نوفمبر 10, 2024
download (5)

اسم الكاتب : سامح فوزي

فى خضم أحاديث الفضاء الالكترونى حول بعض القضايا التى أثيرت أخيرا مثل تجدد الجدل حول الشيخ محمد متولى الشعراوى، وأحاديث بعض أصحاب الآراء العلمانية مثل إبراهيم عيسى، ود. خالد منتصر، وآخرين، وردود أصحاب الاتجاهات الدينية مثل د. ناجح إبراهيم، وأزهريين ومنتمين لحركات إسلامية باختلاف أشكالها، وجدت تعليقات تترحم على غياب د. محمد عمارة الذى كان من جٌل اهتمامه انتقاد العلمانيين، وتعليقات أخرى تقارن بين العلمانى الغربى «الراقى» والعلمانى العربى «السيئ» الذى يركز على القضايا الفرعية، تاركا خلفه القضايا الأساسية، وذلك على اعتبار أن أصحاب التيارات الدينية هم الذين يركزون على القضايا الأساسية. وبات من المعتاد فى هذه المبارزات الفكرية أن تُستدعى قضايا الهوية، والدين والدولة، وحقوق المرأة، والمادة الثانية من الدستور، وغيرها من القضايا التى لم يتكفل الزمن بحلها جذريا على مدى أكثر من قرن من الزمن، وأطرف ما قرأت اتهام أصحاب التيارات الدينية بأن الإفراط فى العلمانية يؤدى إلى التطرف الدينى، رغم أن أصحاب الرؤى العلمانية يعملون تحت لافتة مواجهة التطرف الدينى.
منذ أيام كنت أطلع على جهود أحد المراكز العلمية فى جامعة كامبريدج ببريطانيا، تلك الجامعة التى أخرجت أبرز المهتمين بقضايا العلم، وبلغ بهم حد إنكار الحقائق الدينية مثل تشارلز داروين، ووجدت هذا المركز، الذى لفت انتباهى إليه المطران منير حنا رئيس الكنيسة الأسقفية السابق، يتحدث عن «العلم والإيمان»، ليس من منطلق البحث عن إعجاز علمى فى الكتب المقدسة، إسلاميا ومسيحيا ويهوديا، ولكن استنادا إلى حقيقة مهمة أن الكون بما يحوى هو خليقة الله، وبالتالى فإن العلم لا يتناقض مع الإيمان حيث يبحث فى خليقة الله، وكيف تكون عالما ومتدينا فى آن واحد، لا تعارض بين الأمرين، وتصبح مهمة الباحث أن يتصدى إلى القضايا الإشكالية التى تتمخض عن علاقة العلم بالإيمان.
نظرت إلى كيف يفكر الناس فى مجتمعات متقدمة، ووجدت فى المعركة بين علمانى ومتدين تلخيصا لبؤس الحياة الفكرية التى نعيشها. واقع الحال لا ألوم أصحاب الاتجاهات العلمانية من مواجهة التطرف الدينى الذى أساء إلى مجتمعاتنا إساءات بالغة، وشدها إلى الخلف عشرات السنين، فلم يسئ علمانى أيا كانت اتجاهاته مثلما أساءت التنظيمات المتطرفة التى استباحت المنطقة العربية، ومناطق أخرى من العالم على مدى عقود طويلة. ولا أجد فيما يقول كثير ممن يسمون بالعلمانيين تطاولا على الدين ذاته، ولكن نقدا لممارسات وخطابات بشرية تناقش وتفسر الدين، يؤخذ ويزاد عليها، وكان أولى بالمتدينين انتقادها تبرئة وتصحيحا للفكر الدينى المتداول. وقد استمعت فى مناسبات كثيرة إلى آراء دارسين وباحثين فى الفكر الإسلامى لهم قراءات مهمة لا يرضى عنها البعض، ويتعرضون بسببها لهجوم من وقت لآخر، لكنهم حين تلوح المعركة مع العلمانيين يقفون فى موقع فرسان المعابد دفاعا عن العقيدة. أما أصحاب الآراء العلمانية، فهم أيضا يحتاجون إلى تطوير خطاب أكثر هدوءا فى طرح القضايا الشائكة، والابتعاد عن نقد المقدس، بمعناه الإلهى، وليس المقدس الذى يخترعه البشر لإضفاء العصمة على آرائهم الشخصية، بحيث لا يقفون فى خندق معاداة الدين أو يٌصورون هكذا، فى حين أنهم يبحثون عن فهم مستنير للدين، وهم فى ذلك يصيبون ويخطئون أيضا، والأجدى هو إيجاد مساحة حوار مع بعض أصحاب الآراء الدينية المنفتحين، الذين يقلقهم التطرف الدينى، مثلما يقلق غيرهم، ويجتهدون فى إنتاج آراء دينية سمحة ومعتدلة.
لا أدرى لماذا لا يكون هناك حوار ــ غير منفعل ــ يجمع أصحاب اتجاهات متباينة حول قضايا الدين والعلم، لأن التغيير الفكرى الجاد فى مجتمعنا ــ من وجهة نظرى ــ لا يتحقق بالمبارزات الفكرية، رغم أهميتها أحيانا، لكن من خلال تراكم علمى ممتد يظهر فيه جيل مستنير يحمل أفكارا متطورة للحياة دون أن يتخلى عن تدينه، وإذا استمر الحال على ما هو عليه، فأغلب الظن سوف تستمر هذه المعارك الفكرية عشرات السنين أو إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، أيهما أقرب!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *