نوفمبر 21, 2024
images (2)

اسم الكاتب : توفيق سليمان

الجوتيون وانهيار الامبراطورية الأكّادية:

ضعف الامبراطورية الأكّادية وأسباب انهيارها (2210-2251 ق . م .) :

ظل بناء الامبراطورية الأكّادية ، الذي ساهم في تشييده والحفاظ عليه تارة وترميمه تارة اخرى الملوك الأكّاديون الأشداء ، ظل قائما يتحدى الاعاصير ، ما دامت سلالة (سرجون) كريمة تجود على العرش برجل قوي الشخصية استطاع ان يقف امامها وان يحد من خطرها على هذا البناء . وقد كانت هذه الأعاصير تهب بين الحين الآخر لتعصف بصرح هذا البناء الذي كلف الأكّاديين ، ملوكا وشعبا بذل الجهود المتواصلة وتقديم الأرواح رخيصة في سبيل الحفاظ عليه . ولكن شعوب البؤر البشرية الأصلية والغريبة التابعة بالمقابل ، لم تكن اقل سخاء من الأكّاديين في التضحية بدماء ابنائها ، كلما قامت بثورة ضد الحاكم الأكّادي أو الوقوف في وجه جيشه ومنازلته في ساحات القتال . ولذلك كان الثمن ايضا تخريب معابدها ومدنها وتدميرها . وقد كمن في (كرم) هذه الشعوب الخطر ، الذي هدد بناء الامبراطورية بالانهيار ، ولذلك سرعان ما كانت مداميكه تتداعى بمجرد وفاة الملك الأكّادي بل وحتى احيانا عند بلوغه سن الشيخوخة . وكانت هذه الشعوب ، المتحضر منها والبدوي الرحل ، تهب معلنة العصيان على السلطة الأكّادية ثم الانفصال عن قلب الامبراطورية وثم في النهاية انقضاض بعضها على العاصمة أكّاد للثأر والانتقام . وكان في مقدمة هذه الشعوب والقبائل العيلاميون والجوتيون والسوبارتيون والعمورّيون . ولذلك ركز الملوك الأكّاديون جهودهم بعد ممات (سرجون) على اعادة اخضاعها لسلطانهم من جديد . ولكن السلالات الحاكمة ، شأنها شأن أي كائن حي ، تخضع هي أيضاً لقانون التطور ونظام الحياة والموت ، حيث تجد نفسها بعد حين عاجزة عن تزويد عرش دولتها بالشخص القوي المطلع على شؤون السياسة العامة في الدولة والقادر على اكتشاف مراكز القوي القائمة ومراقبة توازنها وتحليل علاقتها بعضها ببعض . وعند ذلك تدق ساعة الصفر ساعة الكارثة وتحين لحظة الانهيار السياسي للإمبراطورية والدولة معا.

لقد تعاقب ستة ملوك من سلالة (سرجون) على العرش بعد وفاة الملك (شاركا – ليشارّي) وشملت فترات حكمهم مددا زمنية مختلفة بلغت ستين عاما ,ولكن بدلا من ان يلتفت هؤلاء الى حرب الأعداء المتربصين شرا بالإمبراطورية القابعين على حدودها وضمن مناطقها ، فإنهم فرطوا بجهودهم في الصراع فيما بينهم ضمن البلاط  من اجل الاستئثار بالسلطة . وفي نفس الوقت كان الأعداء ينتظرون حلول الظرف المناسب للانتقام من سلالة (سرجون) والانقضاض على قلب الدولة الأكّادية .

الهجوم (الجوتي) وانهيار الإمبراطورية الأكّادية :

شكلت قبائل البؤر (الجوتية) – على الأرجح – جزءاً  من (اللولبيين) الذين كانوا يقطنون بعض مناطق جبال (زاغروس) في الجزء الشمالي الشرقي من بلاد ما بين النهرين . وكانت هذه القبائل من اشرس اعداء الأكّاديين واكثرهم استعدادا لتدمير إمبراطوريتهم . ولذلك فقد كانت السباقة لاغتنام فرصة ضعف قلب الإمبراطورية ، الذي اصبح عاجزا عن تزويد اوصالها بالدم الحار وحقنها بالحيوية والنشاط . وما كان منها الا ان اخترقت حدود الإمبراطورية واجتاحت كالسيل العارم المدمر المناطق الأكّادية الشمالية الشرقية في طريقها الى العاصمة (أكّاد) .

لقد كان الهجوم (الجوتي) على أواسط وجنوب بلاد ما بين النهرين من أسوأ ما عرفته هذه البلاد من كوارث خلال تاريخها الطويل . اذ نهب هؤلاء المتوحشون معابدها وقصور ملوكها ومنازل سكانها واسروا عددا كبيرا من الناس وعملت سيوفهم فتكا في رقاب الآخرين المقاومين ثم ختموا فصول اعمالهم بتدمير العاصمة (اكّاد) واضرموا النار في انقاضها . وقد خلف احد الأمراء السومريين ، الذي قاد حملة تحرير البلاد من التسلط الجوتي الذي دام قرنا من الزمن ، وصفا دقيقا مختصرا للهجوم الجوتي : بقوله : لقد كانوا (ثعابين الجبال ، اختطفوا الزوجة من بعلها والأطفال من آبائهم ونقلوا الملكية من سومر الى الجبال ) و (بكت البنات المدن بسبب الجوتيين) (1) .

ولم يكتف (الجوتيون) بسفك دماء السكان الآمنين بل دمروا ايضا الحقول والمزارع القائمة واتلفوا المحاصيل الزراعية . وجفت بسببهم اقنية الري ويبس كل اخضر وصلته ايديهم . وقد ورد ذلك صراحة في ابتهال سومري للاله (نينورتا) يشكو فيه المؤلف من اضطهاد المتوحشين لأهل البلاد ومن همجيتهم المدمرة لكل عمران :

(البلاد في أيدي اعداء قساة ،

سيقت الآلهة الى الأسر ،

واثقل كاهل السكان بالضرائب ،

وجفت الأقنية وشبكات الري

وأصبح نهر دجلة غير صالح لعبور السفن

ولم يعد بالإمكان ري الحقول

ولم تعط الحقول محاصيلها ) (2) .

ويحدثنا احدهم في كتابة يرقى تاريخها الى عصر الملك الكلداني (نيبو – نيد) (3) ، ان الجوتيين خربوا معبد الربة (انونيت) في مدينة (سيبّار) ، ونقلوا تمثالها الى (ارّبشا في مناطق اعالي نهر الزاب ) الجبلية .

وثمة ايضا نسخة من نص ديني آخر يعود تاريخه الى زمن متأخر جدا وهو العصر السلوقي (4) ، توصف فيها الآلام التي قاستها مدينتا (اوروك) و (أكّاد) ومستوطنات عديدة أخرى في البلاد عند وقوع الهجمة الجوتية .

_________________________

1) Randau, Babylonian Expedition, XXIX, I, P. 63 ff.

2) Moortgat, A., Geschichte Vorderaslens.

تعريب سليمان وأبو عساف : تاريخ الشرق الأدنى القديم ص 103 .

3) Langdon – Zehnpfund, Neubabylonisihe könlgslnschrlften, S. 176.

4) Landdan, Sumerian and Babylonian psalms, No. 25.

-) ZA, XXIII, 220.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *