اسم الكاتب : ابراهيم العبادي
نحنُ في طريق بناء دولة الأمة وليس بناء أمة الدولة ، بهذه العبارة انهيت الحديث السابق وكنت ازمع ترك الحديث في موضوعة الدولة والامة لانها موضوعات ثقيلة على عمود اسبوعي ، لكن الشهية المفتوحة للسادة القراء فرضت واجب العودة الى موضوع دولة الامة باعتبار ان العراقيين ما زالوا في طور التجريب والتعلم والتأقلم البطيء مع هذا الاستحقاق الكبير .
نحن على اعتاب مئوية الدولة العراقية التي تأسست بعد ثورة شعبية اسهمت فيها اغلب اطراف الجماعة الوطنية العراقية ،اعني بها ثورة عام 1920 ،بعد هذه الثورة تأسست دولة العراق الحديث بتتويج الملك فيصل الاول (-1883 1933) في اب 1921،لتكتمل اركان الدولة من امة واقليم جغرافي وحدود شبه مكتملة وسلطة سياسية عليا وهياكل ادارة بيروقراطية ، بعد احد عشر عاما من ذلك التاريخ اشتكى فيصل الاول بمرارة من عدم وجود امة عراقية مندمجة المشاعر والهوية والروابط السياسية والاجتماعية والاقتصادية ،مطالبا بتشكل هذه الامة وبتوحيد اهدافها الكبرى ، كأنه كان يرهن ازدهار الأمة بتنامي قدرة الدولة على القيام بوظائفها وركز على تقوية الجيش باعتباره العمود الفقري كما أسماه لممارسة الدولة لوظيفة الامن ،وهذه الوظائف الاساسية مشروطة هي الاخرى بوحدة الامة السياسية وتخليها عن جزء من حقوقها لصالح سلطة منتخبة بارادة حرة . كان العراقيون تجمعاً بشرياً فحسب يعيشون ضمن نطاق اقليمهم الجغرافي ، وعندما تطلعوا بعيد ثورتهم لدولة وسلطة يختارونها ،تطلب الامر منهم الخضوع لسلطة ملزِمة لهم جميعا ،هذه السلطة ما كان لها ان تكون قادرة وفعالة من دون سيادة ،فالسيادة هي الركن الاهم الذي تقوم عليه وبه الدولة ، فهي الخاصية المطلقة لسلطة ما ،بمعنى انها بالسيادة تستطيع القيام بوظائفها في الفضاء الذي تحكمه وتسيطر عليه ،وللسيادة وجهان ،سيادة داخلية وسيادة خارجية ،ففي الاولى تكون الدولة ممثلة بالسلطات قادرة على فرض ارادتها فوق كل ارادات مجتمعها (امتها) تشريعا وتنفيذا واحتكارا للعنف ، والثانية مقتضاها عدم الخضوع والتبعية لاي سلطة خارجية فهي تتعامل بمنطق مصالحها وحقوقها وارادتها المستقلة .استهلك العراقيون مئة عام من عمر اجيالهم وهم يتنازعون على طبيعة السلطة وشكل الدولة وفلسفة النظام السياسي الذي يحكمهم ، بينما كان العالم بأسره يتجه الى ما يسميه الفيلسوف الاجتماعي الالماني يورغن هابرماس ( 1929- ) الى مرحلة جديدة هي مرحلة ما بعد الامة- الدولة،بسبب العولمة ونتائجها
السياسية والاقتصادية والثقافية ،والذي بموجبه تآكل مفهوم السيادة وتقلصت مساحة الحرية امام الدول ولم يعد ممكنا ممارسة السيادة بوجهها الخارجي وحتى الداخلي بمفهومها القديم ، ومثلما بدأت المفاهيم تتغير وفقا للمعطيات المعاصرة ،كان نصيب مفهوم الامة من التغيير كبيرا ايضا ،فلم يعد المفهوم مقتصرا على معناه القديم الذي عنى الوحدة العرقية او اللغوية او الثقافية لجماعة سكانية ،بل صارت تعني ارادة جماعة بشرية على العيش المشترك وفقا لمصالح مشتركة واهداف متوافقة ، لم يعد للاصول العرقية والاستمرارية التاريخية والانتماء لجغرافيا محددة اي تأثير حاسم في تعريف الامة المعاصرة ، بل الشعور النفسي بالانتماء ،ووحدة المصالح والارادات وفعلية ممارسة المواطنة وحقوقها وواجباتها ، وحمل جنسية الدولة والتمتع باستحقاقاتها ، مع الخضوع الكامل لسلطة الدولة والاعتراف بسيادتها والعمل وفق مقتضيات هذه السيادة ، فلايمكن منازعة سلطات الدولة ،ولا فرض اجندات عليها طالما انها منتخبة ديمقراطيا وتتمتع بشرعية دستورية ولو في حدها الأدنى .
ما اعاق بناء الدولة في العراق ،تعسفان ،التعسف الاول كان في صيرورة الدولة ضد الامة عندما اصبحت الدولة مستبدة ومتسلطة وشمولية وقاهرة لارادة وحرية الامة وحقوقها الطبيعية والسياسية والثقافية ، والتعسف الثاني كان في استشراء روح التمرد على السلطات ذات الشرعية الدستورية ، فصارت الطوائف والعشائر والاحزاب والتيارات والفصائل تشكل ميليشيات مسلحة وتنازع الدولة سلطاتها وسياساتها ومواقفها ،اي ان الدولة لم تعد قادرة على احتكار العنف المشروع ولا قادرة على بسط سلطاتها ، وغير متمكنة من ممارسة سيادتها الداخلية والخارجية ، فصار ذلك كله وبالا على اجهزتها وهيبتها وقانونها وافتقدت القدرة على ممارسة وظائفها الامنية والاقتصادية (الاستخراجية والتوزيعية )والرمزية ، فاستحقت بذلك ان تكون دولة اللادولة او دولة فاشلة او دولة هشة ، بما جعل المواطن العادي خائفا يترقب ،يتمنى حضورا فاعلا لسيادة الدولة ،ويرجو قدرة على ممارسة هذه السيادة بلا منافسة من احد وبلا تحد من جماعة او فصيل في الداخل ، او دول في الخارج .
العراق يعاني من عدم قدرة امته على بناء دولتها لتنهض بمسؤولياتها الكبيرة ،ويعاني من عدم ادراك هذه الامة وخصوصا الفاعلين السياسيين فيها لخطورة الاستمرار في الجدل السياسي وصراع الارادات والتوجهات والمصالح ، فذلك ما يرسخ القناعة بأن ثمة قوى محلية واخرى خارجية لا تريد للعراق ان يعود دولة ذات سيادة .انهم مستفيدون من فوضى السلاح وانفتاح الحدود وهشاشة السلطات .