نوفمبر 22, 2024
98

اسم الكاتب : انستاس ماري الكرملي

لمَّا كان يحكم على أرض شنعار كلها — أي أرض شمر وأكد معًا — مَلِك واحد يرعى رعيته بصولجانه، كانت تلك الأرض عبارة عن قوة متجمعة تتمكن من أن ترسخ في جميع البلاد المجاورة التي أصحابها دون شنعار قوة وتمدُّنًا وحضارة. ويظهر أن تجمُّع هذه القوى وازدحامها في مركزٍ واحد هما من خصائص هذا الزمن لا من خصائص الخضوع لملك واحد في العصور الخالية الواغلة في القِدَم. ويحق لنا أن نفكر أن الحرية الشخصية كانت أثبت في القبائل الأولى منها في مدن شنعار وديار مصر، وكان من المُحتَّم على الرجل المتشوِّف إلى أن يتقدم في السلطة المنتظمة أن ينزع من نفسه شيئًا من حريته الحاسية التي نشأ فيها، وينقاد إلى أخلاقٍ تُرضي الجميع. أما ملك شمر وأكد فكان في نفسه مطامع أعلى، كان في نيته أن يكون سلطانًا مطلق الأمر والنهي؛ ففي نحو سنة 2500 قبل المسيح — على ما ذكره المحققون — دفع سرجون ملك أكد جيوشه الظافرة إلى ما وراء تخوم شنعار شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا؛ ففي الشرق أخضع لصولجانه العيلاميين (الذين يسميهم العرب بني غليم. راجع القاموس مادة غلم، بالغين المعجمة؛ وابن خلدون 2 و13) في القُطر المرتفع المعروف عند العرب باسم خوزستان، واليوم هو جزء من مملكة فارس، في الجنوب الغربي في نحو طرف القسم المطمئن من الأرض الغريلية التي يجتمع فيها النهران، وسكانه اليوم أقوام يتكلمون لغة خاصة بهم، لا تُشبه السامية ولا الشمرية، وكانت حاضرته السوس المعروفة اليوم باسم ششتر، وكان أولئك القوم لا يَدينون بعض الأحيان للملوك الشمريين والأكديين، فيقومون ويُغِيرون على مدن شنعار. وكانت حضارة عيلام مقتبسة في صورتها الخارجية من شنعار، أما في الجنوب فإن سفن سرجون كانت تمخر مياه خليج فارس ليوصل جزائر البحرين بمملكته، وهي الجزائر التي تتصل اليوم بدولة أخرى عظمى بواسطة بواخرها الجسيمة. وفي الشمال كانت جحافل سرجون تصعد دجلة وتدوِّخ قبائلها السامية؛ فلقد وصلَت على الأقل المدينة الأرمنية المعروفة اليوم بديار بكر؛ إذ وُجد فيها صفيحة شبيثية (بازلتية) لابن سرجون، ووارث مملكة أبيه، ومدينة حرَّان (التي يسميِّها بعضهم خطأ: هاران) المتربعة في سهل الجزيرة، أخذت من عمران شنعار شيئًا قليلًا وكثيرًا، وهي التي أصبحَت في القرون المتتالية مركز عبادة خاصة بسين القمر الإله، إله شنعار. وفي غربي الفرات دوَّخ سرجون بلاد قوم ساميين آخرين اسمهم العموريون، وكانوا قد توطَّنوا سورية الشمالية بين الفرات والبحر، وبلغ سرجون بحر الجنوب الكبير، وكانت سفنه تذهب لتمكن سطوته في قبرص، وهي جزيرة لاحقة بدولة بريطانية العُظمى، كأن البحرين بالإمبراطورية المذكورة بواسطة السفن أيضًا. وعلى ما ترى، كان سرجون قد دوَّخ العالم كله، ذلك العالم الذي كان يعرفه الشنعاريُّون، أما وراءه فكانت ظلمات الهمجية تغشى ما بقي من العالم الذي كان وراء فتوحاتهم. قلنا دوَّخ كل العالم، ولعلنا بالغنا في الكلام؛ لأن في ذلك العهد نفسه، وفي زمن فتوحات سرجون الكثيرة، كان ملوك وادي النيل اختصُّوا بأنفسهم فلسطين وفنيقية، ولا جرم أنهم واصلوا وراسلوا ملك أكد. نعم، إن سرجون أصبح يومئذٍ ملك أقطار الأرض الأربعة وسيدها؛ لأن الشنعاريين كانوا يعتبرون البلاد الواقعة في الأصقاع البربرية المكتنفة بالظلمات غير جديرة بأن تُعدُّ بين البلاد. إن الدولة الأكدية العظيمة — دولة سرجون — لم تدُم طويلًا؛ فمن بعد قرنين انتقل الصولجان من جديد إلى أيدي الشمريين؛ إذ جاءت مدينة أور (المعروفة بأور الكلدانيين في التوراة، وهي المسماة اليوم: المقير)، وأقامت على العرش ملوكًا من أبنائها. والبلاد التي دوَّخها سرجون خارجًا عن شنعار انتقضَت، ثم قدِم الفاتحون العيلاميون وساقوا أسيرًا آخر ملك من ملوك أور. والظاهر أن شنعار بعد هذا الأمر سقطت من عظمتها، فتطايرت شظاياها، وأصبحَت كل شظية منها دُويلة قائمة بنفسها. وإذا نظرنا بوجهٍ عام إلى ما يمكن العثور عليه من تاريخ شنعار نرى أنه يتعذر على الشنعاريين أن يستعيدوا دولتهم الضخمة، أو دولة طويلة البقاء. نعم، إننا نرى من وقتٍ إلى وقتٍ قيامَ بيت من الملوك الشمريين أو الأكديين يقبضون على أزِمَّة المملكة، لكن ذلك لا يدوم طويلًا، وإن كانوا يجمعون في قبضتهم التسلُّط على البلاد كلها. إن تاريخ شنعار المتقطع يُخالف كل المخالفة تاريخ ديار مصر؛ لأن تاريخ هذه الديار يتسلسل تسلسُلًا عجيبًا أن انتقل من يد ملك واحد مستقل إلى يد ملك آخر مستقل مدة 4000 سنة تخللها فترة يسيرة. ولعل سبب ذلك التقلُّب في بلاد شنعار وجود عنصرين قديمين مختلفين مع لغتين متغايرتين، بخلاف بلاد وادي النيل، فإن أهاليها يرجعون إلى عنصرٍ واحد، ويتكلمون لسانًا واحدًا؛ هذا فضلًا عن أن بلاد مصر كانت قد انحازَت عن سائر البلاد بالبحر الذي يفصلها من جهة، وجبال بلاد العرب أو هضابها من الجهة الأخرى. وأما بلاد شنعار فإنها كانت شاغرة مفتوحة لكل مَن يهجم عليها ومن كل جانبٍ منها. إن تاريخ شنعار السياسي متقطع، إلا أن حضارته بقيَت ثابتة غير متزعزعة خلال أزمنة الملوك الذين تداولوها، والطوارئ المختلفة التي طرأت عليها؛ فالأراضي كانت تُزرع وتُسقى، وأهاليها كانوا يبيعون ويشترون ويُدوِّنون حساباتهم ويكتبون مراسلاتهم على صفائح الفخار، وكانوا يعبدون أربابهم على ما كان يفعله أجدادهم، وكان أهل الجبال وأهل السهول يزدحمون في شنعار ويترددون إلى غاباتهم وبساتينهم بدون مانع يمنعهم، ويتعجبون من محاسن أرضهم، بل من محاسن فردوسهم، وهو أمر لم يروه خارجًا عنها، كانوا يرون في بلادهم شنعار حيطانًا سميكة من الطاباق، وأبراجًا حسنة البناء، كأنها تناغي السماء. كانوا يرون صور حيوانات ووحوش جسيمة، رُسمَت طبقًا لأصول صناعة توارثها الخلَف عن السلف، ولها مزايا خاصة بها لا توجد في غيرها، وهي كلها منحوتة في الحجارة، أو منقوشة على الآجر، أو مصبوغة بأصباغٍ ملوَّنة أحسن تلوين متلألأ في الشمس الباهرة النور. كانوا يرون أسواقًا يتزاحم فيها الناس من كل حدب وصوب، ذوو ثياب واسعة طويلة، تنحدر على أقدامهم الحافية، أو التي فيها نعال خفيفة لا يُسمع منها حس، وهم يمشون في شوارع كثيرة التراب والعجاج. كانوا يرون بضائع وأموالًا معروضة للناظرين، وأقمشة نفيسة مزركشة أو مُطرَّزة على ما كان يفعله الشنعاريون، زركشة وتطريز لم يُنافسهم فيهما أحد من الأمم، وقد بزوا فيها على سائر الأقوام المجاورين لهم. أو يرون فيها بضائع معروضة وقد جيء بها إلى بلادهم على ظهور الجِمال أو الحمير، وقد نقلوها من البلاد المجاورة. إلا أن الشنعاريين كانوا محرومين من شيءٍ واحد، إنهم كانوا محرومين في عهد سرجون أكد من الخيل الجِياد؛ لأن القبائل المتجولة في الشمال كانت قد اتخذَتِ الحصان خادمها، بل رفيقها، ولم تكن تعرف الطريق المؤدية إلى الجنوب، لا سيما الطريق المؤدية إلى بلاد شنعار نفسها، وكذلك لم يكن للفراعنة ذلك العهد جياد لجر عجلاتهم، كما لم يكن للأعراب الرُّحَّل جياد لركوبها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *