ديسمبر 26, 2024
440069515_814469973363449_6480229733077204660_n

اسم الكاتب : رياض سعد

نظرة خاطفة في تاريخ منطقة البتاويين

البتاويين هي أحدى مناطق العاصمة العراقية القديمة – نسبيا – ؛ والبتاويــين كانت منطقة زراعية نسبة الى (البتاوين  جمع بتاوي) و هم مزارعون نزحوا من قرية بت على النهروان شمالي ديالى و اقاموا فيها ابان القرن التاسع عشر ؛ وقيل : جاءت تسمية محلة البتاويين من كلمة (ألبتة) وهي قرية من قرى مدينة الحلة وقد هجرها بعض أهلها ليستوطنوا في بغداد في بساتين هذه المنطقة كبستان (مامو)  وبستان الخس ... ؛ وكانت خارج اسوار بغداد التاريخية المعروفة , الا انها ارتبطت بالتاريخ الحديث لمدينة بغداد ؛و كانت بيوت حي البتاويين تنتشر على جهتي شارع السعدون و المنطقة مسجلة بدوائر الطابو باسم بستان (مامو) … ؛ وكان  الكثير من سكان هذا الحي من اليهود العراقيين الذين كانوا يعيشون مع المسيح الارمن الذين جاؤوا مهاجرين الى العراق بعد مذبحة الارمن وقبلها في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين وغيرهم من المسيحيين كالكلدان لاسيما  الطبقات الفقيرة منهم في العقود الاخيرة , ومع المسلمين العرب والكرد … ؛ واغلب منازل الحي شيدت في أواسط الثلاثينات من القرن الفائت … ؛ وقيل وحسب شهادة البعض : ((  … بدأ البناء في منطقة البتاويين بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945) بعد ان بدأ النزوح الى هذه المنطقة بعد (الفرهود) الذي كان عام 1941، وكان اليهود يسكنون في منطقة (ابو سيفين)… ؛  كانت البتاويين مناطق مزروعة بـ (الخس) وكانوا يرغبون ان يسكنوا منطقة (كرادة مريم) في جانب الكرخ، جاءوا الى البتاويين هربا من القتل ، وقد حموهم الفلاحون الذين كانوا في هذا المكان، كما اذكر في (صوبنا / كرادة مريم) حماهم رجل اسمه (عبد علي)، وهذه المزارع ما كانت لأحد وهي من املاك تابعة للحكومة ولكن لا تباع بالفلوس ، وهي آنذاك كانت قائمة على الاستحواذ، اي استحوذ على الارض التي تريد وازرعها وحين تخدمها تصبح ملكك، وان كان هناك سعر لها فهي بدراهم قليلة، المزارعون البتاويون هم بنوها لأنها قريبة من نهر دجلة، وبنوا بيوتا لهم من الطين، جاء اليهود وسكنوا المنطقة وبنوها… ؛ واضاف : ما كانت البيوت تبنى بالطابوق حتى ثلاثينيات القرن العشرين مثل ما عليه (قصر شعشوع). بيوت بغداد كانت من جذوع النخل والخشب وفوقها يضعون حصران (البواري) (جمع بارية) وفوقها تراب. اليهود اول من بنى بالطابوق، هم بنوا البتاويين عندما جاءوا اليها هاربين من بعد الفرهود، بنوها على طراز بغدادي قديم. البتاويين اول حي يبنى بالطابوق بعد قصر شعشوع (يعود القصر لرجل يهودي اسمه الياهو شعشوع، ويقع القصر على شاطئ نهر دجلة في منتصف الطريق بين بغداد والاعظمية، استأجره الملك فيصل الأول ملك العراق لسكناه الخاص العام 1920)، ومن بعد ذلك بسنوات قام الوصي عبد الاله باستيراد معمل الطابوق المثقوب (المزرف)، واليهود هم اول من انشأ معامل الطابوق … )) (1)

وبعد عام 1948 وما تلاه ؛ استمرت الهجرات اليهودية من العراق باتجاه اسرائيل وباقي البلدان , ومنهم من ذهب الى ايران وقتذاك , وخلت منطقة البتاويين منهم ,  وفي مطلع الخمسينات أفرغ الحي من ساكنيه اليهود تماما ؛ وقيل :  نهاية عقد الستينيات وبداية عقد السبعينيات ، فأصبحت أغلب بيوتهم خالية وخاوية على عروشها  ؛  وفي هذا الصدد ينقل لنا الكاتب فياض موزان , تجربة والده مع احداث تهجير وهجرة اليهود , قائلا : (( … كان ابو سامي (بيت شمطوب) يمتلك عقارا بالقرب من الكنيس في البتاويين و كان قد عرض على ابي ان يسجلها بأسمه بدائرة الطابو “احسن ما تروح للحكومة” على حد تعبيره وقد رفض ابي هذا العرض باعتباره اولا: محرم شرعا و مالا مغتصبا بسبب انهم مجبرين على منحه او بيعه بسبب اكراه الحكومة العراقية لهم على ترك العراق بعد ان اسقطت الجنسية العراقية عنهم وثانيا: ان ابا سامي هو صديق وجار، وعاد أبو سامي ثانية ليقول له يا اخي ادفع قيمتها دينارا “حليبا حيث كان يزودهم بالحليب كل يوم” وكأنك اشتريتها وبهذا لا تخالف الشرع خصوصا واني احبذ ان تأخذها انت وبرضاي ولست مكرها على ذلك الا ان ابي اصر على موقفه وقال له مهما دفعت لك فيها فانك في داخلك مكره لا راغب على بيعها و لتاخذها الحكومة وتتحمل ” خطيئتها” ...)) .

ومن العوائل اليهودية التي كانت تسكن حي البتاويين :  بيت يوسف ابو سامي “شاموئيل”، ونسيم حسقيل وبيت خضوري ميرلاوي، وصالح ساسون وبيت شاشا وسليم منشي وكرجي داود، وداود ورده المقاول الذي لم يترك العراق وصار شريكا يعمل باسم يعقوب المنصور ,  والاخير اصبح من كبار المقاولين العراقيين فترة الخمسينات والستينات و هو الذي بنى مدينة الثورة الاولى إضافة الى العديد من مشاريع الطرق… ؛ وقد علمت ان داود ورده كان قد اعتقل بعد عام 68 ومات في المعتقل, وكثير غيرهم  غابوا عن ذاكرتي كانوا يسكنون احلى البيوت في هذا الحي. (2)  

الا انها كانت من اشهر المناطق التي يوجد فيها دور للدعارة والبغاء , ابان العهد الملكي , وقد قال الكاتب معتز محيي عبد الحميد في بحثه (لمحات من تاريخ البغاء العلني والسرّي في بغداد) عن البتاويين , ما يلي : (( … ربما كانت منطقة البتاوين اغزر من سواها ببيوت البغاء، فهي تستقبل كل من هب ودب من الزبائن.. والبعض منهن يستقبلن شخصا واحدا يحظى بمكانة خاصة عندها ويسمى بالعامية (رفيج) وهي لا تقبل ان يضاجعها احد غيره. ولكن عند الحاجة والطلب المستمر والاغراءات المادية قد تستقبل في غياب (الرفيج) ومن دون علمه بعض الزبائن ولكن بواسطة سماسرة مختصين لهذا الغرض. وربما تعمل ليلة او ليلتين في بعض البيوت السرية وتذهب ( تبياته بلغة القوادات) عند الزبون... ))  وقد اتخذ الشيخ محمد العريبي من حي البتاويين منتجعا سياحيا , وعندما هرب نوري السعيد جاء الى بيت الشيخ محمد العريبي في البتاويين الا انه قتل قبل الوصول اليه … . (3)

و كرجي : وهو من أشهر (كواويد) اليهود في بغداد في الثلاثينيات والأربعينيات، وكان يزاول السمسرة بدار تقع في محلة ( التوراة ) المحلة اليهودية وقد توقف عن عمله عندما قررت وزارة الداخلية سنة 1935 تشكيل شرطة الأخلاق من واجبها مراقبة دور الدعارة السرية للقضاء على البغاء ؛ ولكن كل هذا لم يتحقق بسبب تصرفات الشرطة ومفارزها الذين كانوا يتعاونون مع أصحاب دور الدعارة والزبائن الذين يترددون عليها ويقبضون الرشاوى . فصار أصحاب دور القوادة يعطون للشرطة رشاوى أكثر مما يتقاضونه من طالبي الونسة ، فارتفعت الشكاوى من الطرفين الأمر الذي أدى إلى إلغائها من قبل مدير شرطة بغداد فعاد – كرجي – وزملاؤه إلى مزاولة المهنة بحرية تامة … ؛ وكانت حنيني (حنينة) من اشهر بائعات الهوى في بغداد  : وهي يهودية يحلو لها ان تعتبر نفسها في عداد (القحاب) المثقفات خاصة وانها كانت تتواجد في فندق متروبول لصاحبه صادق حنا … ؛ وكذلك بنات مراد : وهن اربع ، ريجينه ومسعودة وروزة وسليمة ( باشا). واللقب ( باشا ) هو ليس اللقب المعروف والاصل هو (باشا) بالباء وهو اسم والد مراد الذي يقال انه يهودي جاء من تركيا في العهد العثماني ، فصارت ريجينة وسليمة تحملان لقب ( باشا) تندرا … ؛ اسلمت ريجينه وتزوجت من ( محمد) ومن ثم عبد الكريم واسلمت سليمة وتزوجت من ناظم الغزالي قبل بضع سنوات من وفاته … ؛ وكذلك  مدام لاوي : وهي قحبة يهودية كانت تقيم في النمسا وجاءت الى بغداد فتعلق بها احد العراقيين وتذلل في هواها وبذل المجهود في خدمتها وتقديم الهدايا لها املا في نيل عطفها فلم يلق منها عطفا ، وقد جاء يوما الى اصدقائه وقد فاض به السرور وقال : اسكتوا.. فان مدام لاوي قالت لي ( سلي) وكلمة سلي (Silly) تعني غبي او سخيف فكان فرحا جدا عندما قالت له انت سخيف … . (4)

وبمرور الايام تحول الحي الى منطقة سياحية و صناعية وتجارية ؛ وفي بداية عقد السبعينيات هاجر اليها  الكثير من المسيح الكلدان  من شمال العراق  ؛ و كان كل بيت  يضم  عدة عوائل مسيحية بحسب شهادة الناس المعاصرين  , وكعادة السلطات التكريتية البعثية الغاشمة في اجراء التغييرات الديموغرافية لصالح الغرباء والاجانب ؛ قام النظام البعثي بجلب مئات الالاف من العمالة المصرية والسودانية والصومالية والفلسطينية وغيرها الى العراق ؛ واسكن تلك العوائل المشردة والمشبوهة  المصرية والسودانية والصومالية  وغيرها في منطقة البتاويين ؛ فقد سكنها المصريون في عقد السبعينات , ثم السودانيون في عقد الثمانينات من القرن المنصرم ؛ وغيرهم الكثير , وفي عقد التسعينات هاجر العديد من سكانها المسيحيين العراقيين الاصلاء مع المسيح من ذوي الاصول الاجنبية والذين هاجروا الى العراق في العقود العثمانية والبريطانية الى الخارج ؛ وجرى تحويل منازلها الى فنادق واوكار لبيع الممنوعات وممارسة الدعارة حتى كأن كل الأمور السيئة التصقت بمنطقة البتاويين , وفي عقد تسعينيات القرن المنصرم باتت البتاويين مدينة سودانية بكل ما فيها الا تراثها العمراني، اذ يقول عنه المواطن السوادني عبدالعظيم عثمان – مصلح ساعات – : ((في اليوم الاول لسكني في فندق قريب من هنا، انذهلت لشكل وجمال البناء المعروف عندكم بالشناشيل ؛  مضيفا : في اول رسالة الى اهلي ارفقت صورة لي مع الشناشيل التي اعجبتهم جدا وحسدني أخي الأكبر عليها...!! )) .

تحوّل العراق في زمن المجرم  صدام وعلى أثر الحروب والحصار الاقتصادي  والنكبات والازمات والقمع والظلم والمقابر الجماعية والاعدامات والجهل وجلب العمالة الاجنبية والغريبة  إلى مرتع لدخول الأفكار الفاسدة ، والأخلاقيات الخطرة ، وعصابات الجريمة والقمار والدعارة والسرقة والتزوير , واضحت منطقة البتاويين مصدرا لكثير من السلوكيات الهابطة والتصرفات الاجرامية والعادات والظواهر المنحرفة , و وكرا لكل الشاذين والمشبوهين والمجرمين  … ؛ وعاثت العمالة المصرية والعربية والاجنبية فسادا في ارض العراق الطاهرة , وارتكبت ابشع الجرائم الجنائية , وعلموا العراقيين الذين كانوا من اطيب شعوب الارض واكثرها نقاء وسذاجة , السلوكيات المنحرفة و الشاذة , وحثوهم على التزوير والسمسرة والغش والخداع والغدر … الخ .  

لقد حاول حكم البعث خلال 35 سنة من حكمه الجائر تدمير النسيج الاجتماعي، والاخلاقي، والفكري والحضاري، وهيمن على كل وسائل الإعلام، ومنع العراقيين من التفكير الحر، لأن الدكتاتور وحده كان يفكر نيابة عنهم ؛ وفي حالة منع الانسان من استعمال عقله كما يشاء لمدة طويلة، لا بد وأن يصاب عقله بالعطل وفق المقولة الطبية:(Use it or lose it)، أي (إما أن تستخدمه أو تفقده)، والضمور لعدم الاستعمال (Disuse atrophy). وهذا المبدأ ينطبق على الصحة الجسمية والعقلية، وحتى الماكنة الصماء إذا لم تستخدم تصدأ. فالشعب العراقي مُنِعَ من إعمال عقله والتفكير الحر لأربعين سنة ، أي منذ إنقلاب 8 شباط 1963 إلى 2003... ؛ كذلك فرض حكم البعث على الشعب اخلاقيته التدميرية الشاذة بكل قسوة وصرامة، وهي الطاعة العمياء المطلقة للدكتاتور بدون أي نقاش، وعلى المواطن أن يتأقلم، ويتكيف كما يريده النظام وفق شعاره الذي ذكره حنا بطاطو في بحثه الأكاديمي عن تاريخ العراق: (إلما يمشي على سكتنا خلي يكعد ويه مرته)… ؛  إضافة إلى الحصار الاقتصادي الدولي الذي أذل العراقيين، والحروب العبثية التدميرية، وغيرها من وسائل الخراب المادي والمعنوي والأخلاقي، فجردوا الناس من قيمهم وأعرافهم السابقة، وحتى الشعور بالمسؤولية والمواطنة والوطنية والانتماء الوطني، فصاروا يائسين من الحياة، لا أباليين … ؛ وفي هذا الخصوص يقول الفيلسوف الإيرلندي (Edmond Burk): “لكي تحب وطنك، يجب أن يكون فيه ما يجعلك تحبه”. لذلك فقد المواطنون كل شعور يربطهم بهذا الوطن، ولسان حالهم يقول:(طز بالوطن، طز بالآخرين)، و (وكلمن يقول يا روحي). بل فرضوا على الشعب التقشف المجحف، وشحة في البضائع بما فيها المواد الغذائية الضرورية منذ السبعينات، أي قبل الحرب العراقية الإيرانية والحروب اللاحقة… ؛  وكنا نسمع أن صدام كان قد تبنى مقولة لأحد خلفاء بني العباس: (جوِّع كلبك حتى يركض وراك) وأخذ صدام بهذه المقولة المهينة لكرامة الإنسان، وطبقها على العراقيين، ولقي التشجيع من مرتزقته حين كانوا يستقبلونه أين ما يذهب بهتافاتهم الرخيصة الصاخبة (بالروح بالدم نفديك يا صدام)، و(صدام اسمك هز أمريكا)... ؛ لذلك فهذا الفساد المتفشي اليوم من أعلى قمة السلطة إلى أصغر موظف هو التركة الثقيلة التي ورثها العراق الجديد من البعث الساقط، وسوف يبقى إلى أجل غير معلوم. وإلا كيف يقبل مهندس أن يقوم بتفجير أنبوب نفط مقابل 600 دولار؟!

نعم هذا ما قرأته بعد التحرير في إحدى الصحف اللندنية … ؛ قد يعترض البعض قائلاً: لكن البعث سقط إلى غير رجعة، فلماذا تلقون اللوم عليه الآن وبعد 16 عاماً ؟ نعم ، البعث سقط ولكن تركته الأخلاقية الكارثية ستبقى إلى أكثر من جيل. وحتى المسؤولون الفاسدون والعاجزون عن الإصلاح هم نتاج مرحلة البعث… . (5)

……………………………………………..

1-البتاويين مزارع خس وسط بغداد كساها اليهود بالطابوق/ عبد الجبار العتابي .

2- حي البتّاوين في بغداد  / فياض موزان .

3- البتاويين بين جاكارتا وبغداد هل هناك علاقة ؟ / كاظم الحناوي .

4-  تاريخ البغاء العلني والسرّي في بغداد .   

5-  عبد الخالق حسين: العراق بين سندان أمريكا ومطرقة إيران  .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *