اسم الكاتب : انستاس ماري الكرملي
يروي لنا الكلدان في كتبهم التي وصلتنا روايات عجيبة في المخلوقات الأولى؛ فقد زعموا أنها مخلوقات غريبة الصورة والهيئة، خيالية الخلق، ظهر في وسطها الإنسان عريانًا أعزل، وبعد ذلك ظهر الإله «يونس» من خليج فارس، فأنس إليه الناس، وأخذ يُهذِّبهم ويُمدِّنهم، وكان جسمه جسم سمكة، ورأسه وصوته رأس إنسان وصوته، وكانت رجلاه البشريَّتان تخرجان من ذنبه السمكي البينية. ومهما يكن من هذه الرواية فإن الذي ينظر أراضي هذه الديار ويُقابلها بأراضي النيل يرى مشابهة عظيمة، يرى أن الإنسان حاول الاندفاع إلى الرُّقي كما حاوله ساكن وادي النيل، وقد ساقه إليه غِنى الأرض وثروتها؛ أي ما على وجهها من العزيل (وهو الطين الأحمر، ذاك الثوب الذي يخلعه دجلة في الربيع على ابنته المحبوبة الأرض العراقية المباركة)، فتقذف حينئذٍ ما في أحشائها من الكنوز؛ أي أثمارها وحبوبها، وذلك لأدنى عمل يعمله الزُّراع على حدِّ ما يفعله زارع وادي النيل. على أن بين ماء النيل وماء الفراتين فرقًا؛ فماء الرافدين يجري على وجهٍ غير مطرد؛ إذ يُفاجئ الزارع ويضره أضرارًا بليغة، بخلاف ماء النيل، فإنه يُوافي البلاد بمواسم معلومة ومحدودة، ويكون قدومه إلى تلك الديار سببًا لفرح الفلَّاح وسعادته. الفراتان يجريان بين جبال من الرمال، مفتوحي الواديين لغزوات البدو المبثوثين في غربيهما، ولغزوات أهالي الجبال المنتشرين في الجبال القائمة في شماليهما وشرقيهما. والنيل يجري في أرضٍ لا يلحقها الأذى؛ ولهذا لم ترتقِ هذه البلاد إلا من بعد أن تمكَّن أهلها من ردع جماح الطبيعة وأبنائها الهمل، بخلاف النيل فإن أهله تقدَّموا في الحضارة وأوغلوا فيها قبل سكان هذه الديار لخلو واديه من تلك الموانع. ومع ذلك كله إننا نرى أهالي هذه البلاد قد خطَوا خطوة في الحضارة في نحو 3000 سنة قبل الميلاد، وحفروا أنهُرًا عديدة، وبنَوا مدنًا كثيرة بالطابوق (الآجر)، وفي كل مدينة منها حاكم يحكمها، وإله يُعبد فيها خاصة، ويجمع الكل حاكم عام ممتد سطوته على البلاد كلها. وأشهر المدن التي بُنيَت يومئذٍ في العراق؛ أي في جنوبي الجزيرة، وهي نبور (وهي المعروفة اليوم باسم نفر، وكان إلهها الليل يُعبد في جميع المدن)، وكيش (وهي اليوم تل الأحيمر)، ولجش (تلو)، وأورك (الوركاء)، وأور (المقير)، وأريدو (أبو شهرين)، ولارسا (سنكرة)، وغيرها من المدن التي كانت في شمالي العراق أوبي (أو أوبيسر، وهي اليوم أبو حمشة، وعند العرب الأقدمين باحمشا). في وادي النيل كان لجميع الأهالي لسان واحد، أما هنا في وادي الفراتين في الأرض التي تسميها التوراةُ أرضَ شِنعار (بكسر الأول، ولعل القراءة الصحيحة بفتحه)، فكان فيها أقوام من سلالتين مختلفتين، ولهم لغتان، كلٌّ منهما تختلف عن صاحبتها، ويُسمَّى القُطر الشمالي «أكد»، وسكانه أقوام ساميُّو الأصل، أولاد عم العرب والعبريين والفينيقيين والسُّريان، طويلو اللحى سُودُها ومتموِّجوها، وقد احتل القطر أجدادهم قادمين من ديار العرب في زمنٍ واغل في القِدَم. وأما القطر الجنوبي المجاور لمصب الرافدين فاسمه شمر، وسكانه أقوام لا رابط يربطهم بقومٍ من أقوام الأرض الذين نعرفهم، محلوقة لحاهم وشواربهم وشعور رءوسهم، وأنوفهم بارزة دقيقة الأطراف، وشفاههم رقيقة حسنة، فأيُّ الفريقين كان الأول في هذه الديار الفراتية؟ فلا يمكننا الجواب عنه الآن، وهذان الفريقان وإن كان أحدهما يختلف كل الاختلاف عن صاحبه، إلا أنه من البديهي الذي لا يُنكَر أن كلًّا منهما استعار من الآخر معارفَ شتَّى، وكلاهما كان يبعث بالهَدْي إلى آلهة البلاد، مثلًا إلى «الليل» إله نفر. ويُصوِّر الشمريُّون إلههم بصورة أكدية، وأخذ الأكديون عن الشمريين الكتابة، ذلك الاختراع الذي اخترعوه في أرض الفراتين (كما اخترع مثله سكان النيل قبلهم ببضعة ألوف من السنين)، إلا أن كتابة الشمريِّين لا تشبه التصاوير كما تشبهها الكتابة المصرية التي يُرى فيها صور أُناس وحيوانات وطيور، أما خط الشمريين فهو عبارة عن مجموع خطوط ذاهبة في الطول والعرض بهيئة مسامير أو أسافين قصيرة، ومن ذلك اسمها اليوم عندنا، وهو الخط المِسماري، أو الإسفيني. وأهل وادي الفراتين كأهل وادي النيل، ينقشون ألفاظهم على صفائح من الحجر، وإن كان الحجر عندهم أغلى وأندر مما هو في وادي النيل؛ لأن الجبال التي تُقطع منها هذه الحجارة هي بعيدة عن مدن العراق، بخلاف المدن التي في وادي النيل، فإن مقاطع الحجارة قريبة منها. وسكان وادي النيل كانوا يستعملون في أشغالهم المألوفة الورق المُتَّخَذ من البردي، وأما سكان وادي الرافدين فكانوا يستعملون في مثل هذا المقام الطابوق (الآجر) والشمامات والصفائح المتخذة كلها من الفخار، وقد وُجِد من هذه الرقم ألوف وألوف محفور عليها كلها أنواع الإفادات والأنباء، وكانت مدفونة تحت الأرض، وقد حُفظَت كتابتها أحسن حفْظ كأنها خرجت اليوم من يد عاملها، وهناك ألوف غيرها تنتظر أيدي الحفارين ليبرزوها إلى عالم الظهور والمطالعة والاستفادة والإفادة، ومَن وقف على بعض ما ورد في هذه الزُّبر الحجرية أو الفخارية يتحقق أن السلطة كثيرًا ما انتقلَت من يدٍ إلى يد، ومن بيت إلى بيت، ومن قوم إلى قوم، ومن مدينة إلى مدينة، ومن الشمريين إلى الساميِّين، ومن الساميِّين إلى الشمريِّين، وذلك قبل المسيح بنحو 2800 سنة وبعدها. وليس هنا محل لإيراد أسماء ملوك الذين ملكوا في أرض شنعار قبل ألوف من السنين، ولا سيما أن أغلب هذه الأسماء لم تألفها آذاننا ولا تنطبق على أصول لغاتنا في هذا العهد، ولا بد من إيراد بعض منها لتكون بمنزلة مثال لما هناك من هذه التراكيب السمجة التي نستغني عن إيراد ما بقي منها، وهي نحو: لوجالشا جنجور، وأنشا جكوشانا، ولوجاليكجو بنيدود، ونحوها من الأسماء التي تصلُح لأن تُتَّخَذ للطلاسم والعزائم، أو لإبعاد الجن والشياطين عن بني آدم، والمراد من إيرادنا بعض الأمور عن شنعار وأرض النيل أن أهالي ذلك العصر كانوا قد جرَوا شوطًا بعيدًا في الحضارة، وقد ابتعدوا كثيرًا عن الإنسان الأول. وفي ذلك العهد كانت الأرض تنقسم إلى قطرين: قُطر قد ضُربت عليه سرادق الجهل بظلماته، وقُطر قد غرق في نور العلوم والمعارف، وهو المعروف أصحابه بالمتمدِّنين؛ فمدن القُطر الذي كان واغلًا في الحضارة قد تُعارض المدن الكبرى الشرقية في عهدنا هذا بدون أن يلحقها أدنى شائبة، فإنك كنت ترى في تلك المدن طُرُقًا طويلة ضيقة متمعجة، نشأَت من حيطان البيوت العظيمة التي بُنيَت باللبِن، وكانت معاطاتهم ومعاملاتهم تجري على أحسن وجه، وتُكتب لإحكام أمورهم الوثائق والسندات والحُجج والمقاولات والمبايعات والقرض، إلى غيرها، وكانت تُختَم بالخاتم على معجون الطين، ثم تُشوى في النار لتُحفظ من كل ضرر، وكانت فائدة توقيع هذه الخواتم بمنزلة توقيع الأسماء أو الإمضاءات في عهدنا هذا، وزِد على هذا كله أنه أُنشئ في عهد الملك حموربي دستور أحكام، ولعل هذا الملك قد سبق إلى مثل هذا الدستور، فلم يصِل إلينا، أو أن مثل ذاك الدستور كان يجري بين الناس بالمعاطاة، بدون أن يكون مُدوَّنًا على صفحات الصفائح، وكان لأهل ذلك العهد درجات في المقامات والمجالس على حد ما هي موجودة اليوم، وكان «لابن إنسان» بمقام ممتاز صرحٌ، به دستور أحكام بابل، وهو يختلف عن مقام «الفقراء»، وكان في ذلك العهد المماليك والعبيد، كما كان يوجد رجال أحرار. وكنت إذا خرجتَ من البلدة ترى طُرقًا واسعة، والأشجار عن يمينك ويسارك، وتلك الطُّرق تنحدر بك انحدارًا وئيدًا لا تشعر به، تغضي بك إلى المزارع أو الغابات أو غيطان النخل التي تزكو من سقي الفراتين أو من ماء الأنهُر؛ لأنك إذا التفتَّ إلى حيثما أردت كنت ترى الترع والجداول في كل جانب، وقد شُقَّت لتسقي تلك الأرضين التي أصبحَت كلها جنات بفضل المياه، ولا جرم أن الترع أو الأنهار لم تُشق في وقتٍ واحد، بل هي عمل أجيال متعدد تتابَعت على وجه تلك البقعة المباركة، وفي بعض المواطن كانت مستنقعات عديدة عظيمة، فاتُّخذ لها مصارف ومجارٍ؛ لكي لا تبقى في موطنها وتُفسد الهواء، فانتفعوا بها بعد أن حوَّلوها سواقي وجداول، وزرعوا ما جزر عن أرضها الماء، فجاءَت مزارع زكية وبساتين بهية، وكان من أهم أمور كل حاكم من حكام بلاد شنعار ومن أعظم مفاخرهم أن يحفر أحدهم ما اندفن من الترع والأنهار، أو أن يشُقَّ أنهارًا جديدة، وما كانوا يتفاخرون في غير هذا. وحيثما كان يدخل الماء بقعة كانت تتدفق فيه الخيرات والغلات، وتزكو فيه الأشجار، وتكثُر فيه الأثمار، وقد ذكر هيرودوتس، الذي طُوي بساط أيامه قبل المسيح بنحو خمسمائة سنة، ما هذا معربه: من جميع البلاد التي نعرفها نرى أرض العراق أزكاها تربةً، وأخصبها مادة للحنطة، ولم تحاول هذه أن تحمل تينًا أو عنبًا أو زيتونًا، (1) لكن تزكو فيها سائر الحبوب أي زكاء، حتى إنها لتعوِّض عما لا تنبت من تلك الأثمار والأشجار، ولقد تؤتي الحبة الواحدة المزروعة مائتي ضعف، وقد يزداد على ذلك بعض السنين، فتفوق الأرض نفسها فتُعطي بدل الحبة الواحدة ثلاثمائة حبة، وعرض ورق الحنطة والشعير يبلغ هناك أربع أصابع. هذا، ولا أذكر شيئًا عن ارتفاع سوق الذرة والسمسم؛ لأني أظن أن الذين لم يكونوا في ديار العراق لا يُصدقون أبدًا ما ذكرته عن زكاء حبوبها، ومع كل ما يُقال عن ثروة أرض العراق، فمساحة ما يمكن سقيه وزرعه محدود بخلاف ما يُتصور عنه، فلقد ذكروا أن المساحة الكُبرى التي أمكن أن تُحرث وتُزرع وتُسقى في الزمان القديم كانت تتراوح بين 20000 30000 كيلومتر مربع، والباقي — وهو 70000 كيلومتر مربع من الأرض الغريلية — كان يُترَك على حالته الأولى (2). في العهد القديم كان الشنعاري إذا سار في أرضه فلا يقع طائر بصره إلا على غاباتٍ تزدحم فيها النخيل والغرب والصفصاف، ويمتد السهل بين يديه بقدْر ما كان يبلغ بصره من مدى الأفق. وكان إذا أوغل في شرقي دياره لمح جبال إيران تتتالى أمامه كأنها الأغنام تأخذ بعضها برقاب بعض، ويرتقي بعضها فوق بعض، كأنها دَرج توصلك إلى أبعد أوج من الجو، ولعل هذا المنظر هو الذي دفع أهالي هذه البلاد إلى البناية المتدرِّجة التي تُرى في بعض مُشيَّداتهم وقصورهم، فكان السطح يعلو السطح الآخر، لتتمثل أمام عيونهم الجبال البعيدة عن أنظارهم، ويغروا من منظر السهول التي قد أتعبت أبصارهم، هذا فضلًا عن أن الحر هو الذي كان أول سائق لهم لبناية السطوح؛ لأنه إذا اشتد في هذه الديار تعذَّر على الإنسان سكنى الغرف فيعلو السطوح ليلًا؛ ترويحًا للنفس، وشمًّا للهواء العليل، وهربًا من حر الحجر الذي لا يُطاق. ومما بنوه مدرَّجًا هياكلهم، حتى إذا اعتلوها ليلًا ذكَّرتهم صهواتها خالقَ تلك النيرات المنثورة في القبة الزرقاء نثار فرائد الدرر على بساطٍ أزرق، ولما كانت الأمور تقود الإنسان من شيء إلى شيء ساقه هذا المنظر الرائع إلى رصد النجوم والكواكب، فكان أهل شنعار أول مَن عُني برصد محاسن السماء على قواعد مطردة، وفاقوا مَن تقدَّمهم في هذا الفن البديع، وما زالت مجموعة معارفهم فيه تزداد وتتسع جيلًا بعد جيل حتى اتصلَت بعدهم باليونان، وهي — والحق يُقال — لم تكن راقية كما يتوهَّمه بعضهم، لكن اليونان زادوا عليها زيادة تُذكر، وكذلك فعل الرومان، فتقوَّمَ منها علم النجوم وعلم التنجيم معًا، إلا أن أساس تلك المعلومات كان مبنيًّا على ما وضعه الكلدان، وهم الذين كانوا يزعمون أن حظوظ الناس وسعودهم ونحسهم متوقفة على بروج السماء وكواكبها وعلاماتها وظواهرها، وقد بلغ بهم الرصد إلى أنهم عرفوا ما كان ثابتًا من تلك النجوم وما كان متحيِّرًا، مع أن الأجرام النيرة التي تغشى تلك القبة الزرقاء تُعدُّ بالألوف والملايين، ولقد تصوَّروا في تلك النيرات صورًا وهمية، انتقلَت أسماؤها إلى الخلف إلى يومنا هذا، كالعقرب مثلًا، والرامح الذي نصْفه إنسان ونصفه حيوان، والجدي بذَنَب سمكة، وكان للشمريين معنًى خاص بالسيارة التي نُسمِّيها إلى اليوم الزهرة، ويشركونها بمعبودة الحب والولادة، وكان مركز عبادتها في أورك (الوركاء).
………………………………………..
1- هذا ما قاله المؤلف في عهده، والظاهر أن أهل العراق كانوا يعنون كل العناية بزرع الحبوب والنخيل، ولا يهتمون بزراعة الأشجار المعروفة اليوم عندنا باسم «التحتاني»، وإلا فإن التين والزيتون ينموان ويزكوان ِّ فوق ما يتصور الإنسان. وزيتون العراق من أكبر ما يوجد من جنسه على وجه الأرض، وأما العنب فحدث َّ عنه ولا حرج، إلا أنه ملا كان النخل أكثر غلة من سائر الأشجار عنوا به كل العناية، وتركوا سائر الأشجار ً التي لا تغل إلا قليلا بالنسبة إلى النخل والحبوب؛ فاعلم ذلك واحفظه.
2- ذهب ويلكوكس إلى أن ماء الفراتين لا يكفي لسقي أكثر من 30000000 (كذا) كيلومتر مربع، وذلك إذا اريد أن يبقى في دجلة ماء كاف ٍ لتسيري البواخر عليه، وإلا ففي دجلة مقدار واف ٍ لسقي أرض أوسع مما ُ أ ُبدل بنقل الأموال على سكة الحديد، ذكر، وهذا لا يُمكن إلا إذا تُرك تسيري البواخر على الشط المذكور، وأبدل بنقل الأموال على سكة الحديد وما كادت تحتل الدولة البريطانية بغداد إلا وشرعت بمد هذه السكة، وهي اليوم تُعني نقل ما يُحمل على ظهر دجلة من الأموال والذخائر الحربية.