع إلى رغباته وصياغة الوعي العام والسلوك وفقاً لقواعده، وهو ما يوحي بفناء الحضارة الذاتية وتحوّل خطاب الحضارات الغازية إلى هويّة بديلة.