نوفمبر 21, 2024
download (1)

الكاتب : علي المؤمن

    ينطوي موضوع مستقبل النظام الاجتماعي الديني الشيعي(1) على ثلاثة محاور رئيسة:

    1- دراسة واقع النظام الاجتماعي الديني الشيعي وعناصره ومكوناته العامة والخاصة، ومراجعة أدائه وتقويم مساراته، والعودة الى مبادئ مؤسسي النظام وقياداته، وثوابتهم وسلوكياتهم، والأهداف التي وضعوها لحراكاتهم، وخاصة المنظومات والكيانات والتنظيمات والمؤسسات التي يتمظهر فيها النهوض الشيعي الشامل، دون الاستغراق في الانشغالات الحكومية والسياسية والدفاعية، أو التوقف عند الإنجازات والنجاحات، التي تتسبب في غفلة أو تغافل عن أغلب السلبيات والأخطاء التي تكبر تدريجياً، ثم تتدحرج ككرة الثلج، لتطيح بالكثير من الإنجازات. وستكون مخرجات هذه الإجراءات وأشكالها ومضامينها، بمثابة معطيات الحاضر التي تنطلق منها عملية استشراف مستقبل النظام الاجتماعي الديني الشيعي وصناعته. 

    2- استشراف مستقبل النظام الاجتماعي الديني الشيعي وتشوّف آفاقه، والوقوف على سيناريوهات هذا المستقبل كما ترسمها معطيات الحاضر، في إطار المنهجيات العملية التي وضعتها الدراسات المستقبلية (Future Studies) الحديثة أو ما يعرف بالمستقبلية  (Futurism) وعلم المستقبليات (Futurology). ثم التخطيط لمستقبل النظام واستمرار صعوده ونهوضه، على مديات مختلفة، قصيرة ومتوسطة وبعيدة، وطرح البدائل المناسبة، وفق رؤية استراتيجية، تهدف الى صناعة هذا المستقبل(2)، وليس مجرد عملية استشراف وانسياق مع الأحداث الداخلية التي ستكتنفه، والخارجية التي ستحيط به.

     3- استشراف مستقبل الدوائر المتداخلة مع النظام الاجتماعي الشيعي؛ لأن الشيعة ليسوا كانتونات مستقلة عن بلدانهم ومجتمعاتهم العامة وأمتهم المسلمة، ولا يمكنهم تجاوز القوانين المحلية والدولية وتشكيل جزيرة أو جزر منعزلة عن العالم؛ بل هم جزء من بلدانهم، ومكون وطني أساس، ويتفاعلون تلقائياً مع نظمها السياسية والقانونية والاجتماعية، ويتحملون مسؤولية الشراكة الوطنية مع المكونات الأخرى، المسلمة وغير المسلمة، وكذلك هم مكون ديني إسلامي، وجزء من أمتهم الإسلامية، ويتحملون مسؤولية الشراكة الدينية مع المجتمعات السنية في البلد الواحد، والشراكة الدينية مع كل مسلمي العالم؛ لأن الغاية من صناعة المستقبل الشيعي هي أن يكون الشيعة شريكاً أساساً فاعلاً إيجابياً(3)، في بناء دولهم المستقلة المتطورة والضامنة لحقوق وحريات الجميع، وفي قرارها السياسي والديني، وفي صياغة قوانينها ومساراتها الداخلية والخارجية، وكذلك مساهمين أساسيين في إعادة بناء الأمة الإسلامية وقرارها ومساراتها ومصيرها. 

    وبالتالي؛ فإن هناك خمس دوائر متداخلة في عملية الاستشراف والتخطيط والصناعة، ولن ينجح أي منها في تحقيق هدف صناعة مستقبل شيعي وطني أو مستقبل شيعي عام أو مستقبل وطني لكل بلد أو مستقبل إسلامي عام، بمعزل عن الدوائر الأُخر:

أ‌- دائرة المجتمع الشيعي في البلد الواحد، وهي الدائرة الشيعية الوطنية.

ب‌- دائرة النظام الاجتماعي الديني الشيعي، وهي دائرة عامة تشمل جميع الشيعة في كل أنحاء العالم، كما تشمل جميع عناصر هذا النظام ومكوناته، وهي الدائرة العالمية الشيعية.

ت‌- دائرة البلدان التي يسكن فيها الشيعة، وهي الدائرة الوطنية.

ث‌- دائرة المجتمع الإسلامي في كل بلد يعيش فيه الشيعة، وهي الدائرة الاجتماعية الإسلامية الوطنية.

ج‌- دائرة الأمة الإسلامية التي تشمل جميع البلدان المسلمة إضافة إلى المسلمين في البلدان الأخرى، وهي الدائرة الإسلامية العالمية العامة.

    وعلى مستوى الدائرة الشيعية العامة، موضوع بحثنا؛ فقد ظلت مظاهر صعود النظام الاجتماعي الديني الشيعي ونهوضه الشامل ونهوض مكوناته وتحديث سياقاته؛ تسير بوتيرة واحدة غالباً منذ العام 1979، وتحوّلت من مرحلة التدافع والصراع على بقاء المشروع الجديد في وجه التحديات الوجودية الكبيرة في العقدين التاسع والعاشر من القرن الماضي، إلى مرحلة الاندفاع والصعود المصطرد منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، رغم أن بعض محاور الصعود لا تزال متلكأة، كما هو الحال في آذربيجان والبحرين وشرق السعودية وباكستان، بسبب شدة القمع والحركات المضادة. وهذا النهوض يشتمل على محاور جغرافية وموضوعية ومؤسساتية، كما يحدث في إيران والعراق ولبنان واليمن وسوريا، إضافة إلى أفغانستان والهند وسورية وكثير من الدول الخليجية والعربية، وكذلك في أوروبـا وأمريكا في البعد الجغرافي، والمؤسسية، ويقصد به المؤسسات الحوزة العلمية والمرجعية والأحزاب السياسية وحركات المقاومة، والموضوعية ويشمل مجالات الحكم والسياسة والدفاع والتشريع والمعيشة والاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا والتجديد الفكري والفقهي.

وبما أن عملية الإصلاح والتجديد والمأسسة والتطوير والتخطيط والتنمية الاستراتيجية هي عملية تخصصية، لأنها تستهدف موضوعات ومجالات ومؤسسات تخصصية؛ فإنّ هذا العملية ينبغي أن تتم على إيدي المتخصصين من داخل المؤسسات أنفسها. فلو أخذنا ـ مثلاً ـ منظومة المرجعية الدينية ومؤسستها العلمية الدينية؛ فإن من الطبيعي أن تكون عملية تجديد بناها وإعادة مأسستها والتخطيط لمستقبلها، من داخل المؤسسة وليس من خارجها، أي أنها ليست مهمة المثقف أو الأكاديمي الشيعي، الذي يعطي لبعضهم الحق في التنظير لثوابت المرجعية الدينية والتخطيط لإصلاحها. نعم؛ من الطبيعي أن تستمع الى أصحاب الاختصاصات في النظم والقانون الدستوري والقانون الدولي وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والإدارة والاقتصاد والمال، وتستشيرهم في عملية التجديد والتخطيط، لأنّ المؤسسة الدينية الشيعية ليست مؤسسة فتوي، إنّما هي زعامة النظام الاجتماعي الديني الشيعي الذي يرعى شؤون الشيعة في ما يقرب من (120) دولة من دول العالم. ولهؤلاء الشيعة مجتمعات كبيرة، ومؤسسات ومساجد وحقوق شرعية ومشاكل مع السلطات، وعلاقات داخلية وخارجية، إشكاليات سياسية وثقافية وقانونية، ويقع الإشراف على حلها على عاتق المرجعية الدينية الشيعة.

    ومن البديهي أن تكون عملية التطوير وإعادة المأسسة والتخطيط منسجمة مع متطلبات الزمان والمكان وحاجات العصر، وكذلك مع طبيعة صلاحيات المرجعية وطبيعة مسؤوليات النظام الاجتماعي الديني الشيعي؛ فلو كانت صلاحيات وواجبات المرجع الأعلى الذي يقف على رأس النظام الاجتماعي الديني الشيعي؛ تتلّخص في الفتوى فقط؛ فلن تكون هناك حاجة إلى عملية إصلاح معقّدة، أي أن التجديد سينحصر في إطار الفكر الفقهي والفكر الأصولي وعلوم القرآن والحديث، باعتبار أن القضية قضية اجتهاد وفتوى وحكم شرعي لا اكثر، ولكن المرجع الديني ليس مفتياً وحسب، ولا تنحصر مهمته بالإفتاء، وإنّما بزعامة المجتمع الشيعي برُمّته.

    وقد أشرت في كتاب «الاجتماع الديني الشيعي»(4) إلى موضوع إيجاد مؤسسة من المجتهدين، يمثلون أهل الخبرة، ويكونون بمثابة مؤسسة استشارية لاختيار مراجع التقليد، كما تختار المرجع الأعلى المتصدي من بين المراجع المطروحين، وتعرِّفهم لجمهور الشيعة، كما تتحمل مسؤولية الاستشارة في كل الشؤون التي لها علاقة بالنظام الاجتماعي الديني الشيعي. ويكون هناك مجلس آخر من كل الاختصاصات العلمية والشرائح الاجتماعية، كالخبراء في السياسة والعلاقات الدولية والإدارة الاقتصاد وعلم الاجتماع والقانون والأنتروبولوجيا، لتقديم المشورة الى المرجعية الدينية ومكتبها مؤسساتها بشأن الموضوعات والقضايا والمصالح المتعلقة بالنظام الاجتماعي الديني الشيعي، لأن قضايا بحجم رعاية (400) مليون إنسان، بحاجة إلى عقول تنظيمية وإدارية، تعمل بحذر ودقة بإشراف المرجع وتوجيهه، لكي لا تصطدم بأصل تشريعي أو تكييف فقهي أو مصلحة عامة، لأنّ التخطيط وإعادة البناء ليست عملية اعتباطية أو مزاجية، أو فكرة ناجزة أو مقترح جاهز. وهذا اللون المنهجي والعلمي من الاستعانة بالمستشارين والخبراء، سيريح المرجع الأعلى، وسيزيل عن كاهله وكاهل مكتبه وفريقه المقرّب حملاً ثقيلاً، وسيجعل عملية اتخاذ القرارات وتنفيذها سهلة من قبل المرجع، وأكثر مقاربة للمصلحة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإحالات

(1) حول النظام الاجتماعي الديني الشيعي وتعريفه وعناصره وهيكله، أنظر: د. علي المؤمن، «الاجتماع الديني الشيعي»، ط 1، ص 15-30.

(2) حول الدراسات المستقبلية ومناهج الاستشراف المستقبلي الحديثة، أنظر: علي المؤمن، «الفکر الإسلامي المسقبلي: مقاربات فی المنهجیة».

(3) الحضور السلبي أو الإيجابي للشيعة في بلدانهم، له علاقة بسلوك أنظمة هذه البلدان تجاه الشيعة، وقوانين الدولة وأعرافها السياسية وأداء مؤسستها الدينية؛ فإذا كانت الدولة طائفية والنظام إقصائياً، والقوانين والأعراف تمييزية، والمؤسسة الدينية متطرفة؛ فإن حضور الشيعة في البلد سيكون سلبياً بشكل تلقائي، سواء من ناحية تفكيرهم أو سلوكهم أو تطلعاتهم، وإذا كانت نظرة الدولة متساوية لكل مواطنيها والنظام عادلاً في سلوكه تجاه الشيعة، ويمنحهم الحقوق والحريات السياسية والمذهبية والاجتماعية نفسها التي يعطيها للسنة؛ فإن حضور الشيعة سيكون إيجابياً بشكل تلقائي أيضاً.

(4) «الاجتماع الديني الشيعي»، ط 1، ص 166-170.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *