اسم الكاتب : علي عبد الهادي المعموري
قبل أعوام، كنت أتمشى في النجف أيام زيارة أربعينية الحسين، كان هناك سرادق منصوب على الطريق بين النجف وكربلاء، الطريق الممتلئ على طوله بالمواكب والسرادقات. من هذا السرادق صدر أنين شجي ينبعث دون مكبر للصوت، بدا كأنه ناي مذبوح، لا تكاد تفهم ما يقول لشدة ما يمد صاحبه الكلمات مدًا وهو يئن، يسترجع بصوته آلام كربلاء، يستذكر قتلاها واحدًا واحدًا، ومن حوله تحلّق سُمرٌ جنوبيون، يجيبون أنينه بدقّة، يتناغمون معه نشيجًا وأنينًا، وبدا أن الفريقين، الرادود1 والمستمعين، كل واحد منهم يعرف دوره، ويعرف متى يجيب صاحبه بأنّة طويلة أو قصيرة. كان في الخيمة موكب من مدينة سوق الشيوخ جنوب العراق، التي تشتهر بأنينها، يردده أهلها في رثاء الحسين، مقلصين في الغناء المسافة بين الديني والشعبي إلى الصفر.
تظهر أكثر نماذج التماثل بين المقامات المغناة وتلك المستخدمة في رثاء الحسين في أرياف العراق، بعكس مدنه، وهو أمر مرتبط بما ذكرناه عن المساحة بين الديني والشعبي غير الديني، وهي مساحة أشدّ ما تكون تقلصًا في الأرياف، على عكس الحواضر الكبرى، التي يتركز فيها وجود رجال الدين، مثل النجف وكربلاء، أو الموصل حتى، وهو أمر قد يبدو غريبًا، إذ أن التزمت الديني كان على أشدّه في المدن، باستثناء بغداد، بينما كان البعد عن تفاصيل الفقه والضعف في المعرفة الدينية والتزمت الديني في أضعف حالاته في الأرياف، رغم أن الوضع الحاضر لم يعد كالسابق كنتيجة للتبدلات الاجتماعية والتقنية عمومًا، ولما يشهده العراق من انبثاق هوياتي إثني خصوصًا.
يتقلص الحرج من استخدام الأطوار الغنائية في رثاء الحسين على أشده في أسفل سلم الطبقات الاجتماعية، وفي الأرياف العراقية، بعيداً عن رجال الدين وموقفهم من الموسيقى، ومثال لها مقاطع فيديوية منتشرة لصاحب مطعم يمارس الرثاء الحسيني في جنوب العراق، يستخدم أطوارًا2 طالما استعملها المغنون الريفيون وتجنبها خطباء المنبر الحسيني، مثل طور الحويزاوي، رغم أن قراء القرآن العراقيين جوّدوا القرآن عليه، لكنه ظل بعيدًا عن الخطباء الحسينين على عكس الرواديد في الريف.
التمايز بين رثاء المدينة والريف واضح ليس في طريقة الأداء والأطوار وحسب، بل حتى في ترتيب القراءة، في الريف، وبذات الطريقة التي يبدأ فيها المغني عادة الغناء بـ أبوذية أو بموال زهيري3 ثم يصل إلى الأغنية. بذات الطريقة فإن الرادود الريفي يبدأ بموال أو أبوذية رثائية، ثم ينخرط في أداء قصيدته الرثائية، بينما لا يفعل رواديد المدن هذا، ويختمون قصائدهم الكعدية بنوع من الترديد هو أقرب للموال أو الأبوذية4.
بينما سنجد وبطريقة غريبة تماثلًا بين الألحان المستحدثة من المقامات القديمة وبين القصائد الحسينية الرثائية القديمة، دون أن نستطيع الجزم بمن أثّر في الآخر، رغم أن هناك العديد من المغنيات والمغنين في العراق ممن انتقلوا إلى الغناء بعد أن بدؤوا مسيرتهم أولًا بالقراءة في المجالس الحسينية بما انعكس على أدائهم الموسيقي5، لكن لا يبدو ذلك السبب رئيسًا مع من لم يكن يلحّن أغانيه بنفسه من المغنين العراقيين، إذ بدا وكأن بعض الملحنين يتقصدون تتبع أطوار الرثاء الحسيني ليعيدوا إنتاجه.
وقد قال الملحن العراقي الراحل عباس جميل إنه كان يستوحي من الملالي6 الكثير من ألحانه، وكأنه كان يتقصى جذور الشجن العراقي ليعيد إنتاجها مُغناة، وهناك أغنية معروفة لحنها عباس جميل للمغنية الراحلة زهور حسين، غناها عباس جميل أيضًا، تقول كلماتها:
“جيت يا أهل الهوى….اشتكي من الهوى
آنه عدكم دخيل…من عذاب الخليل
آه ﭽم آه
آه ﭽم آه
آهات لاهل الهوى”
وهي في تطابق لحني تام مع قصيدة رثائية لأحد أشهر الشعراء الحسينيين، وهو الحاج عبد الرسول محي الدين، صاحب القصيدة الأكثر دويًا في تاريخ المنبر الحسيني (يحسين بضمايرنا) تقول قصيدة محي الدين:
“من على التل تصيح … زينب إعله الذبيح
ان ﭽـانك حي دكوم … بده علينه الهجوم
وا إماماه … واحسيناه
من على التل تصيح”7
كنت في حوالي العاشرة من عمري في منتصف التسعينات حينما سمعته يقرؤها بنفسه في منزل آل القرشي في النجف، وظننت لوقت طويل أنها من قصائده الحديثة، كان ذلك قبل أن أبدأ بسماع الغناء بوقت طويل، وقبل أن أتعرف على عباس جميل الذي كنت أراه خطفًا في التلفزيون، وأقرأ عنه في المجلات العراقية دون أن أستمع له، فالغناء كان ممنوعًا في بيتنا المتشدد دينيًا. حين سمعت الأغنية ذُهلت، واستُفزّت مشاعري الدينية. ظننت أن عبد الرسول محي الدين قد أخذ اللحن من عباس جميل، واكتشفت لاحقًا وجود تسجيل قديم لقصيدة محي الدين، يوازي تاريخه تاريخ تلحين جيت يا أهل الهوى مما أدخلني في حيرة، ولم أعد متأكدًا من أخذ اللحن ــ أو الطور ــ ممن.
أما أكثر نماذج التطابق في استخدام (الأطوار) العراقية تناقضًا بين مؤدٍ ديني ملتزم بالحلال والحرام وينتمي إلى طبقة رجال الدين، وبين مغنٍ نبذه والده بسبب غنائه، فسنجده عند اثنين من العراقيين، كربلائي، وشطري من ريف الشطرة جنوب العراق. الأول هو الشيخ الشهيد عبد الزهراء الكعبي، أشهر من قرأ مقتل الحسين بصوته الرخيم الاستثنائي، الكعبي الذي عرف بشدة ورعه وتدينه وانتمائه إلى الحوزة الدينية، أما الثاني فهو أشهر مغنٍ ريفي عراقي، الراحل داخل حسن. سنجد أن كليهما قد استخدما طور النايل في صنعتهما، بحرفية فجائعية حملها صوتاهما الشجيان. يقول عبد الزهراء الكعبي في رثاء الحسين، على لسان زينب الكبرى، شقيقة الحسين. يتخيلها تودّع جثمان أخيها بعد مقتله وتُجهّز القوم لإرسالها إلى الشام. يصرخ الكعبي من قلبه، يخرج الصوت مذبوحًا، مختلطًا بنشيجه، بحسرته، وتكاد تلمس بقلبك كمّ الأسى والحسرة المختلطين بصوته، يهتف كأنه صوت هابط من السماء:
“ودعتك الله يا عيوني
أنا يردون عنك ياخذوني”
زجري وخولّى اليباروني8
في ذات الطور الحزين، المفجوع، في ذات النايل الذي يحاكي الناي في أنينه، يغني داخل حسن، يتهدج صوته كأنه أم ثكلى، تسمع بكاءه يتسرب من بين كلماته قائلًا:
“عسى لا ﭽـان شفناهم الولعونه ومشوا
عسى لا ﭽـان شفناهم تسعر ولا تنطفي أحاه يا نار فركاهم”
(يعمد المغنون الريفيون في العراق أحيانًا إلى بعثرة البيت الشعري، الوزن الذي يسمى بـ الدارمي خصوصًا، وتقديمه وتأخيره، أصل هذا البيت هو كالتالي:
“الولعونه ومشوا … عسى لا جان شفناهم
تسعر ولا تنطفي … يا نار فركاهم”
وحقيقة فإن هذا ليس بوزن الدارمي، ولا أعرف من أين أتى به داخل حسن)
كما أن هناك أغنية لسعدي الحلي، معروفة بـ يخمري يقول فيها:
“اللوم غير حالتي … اللوم عذب مهجتي”
هو تطابق عجيب مع قصيدة قديمة في رثاء الإمام الحسن بن علي، لواحد من أشهر الرواديد وأفخمهم صوتًا على مر تاريخ رواديد المنبر الحسيني، هو عبد الرضا الرادود، قرأها في الستينات، وسمعتها في التسعينات يقرؤها سرًا رادود من جيراننا في طرف البراق في النجف القديمة، تقول القصيدة:
“يحسين إلك آلام … هذي المسية
لارض البقيع تروح
تحمل نعش مجروح
هذي المسية.9“
أما رادود كربلاء الأشهر، حمزة الزغير، فله العديد من القصائد التي كررها الملحنون بتطابق تام، منها تلك القصيدة الممتلئة بالحزن، تنساب عبر صوته نشيجًا رخيمًا يتدفق على لسان زوجة الإمام الحسين وهي ترثي ابنها الرضيع الذي ذبح، تقول القصيدة:
“دهري
ذبني
عبد الله يا شمعة ضوه عيوني.”
التي قدّم الملحن الراحل محمد جواد أموري أغنية مطابقة لها تمامًا، غنتها أنوار عبد الوهاب تقول:
“عد وآنه اعد ونشوف ياهو اكثر هموم
من عمري سبع سنين وﮔليبي مهموم”
https://www.youtube.com/watch?v=hxizN5-Tl5I
غيرها من الأمثلة الكثير، ما يجعلنا نقف طويلًا، نتأمل هذه العلاقة بين المقدس والشعبي في العراق، بين المخيال الجمعي والتاريخ الديني. كما لابد من الالتفات إلى أمرٍ كنتُ كتبت مقالًا بشأنه، حول أثر كربلاء في الشخصية العراقية، ذكرت في آخره أن المذابح المتكررة والتاريخ العنيف الذي شهده العراق قد ولدا علاقة عميقة بين العراقيين ووقعة الطف، بغض النظر عن الجانب الديني من هذه العلاقة، تاريخ من التماهي بين الفقد الفجائعي، جعل من كربلاء الحسين المصيبة والعزاء في ذات الوقت، جعلها مصيبة أزلية تتجدد على مرّ الدهور، مفجعة لدرجة تهون أمامها الفجائع الشخصية، والمصائب الشخصية، حتى أنك في مجالس العزاء التي يقيمها أهل الميت على روحه وتسمى الفاتحة، والتي تكون من قسمين، للرجال رزينة يقرأ فيها القرآن وتوزع القهوة، وانفعالية للنساء، يجلبن مُلَّةْ تقرأ لطميات في رثاء قتلى كربلاء، وفي الوسط تدور النساء الفاجعات ناثرات شعورهن، يلطمن على الحسين، وهن يتجرعن مرارة فقد الأحبة، يتعزين عنهم بذكر قتلى كربلاء، الذين يهون دون قتلهم كل موت. فكيف بالغناء؟ كيف لا يكون متأثرًا بالمصيبة الأكبر في التاريخ العراقي، محاكيًا لها وموازيًا لحزنها؟
شجن العراق سابق للموسيقى والشعر والترديد الصوتي، إنه الحزن المخيم على المجتمع، بطريقة جعلت كل ما يتعلق بترجيع الشعر في العراق حزينًا، سواء كان موسيقى أو رثاء حسينيًا، حزن ستجده في كل ما يحيط بالعراقيين. مزاج عراقي متوتر على الدوام، مضطرب مع اضطراب المناخ. مزاج الفلاح المتحفز، الخائف من فيضان الفرات ودجلة في الربيع أوان الحصاد.