اسم الكاتب : رياض سعد
بعد ان سلم صدام العراق وهو عبارة عن خرائب , وبعد ان عانى العراقيون في عهده الاسود , من شتى انواع المشاكل والازمات والمضايقات , بدأت صفحة جديدة في حياة الاغلبية والامة العراقية , عام 2003 فقد سقط النظام البعثي التكريتي الهجين , الا ان فلول البعثية وزمر الاعداء الخارجيين وشراذم القتلة والمجرمين بالإضافة الى قوات الاحتلال الاجنبية لاسيما الامريكية , عاثت في البلاد فسادا وخرابا وتدميرا ؛ حيث احرقوا الوزارات والدوائر والمخازن , واتلفوا السجلات والوثائق , ونهبوا الاموال العامة , ودمروا الشركات والمعامل والمصانع , وعطلوا ما تبقى منها … الخ ؛ بحجة ان العراقيين مقبلون على حياة جديدة وعهد جديد مليء بالخيرات والرفاهية والحقوق والامتيازات , وان المواطنين سوف ينعموا بمقدرات بلادهم كالمواطنين الخليجيين , وبالتالي هم لا يحتاجون الى العمل في المصانع او الكدح في المزارع ؛ لان كل شيء سوف يأتيهم على طبق من ذهب وهم جالسون في بيوتهم , وان الامريكان سوف يوزعون على العوائل العراقية اكثر من 92 مادة غذائية وغيرها ضمن الحصة التموينية ( ومن هل الكلاوات ) … ؛ وانتظر العراقيون استلام حصتهم الوطنية من النفط كرواتب شهرية ؛ الا انهم رجعوا بخفي حنين , ولم يحصلوا على شيء , وانطبق عليهم المثل الشعبي : (( لاحظت برجيلها ولا خذت سيد علي )) فقد ضيّعوا المِشْيتين … ؛ اذ لم يعملوا في المصانع والمعامل العراقية القديمة , ولم يستفيدوا من المرحلة الجديدة شيئا … ؛ ولعلاج هذه الازمة الاقتصادية المستعصية ؛ وبعد حل كافة دوائر و وزارات الدولة فضلا عن الجيش والشرطة وغيرهما من الاجهزة الامنية القمعية , فتح الامريكان ابواب التعيين في بعض الدوائر والوزارات , والتطوع على الجيش والشرطة , وقدموا المنح والمساعدات للكثير من منظمات المجتمع المدني الوهمية او المرتبطة بالأجندات الخارجية , وفي هذه الاثناء توسعت عمليات الاجرام والارهاب , وطالت كل مرافق الدولة وموظفي الحكومة والمواطنين جميعا وبلا استثناء , وسقط جراء هذه الهجمات الاجرامية والعمليات الارهابية والتفجيرات والغزوات والمفخخات والانتحاريين … الخ ؛ الاف الضحايا بل مئات الالاف ومن ضمن هؤلاء عناصر الجيش والشرطة وموظفي الحكومة ؛ مما زاد الطين بلة , وفاقم من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية , فقد خلف هؤلاء وراءهم جيوش جرارة من الايتام والارامل والمرضى , فضلا عن المعاقين والمرضى جراء تلك العمليات العسكرية ؛ فضلا عن ضحايا القوات الاجنبية والامريكية في العراق .
وبارتفاع معدلات الفقر واختفاء الانشطة الصناعية والزراعية والسياحية والتنموية والحيوية من حياة الاغلبية والامة العراقية , شيئا فشيء , عادت الحكومات العراقية لمعالجة تلك المشاكل الاقتصادية العويصة من خلال فتح ابواب التعيين واهمال كافة انشطة القطاع الخاص بالإضافة الى عدم تنشيط واحياء الصناعات الوطنية الحيوية الحكومية الكبرى , مما ادى الى ترهل الدولة وتضخم دوائر الحكومة من ناحية الكم وليس الكيف , وبالتالي استشرت ظاهرة الفساد الوظيفي والاداري والمالي في دوائر الحكومة , وعانى المواطنون من الموظفين وعزفت نفوسهم عن مراجعة الدوائر ؛ بسبب الروتين الممل والفساد وسوء المعاملة .
ومن الواضح ان الدولة مهما كانت كبيرة , والحكومة مهما كانت قوية ومقتدرة , لا تستطيع تعيين كافة المواطنين او تشغيل كل العراقيين في دوائر و وزارات الدولة ؛ وعليه التعيين في دوائر الدولة لا يحل المشكلة ولا يعالج الازمة الاقتصادية بصورة جذرية وعلمية و واقعية … الخ ؛ كل هذه العوامل وغيرها دفعت العراقي المتعب والشاب ( المكرود ) إلى البحث عن أي مورد رزق ، فكانت وسيلة النقل العملية هذه والقليلة الكلفة من الحلول التي أمنت لقمة عيش لكثيرين ما أسهم في انتشارها الواسع في مختلف المناطق العراقية , وقد تكفي 5دولارات لملء خزان وقود هذه العربة الصغيرة المصنوعة في الهند ، لذلك بدت حلاً أمثل لتأمين قوت عائلات كثيرين من العراقيين ، ووفرت فرص عمل لمن طالهم شبح البطالة … ؛ لاسيما وان بعض العراقيين بل واغلب الشباب لا يحبذون العمل في المصالح والشركات والاسواق الاهلية بسبب سوء معاملة اصحاب العمل للعمال والاساءة اليهم بصورة اشبه بالإهانة وامتهان الكرامة ؛ يجري ذلك في ظل غياب كامل وشامل للقوانين التي تحمي العامل والمواطن من جشع وطمع صاحب العمل والثروة فضلا عن سوء اخلاق القائمين على تلك المشاريع التجارية او الصناعية او الحيوانية او الزراعية او السياحية الاهلية ؛ مما يضطر الشاب العراقي الكريم للعمل الشخصي لأنه يصون كرامته ويحفظ ماء وجهه … ؛ نعم قد يصبر العراقي على رصاص الصراعات وقذائف الحروب الا انه لا يجرع كأس الذل والعوز والفقر ولا يقبل بمنطق الفساد او سلطة الرأسمالية الجشعة والمنفلتة قط .
الكثير من الشباب وجدوا في “التكتك” مصدرا للرزق بل هوية اجتماعية احيانا وسط هذا الضياع وتلك الفوضى ؛ فضلا عن ان سهولة قيادتها تجذب الشباب العاطل اليها … ؛ فبعد أن أُقفلت الأبواب في وجوه الشباب الذين كانوا يعملون في البناء ( عمالة ) او في الافران او المطاعم او الشركات او الاسواق او الحقول النفطية او المعامل الاهلية … الخ ؛ بسبب المنافسة مع العمالة الاجنبية والغريبة ؛ لان اجور العمال الاجانب والغرباء منخفضة كما انهم يتقبلون الاهانة من صاحب العمل بكل رحابة صدر , ولا يطالبون بالحقوق … الخ ؛ وجد الشباب انفسهم من دون عمل , والعجيب ان وزارة العمل تغري الشباب العراقي بالبطالة من خلال تقديم المنح القليلة والمعونات البسيطة ( تعطيهم تفاليس وبشرط الزواج …!!) وكان الاولى بها طرد العمالة الاجنبية او تقليل اعدادها المهولة … ؛ منذ تأسيس الدولة العراقية والى هذه اللحظة والعراقي يفكر الليل والنهار ويبحث عن فرصة عمل كريمة , توفر له ولعائلته الحياة المستقرة والسعيدة , ولا يجد ما يلبي طموحه المشروع ؛ مما يضطره لإيجاد اية وسيلة تؤمن له لقمة العيش ؛ والكثير من الناس لا يستطيع تحمل اعباء تكاليف القوت اليومي والايجار والكهرباء والماء ومراجعة الاطباء واجور النقل والمدرسة والانترنت … الخ ؛ مما يدفع البعض منهم للانخراط في عصابات الجريمة المنظمة او الدعارة او المنظمات الارهابية او الاحزاب والحركات السياسية العميلة والمرتبطة بالأعداء الاجانب .
ولعل السبب في انتشار عجلة التكتك لا يقتصر على سائق التكتك وظروفه فحسب ؛ اذ ان الناس عانت من ارتفاع اجور ( التكسيات) ولغياب وسائل النقل العامة المريحة كالمترو او الباصات الحديثة ؛ اقبل المواطن على ركوب عجلة التكتك , وذلك لسهولة التنقل بها وانخفاض اجورها مقارنة بوسائل النقل الاخرى وتتميز بأنها عملية وتتطلب وقتاً أقل للوصول إلى الوجهة ويستطيع سائقها الخروج من الازدحامات ؛ علماً أن التكتك تتسع لثلاثة أشخاص ويمكن التنقل بها صيفاً وشتاء بعد إقفالها بالستائر البلاستيكية العازلة الخاصة بها، والأهم أن صغر حجمها يسمح بالتنقل فيها بسهولة في الأحياء الضيقة في المدن والاحياء والعشوائيات والمناطق الزراعية ؛ وقد استخدمها الناس حتى في خطوط توصيل الموظفين والطلبة والعمال اليومية ؛ فقد ارتبط سائق التكتك مع هذه الشرائح والفئات الاجتماعية ارتباطا وثيقا اشبه بالعقد المبرم بين طرفين ؛ ففي رأس كل شهر يأخذ سائق التكتك اجرته مقابل توصيل هؤلاء الى دوائرهم ومدارسهم واماكن عملهم خلال شهر كامل … ؛ حتى ان البعض استخدم التكتك في خدمات التوصيل ( دلفري) فضلا عن كثرة الطلب عليها في ايام الزيارات والمناسبات الدينية … ؛ وطالما استغلها البعض في الحملات الانتخابية والتظاهرات السياسية ايضا ؛ والبعض يركبها ويستأجرها للتسلية لاسيما الشباب … ؛ فهي عجلة متعددة الاستعمالات وساهمت عدة دوافع اقتصادية في انتشارها وازدياد الطلب عليها .
كان ولا زال المواطن العراقي المظلوم يسعى جاهدا للتأقلم مع التغيرات التي تطرأ على نمط حياته والتحديات الاقتصادية والمعيشية التي تنغص عليه يومه وتحطم كل احلامه وامنياته … ؛ ففي ضوء المقدمات السابقة و في ظل الأزمات الاقتصادية الحالية والتي تظهر تداعياتها أكثر فأكثر مع مرور الوقت، قد يضطر المواطن الى التخلي عن أمور كثيرة شكلت أساسيات له في مراحل سابقة , والتي تعتبر من حقوق المواطن في باقي الدول المتطورة ، ما لم يتم تدارك الاوضاع الاقتصادية والسياسية و وضع الحلول الناجعة للنهوض بهذا البلد وعلى مختلف الاصعدة الاجتماعية والثقافية والتنموية والصحية والتعليمية والتربوية … والقضاء على بؤر الفساد والعمالة والخيانة والفشل والجهل والتخلف … الخ .