الكاتب : فاضل حسن شريف
عن تفسير الميسر: قوله سبحانه “فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلَاءِ شَهِيدًا” ﴿النساء 41﴾ فكيف يكون حال الناس يوم القيامة، إذا جاء الله من كل أمة برسولها ليشهد عليها بما عملت، وجاء بك -أيها الرسول- لتكون شهيدًا على أمتك أنك بلغتهم رسالة ربِّك.
تكملة للحلقة السابقة عن دار المستقبل العربي مفهوم الأمة فى القرآن الكريم للدكتور عصمت سيف الدولة: 2 ـ ولما كان التمايز يفترض التعدد لتكون الجماعة متميزة عن غيرها علمنا القرآن أن الامم متعددة فى الزمان والمكان. أثبت التعدد أولا وأرجعه الى مشيئة الله حتى يكف الجدل فى حكمته وأكده فى أكثر من آية، قال:”وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ” ( النحل 93). وقال:”وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ” ( الشورى 8). وتحدث عن الأمم بصيغة الجمع في ثلاث عشرة آية أخرى. أما عن التعدد فى الزمان ففى البدء كان الناس أمة واحدة متميزين “أمة” بأنهم من الناس. قال تعالى:” كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۖ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ” ( البقرة 213). وقال:” وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ” ( يونس 19). فالتعدد بدأ نفاذا لكلمة سبقت من الله بأن تكون الأمم متعددة وسيبقى قائما. قال تعالى:”وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ” ( هود 118). فإذا جاءت الآخرة فإنهم أمم متعددة. قال تعالى: “فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ” ( النساء 41). وقال:” وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا”( النمل 83). وقال:” وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ”( القصص 75). وقال: “وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً ۚ كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ “. ( الجاثية 27و28). ومابين البداية والنهاية تتابع الامم المتعددة على آجال الزمان. لكل أمة أجل معلوم. قال تعالى:”تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ ” (البقرة 134و141). وقال: “وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً” (الأعراف 34). وقال:”لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۚ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً” (يونس 49). وقال: “كَذَٰلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ “( الرعد 30). وقال:” مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ” (الحجر:5). وقال:” مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ” ( المؤمنون 43). وقال: “وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ “( الأنعام 42). وتكرر قوله هذا أو معناه فى ( النحل 63 والعنكبوت 18 وفصلت 25 والأحقاف 18). وتمايزت الأمم بالرسل فتعددت بتعدد الرسل: “وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ” (النحل 36). وتعددت بتعدد الرسالات: “كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا “( الجاثية 28). وتعددت بتعدد المناسك:” لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ “.( الحج 67). ثم ان القرآن قد علمنا أنه كما تتعدد الأمم على مدى الزمان فإنها متعددة فى الزمان الواحد، أو كما نقول فى المكان: “قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ” ( هود 48). فهذه أمم متعددة تواجدت معا فى مكان واحد. وثمة أمم متعددة توزعت في الارض، قال تعالى: “وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ” ( الأعراف 168).
جاء في التفسير المبين للشيخ محمد جواد مغنية: قوله سبحانه “فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلَاءِ شَهِيدًا” ﴿النساء 41﴾ يجمع اللَّه الناس غدا للحساب والعقاب، وقبل كل شيء يشهد على كل قوم نبيهم بأنه قد بلغهم رسالة ربه، وعلمهم الحلال والحرام مباشرة، أو بواسطة أصحابه، أو التابعين لهم، أو العلماء والفقهاء، فالمراد بالشهيد الأول كل نبي سابق على محمد، وبالشهيد الثاني محمد صلى الله عليه وآله. وهؤلاء إشارة إلى أمة محمد صلى الله عليه وآله وأبعد من قال: ان هؤلاء إشارة إلى جميع الأنبياء السابقين، وان محمدا يشهد عليهم، وهم يشهدون على أممهم. لقد أبعد هذا القائل، لأن الشهادة إنما تجوز وتسمع على من يجوز في حقه الإهمال لواجبه، وهذا محال في حق الأنبياء، فالشهادة عليهم كذلك. وعند تفسير الآية 143 من سورة البقرة ذكرنا ان محمدا صلى الله عليه وآله يشهد على علماء أمته بأنه بلغهم الإسلام وأحكامه، وعلماء الأمة يشهدون عليها بأنهم قد بلغوها رسالة الإسلام على وجهها. وقال الشيخ محمد عبده في تفسير هذه الآية ما يتلخص بأن اللَّه سبحانه سيقابل غدا ويقارن بين عقيدة كل أمة وأعمالها وأخلاقها، وبين عقيدة نبيها، فان كانت هي هي كانت الأمة من الأمم الناجية، وإلا فهي من الهالكين. وهذا التفسير من وحي ثورة الشيخ على البدع والتقاليد البغيضة. وهو غير بعيد عن الواقع، فإن عملية هذه المقارنة إذا لم تقع بالذات في حضرة الخالق جل وعلا فان نتيجتها كائنة لا محالة.
وعن الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله سبحانه “فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلَاءِ شَهِيدًا” ﴿النساء 41﴾ بعض المفسرين احتمل أن تكون لفظة (هؤلاء) إشارة إلى شهود الأمم السابقة، يعني أنّنا نجعلك أيّها النّبي شهيدا على شهداء الأمم من الأنبياء، وقد أشير في بعض الروايات إلى هذا التّفسير وعلى هذا يكون معنى الآية هكذا: إنّ كل نبيّ شاهد على أعمال أمّته جميعها في حياته وبعد مماته عن طريق المشاهدة الباطنية والروحانية، وهكذا الحال بالنسبة إلى رسول الإسلام، فإنّ روحه الطاهرة ناظرة ـ عن هذا الطريق أيضا ـ على أعمال أمّته وجميع الأمم السابقة، وبهذا الطريق يمكنه أن تشهد على أفعالهم وأعمالهم، بل وحتى الصلحاء من الأمّة والأبرار الأتقياء منها يمكنهم الاطلاع والحصول على مثل هذه المعرفة، فيكون المفهوم من كل ذلك وجود روح النّبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من بدء الخلق، لأنّ معنى الشّهود هو العلم المقترن بالحضور، ولكن هذا التّفسير لا ينسجم مع ما نقل عن السيد المسيح، لأنّ الآية المذكورة تقول: إنّ المسيح لم يكن شاهدا على أمّته جمعاء، بل كان شاهدا عليها ما دام في الحياة (فتأمل). أمّا إذا أخذنا الشهادة بمعنى الشهادة العملية، يعنى أن تكون أعمال (فرد نموذجي) مقياسا ومعيارا لأعمال الآخرين كان التّفسير حينئذ خاليا عن أي إشكال، لأنّ كل نبيّ بما له من صفات متميزة وخصال ممتازة يعدّ خير معيار لأمّته، إذ يمكن معرفة الصالحين والطالحين بمشابهتهم أو عدم مشابهتهم له، وحيث إن النّبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هو أعظم الأنبياء والرسل الإلهيين كانت صفاته وأعماله معيارا لشخصية كل الأنبياء والرسل. نعم لا يبقى هنا إلّا سؤال واحد هو: هل جاءت الشهادة بهذا المعنى، أم لا؟ بيد أنّه مع الانتباه إلى أنّ أعمال الرجال النموذجيين وتصرفاتهم وأفكارهم تشهد عمليا على أنّه من الممكن أن يرقى إنسان ما إلى هذه الدرجة، ويطوي هذه المقامات والمراحل المعنوية لم يبد مثل هذا المعنى بعيدا في النظر. عندئذ يندم الكفار الذين عارضوا الرّسول وعصوه، أي عند ما رأوا بأمّ أعينهم تلك المحكمة الإلهية العادلة، وواجهوا الشهود الذين لا يمكن إنكار شهاداتهم، إنهم يندمون ندما بالغا لدرجة أنّهم يتمنون لو أنّهم كانوا ترابا أو سووا بالأرض.
تكملة للحلقة السابقة عن شبكة الألوكة الشرعية مفهوم ومقومات الأمة في النص القرآني للكاتب الدكتور أسعد بن أحمد السعود: تكون الأمة بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم: ولما ضرَب الله الأمثال بالأمم السابقة ونقصد تلك التي أُرسِل فيها نبيٌّ وقد أخبَر بها القرآن العظيم، وما آل إليه مصيرُها – كان المسلمون في مكة قليلين، ولم تكن لهم أية صِبغة تَصْبُغُهم، ليتكوَّن منهم أيُّ حال بعيدًا عن مجتمع قريش الكافر، وبالرغم من أنهم من قوم واحد، ويتكلمون لغة واحدة، وتَجمَعُهم أواصرُ الدم والأخلاق والتاريخ – فإن وعدَ الله لنبيه لم تكتمل قواعده بعدُ، وفي الوقت نفسه أخذت الهُوة تتسع وتَكبُر بينهم وبين أبناء قومهم الآخرين الذين تنكَّروا لدعوة الإسلام، فنابَذوهم وأبْعَدوهم عن حياتهم وبيوتهم ومَعيشتهم. وبعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، نزلتْ وتتابَعت آيات الله التي فيها تنظيم مفاصل الأمة وترابُطها صغيرةً وكبيرةً، وفيها ضرَب الله أمور الحياة من كل مثلٍ، وأهم تلك الأمور الربط الشرعي وتحقيقه بين أفراد الأمة (المؤمنون)، وبين شخص النبي بصفته فردًا بشريًّا، وبين كونه نبيًّا مرسلًا، فأُخِذ عنه كلُّ قولٍ وكلُّ عملٍ، وفي كلِّ زمانٍ عاشَه، وفي كلِّ مكانٍ نزَل فيه، فكان هذا الربط هو أحد الأركان التي تقوم بها صيرورة الأمة واستمرارها، باقتران الربط بالطاعة، وبامتثال طاعة الرسول من طاعة الله جل جلاله تنظيمًا وتشريعًا، سواء بقيادة النبي ذاته أم بغيابه، قال تعالى: “وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ” (آل عمران 144). وفي مَعرِض تأكيد المؤمنين الثبات على سُنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وطاعته في قيامة الأمة – قال تعال: “وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ” (آل عمران 147). وجُلُّ معنى ما يقوله المؤمنون في هذه الآية يتركز على تأكيد بناء ورسوخ الإيمان في نفوسهم أولًا، وإصلاح ذات البَين ثانيًا، ومِن ثَم تَقْوية أركان الأمة لتحقيق النصر على الكافرين – مُحصِّلةً بدهيَّةً – وهنا يتبيَّن أن مناشدةَ الله عز وجل في الإعانة على النصر لا تَعني إلا تحقيقَ صيرورة الأمة واستمرارَ قيامتها.