الكاتب : سلمان رشيد الهلالي
(المعرفة تساعد الذات الواعية لان تجد حقيقتها الاساسية)
يعاني المجتمع العراقي من ظواهر نفسية واجتماعية خطيرة تراكمت عبر التاريخ القديم من جانب او ورثها من افرازات حكم الانظمة الطائفية والعنصرية والبعثية السابقة وتداعياته السلبية من جانب اخر, حتى اضحت (نسقا) لايمكن التحرر منه او التخلص من تاثيراته وتداعياته , وكان من اهم تلك الظواهر العصابية هى ظاهرة الاستلاب او الاستلابات المتعددة مثل استلاب العلمانية والحرية والشجاعة والمدنية والوطنية والقومية والاسلامية وغيرها . والاستلاب هو تمظهر نفسي له تعاريف متعددة منها : هو رد الفعل السلبي امام الاتهامات الكاذبة التي روجها الاخرون عليك , او الاستسلام للفكرة السلبية التي رسخوها ضدك , او الشعور بالنقص والعجز والدونية امام الظواهر الايجابية التي لم تحققها في حياتك , او الرضوخ للصورة النمطية السلبية ضدك , او هو الكبت القسري لرغبات الفرد والمجتمع المشرعة وانبعاثها من جديد في وقت لاحق . وقد حددت من جهتي ثلاث من الاستلابات الخطيرة التي يعاني منها العراقيون حتى اليوم وهى :
1 – استلاب الحرية : ونشرت بهذا الصدد عنها مقالا في موقع الحوار المتمدن بعنوان (استلاب الحرية عند العراقيين) .
2 – استلاب الشجاعة : ونشرت بهذا الصدد ايضا مقالا في موقع الحوار المتمدن بعنوان (استلاب الشجاعة عند الشيوعيين) اي ان المقال اقتصر على الشيوعيين وليس على جميع العراقيين , وسنقوم بتوسيع الموضوع في هذا المقال .
3 – استلاب الوطنية : وهو مقالنا القادم ان شاء الله .
استلاب الشجاعة : وتعني الشعور النفسي بالنقص والالم والعار الذي يمر به الانسان بسبب الجبن والتخاذل في المواقف التي تحتاج الى المواجهة والشجاعة في حياته ,من قبيل التهديدات الشخصية والاستبداد السياسي , ومن ثم محاولة تعويض ذلك من خلال مواقف وهمية وسلوكيات استعراضية من البطولة . او التردد والضعف في مواطن المواجهة , ومحاولة تعويض ذلك من خلال اتخاذ مواقف وهمية من الشجاعة واسطرتها وتضخيمها في سبيل التعمية والتغطية عن تلك المواقف السابقة . وفي الواقع ان ظاهرة استلاب الشجاعة ليست مقتصرة على الشيوعيين فقط , وانما هى ظاهرة منتشرة في المجتمع العراقي , ويمكن تفسيرها من خلال الاستعانة باراء الدكتور علي الوردي بهذا الصدد , وخاصة فرضيته حول صراع قيم البداوة والحضارة في العراق . فقد بين الوردي ان العراقي يحمل في شخصيته وقرارة نفسه نوعين من القيم (البدوية والحضرية) , فالقيم البدوية تقدس النخوة الشجاعة والبطولة ,الا ان واقعه الريفي والمدني والاستبداد السياسي لايستطيع ان يظهر هذه القيم او تطبيقها على ارض الواقع , بسبب واقعه المدني وهيمنة القيم الحضرية التي ترضخ للسلطة الاستبدادية , مما يجعله يعيش حالة من الاستلاب والعقدة النفسية اللاشعورية التي تريد الظهور والتنفيس , ومن ثم محاولة التغطية عليها باي وقت او وسيلة ممكنة . وعندنا في العراق بعد 2003 اكبر دليل على ذلك , فالمجتمع الشيعي كان يعاني من ضغط الديكتاتورية وماتبعها من اذلال واحتقار وعبودية وطائفية وتخوين , الامر الذي جعله يكبت تلك الاهانات والتجاوزات الفضيعة في خانة اللاشعور, وبما ان (المشاعر المكبوتة لاتموت ابدا , انها مدفونة وعلى قيد الحياة ,وستظهر في وقت لاحق) – كما قال فرويد – فان تلك المشاعر ظهرت بصورة هائلة كالبركان بعد ان وجدت متنفسا لها من الحرية والديمقراطية بعد سقوط النظام الديكتاتوري البعثي , فخرجت بصور شتى من المقاومة والتظاهرات والاحتجاجات والانتقادات ووو وغيرها . الا ان استلاب الشجاعة عنده اعطى لافعاله وممارساته بعدا وهميا وكاذبا وغير واقعيا او حقيقيا من البطولة والمقاومة . فكلنا يعرف ان الشجاعة هى مواجهة الخطر , وهذا تعريفها البسيط والموضوعي , واذا لم نعتمد ذلك التعريف فانها ستصبح مفهوما سائبا وغير عقلانيا , لان كل انسان في هذه الحالة يعتبر عمله نموذجا للشجاعة والبطولة , حتى لو كان تافها او بسيطا او ضد الانسان الاخر الضعيف المستضعف ,وهذا مارايناه بعد سقوط النظام الديكتاتوري عام 2003 , فالكثير من العراقيين اعطوا لافعالهم من التظاهرات ونقد الحكومة بعدا من الشجاعة ليس له وجود حقيقي , وكل ذلك بسبب ذلك الاستلاب المتراكم والمكبوت ضمن اللاشعور . لذا نجد ان مفردات مثل (احرار وشجعان وابطال) توزع مجانا ونفاقا – يمينا ويسارا – لكل تصرف ضد النظام المتراخي والضعيف والمترهل والتعددي الديمقراطي . واذا تجرأ احدهم وانتقدهم على اضفاء هذه المفاهيم الكاذبة على افعالهم , كان الحل عندهم هو الغضب والتوتر والاتهام بالعمالة للحكومة , والعمل على ازالة هذا الاشكال من خلال اضفاء مفاهيم من الديكتاتورية والاساطير والتهويل والخوف على هذا النظام السائب والمتراخي , حتى يعطون لانفسهم بعدا حقيقيا من الشجاعة والبطولة , لكنها في حقيقية الامر لاتصمد امام الواقع والتاريخ والعقل .
كان رد الفعل عند العراقيين الشيعة على استلاب الشجاعة من خلال طريقين :
الاول : مهاجمة الرجال والشخصيات التي لها مواقف بطولية من الاستبداد البعثي والطائفي ابان الحكم البعثي الحاكم وانضمامها الى صفوف المعارضة المسلحة ضد النظام , او من خلال مواجهة الارهاب والدواعش والقاعدة , كما في بطولات الحشد الشعبي والفصائل المسلحة وغيرها . فكلنا يعلم ان الحكم البعثي الديكتاتوري مارس سلوكيات اجرامية خطيرة ضد اغلبية العراقيين , من قبيل توريطه بالحروب العبثية والاستبداد والفتن والحصار والتجويع وانتهاك الحرمات والاعراض والاعتقالات والاعدامات , وغيرها من الاعمال التي لايمكن حصرها وعدها , حتى يمكن وصفه بانه اسوء نظام ديكتاتوري في التاريخ , الا ان مواجهة الشعب العراقي والقوى الواعية ضد هذا النظام ليست بمستوى الحدث , فقد كان هناك نوعا من الخنوع والاذلال والعبودية امام ممارساته الاجرامية , ولم تحصل مواجهة مسلحة حقيقية ومؤثرة ضد النظام , الا من خلال تنظيمات مسلحة تبلورة في الخارج (ايران وسوريا) , او في شمال العراق مع الاكراد , والتي قامت بعمليات بطولية ضد النظام البعثي وازلامه – وخاصة في منطقة الاهوار – بدعم من ايران , لكن المفارقة ان استلاب الشجاعة جعلت البعض من العراقيين المخصيين يهاجمون اولئك الافراد بحجج واهية وضعيفة , ظاهرها سياسي وايديولوجي , ولكن باطنها الحقيقي هو تعويضا لحالة الاستلاب والخنوع والعبودية التي كانوا يعيشونها , لان مواقف اولئك الشجعان تعريهم وتظهرهم بمظهر الجبان والذليل , فضلا عن اسباب اخرى خارجة عن موضوعنا , منها يتعلق بتاثير الثقافة والتربية والسرديات البعثية المتغلغلة في نفوسهم . بمعنى ان هناك سببين لمهاجمة المعارضة العراقية المسلحة ضد النظام البعثي :
1 – : التربية البعثية وسردياتها المتغلغلة عند الاغلبية من العراقيين من ذوي الثقافة الضحلة والعشائرية والعوائل البعثية والسوقية , وتبعيتهم للخطاب الاعلامي العربي الذي يبشر بها حتى الان .
2 – : الشعور بالاستلاب والنقص امام تلك التنظيمات المعارضة المسلحة وقادتها ورموزها , ومن ثم مهاجمتها والنيل منها بدعوى السرديات البعثية نفسها من قبيل الوطنية والخيانة وغيرها . وتجلى لك واضحا في مهاجمة الشخصيات الشيعية العامة من قبيل الشهيد قاسم سليماني او حسن نصر الله او الحوثي او عماد مغنية وغيرهم , او مواجهة الشخصيات العراقية التي كان لها دور في مواجهة الاستبداد والارهاب من قبيل السيد محمد باقر الحكيم وهادي العامري والشهيد ابو مهدي المهندس وغيرهم .
الثاني : الادعاءات الكاذبة للشجاعة وتقمص مواقفها بعد سقوط النظام البعثي الاستبدادي عام 2003 , من خلال ممارسات وسلوكيات تظهر بديهيا في الانظمة الديمقراطية من قبيل التظاهرات والاحتجاجات والاعتصامات والنقد الاعلامي وغيرها , واضفاء عليها نوعا من البطولة والاسطرة هى بالاصل غير متواجدة فيها , تعويضا لحالة الجبن والخصاء والاذلال التي كان يعيشونها , خاصة اذا عرفنا ان اغلبية المتظاهرين هم ممن عايش الحقبة الديكتاتورية , ولم تظهر عندهم اي موقف من البطولة والرفض والمقاومة – ان لم يكن العكس – فقد كانوا غارقين في عتمة الاذلال ومستنقع الخنوع والانقياد للنظام الديكتاتوري , وبالتالي فلم توجد مواقف لتعويض حالة الاستلاب والاذلال السابقة الا مواجهة هذا النظام الضعيف المستضعف المتسيب والمتراخي , وانتقاده والتظاهر ضده والتجاوز عليه . بل ولم يكن استلاب الشجاعة بالعراق بعد السقوط عام 2003 قد تمظهر على الحكومة المتراخية والمتسيبة والضعيفة فحسب , وانما ظهر بوضوح بالتجاوز على القوى السياسية الضعيفة التي يؤتمن جانبها ,وتتقبل منتقديها ولا تعتدي عليهم مثل المجلس الاعلى والفضيلة والحكمة والدعوة . واما الاحزاب التي لايؤتمن جانبها وعندها شعور بالتضامن والقوة والعصبة , ولاتقبل النقد والسخرية على قادتها وافعالها – مثل التيار الصدري – فان المخصيين والمستلبين لايذكرونهم بنقد او هجوم او اتهام الا نادرا , رغم انهم يشاركون جميع تلك الاحزاب بكل شي تقريبا , من حيث المشاركة بالسلطة والميليشيات والفساد وغيرها , والسبب هو خشيتهم من الاعتداء والخطف والضرب , بل واخذوا يبررون ذلك بمقولات لاتصمد امام الواقع سوى الخوف والجبن . وقد ظهر ذلك بوضوح خلال الازمة السياسية التي حصلت خلال تظاهرات تشرين 2019 ,فرغم ان التيار الصدري اعتدى مرات عديدة على المتظاهرين في الناصرية والنجف وبغداد وضربهم وادماهم , الا ان المؤيدين للتظاهرات ومناصريها لم يذكروهم الا نادرا خشية من ردة فعلهم العنيفة . وكذا الامر اثناء الخلاف بين التيار الصدري والتكتل الشيعي الاخر الذي يسمى (الاطار) في اعقاب الانتخابات المبكرة عام 2022 , فرغم ان جميع هذه الاحزاب مشاركين بالحكومات العراقية المتعاقبة من 2003 وحتى الان , ويتحملون اوزرها وفسادها وسلبياتها واختلالها , الا اننا نجد استلاب الشجاعة والجبن قد ظهر باجلى مظاهره عندما انحاز المخصيين للتيار الصدري خوفا وخشية وجبنا من اتباعه , وهذا الامر لم يقتصر على العامة من الناس , بل وحتى عند المثقفين والعلمانيين والمدنيين والشيوعيين ,الذين طالما صدعوا رؤوسنا ليلا ونهارا بالدولة المدنية والعلمانية ورفض التبعية لرجال الدين والميليشيات ووو وغيرها , الا ان الغريب انهم انحازوا لاشد التنظيمات الاسلامية راديكالية وعنفا ورفضا للرأي الاخر , وهو طبعا سلوك يخفي اسباب اخرى لامجال لذكرها كلها من اهمها : ان التيار الصدري حقيقية هو اقرب للشخصية العراقية بالوصف الذي ذكره علي الوردي والنسق العراقي الحقيقي , والدليل ان اي مراهق او فرد عندما يبدا بالفهم والبلوغ تجده (اوتوماتيكيا) ينحاز للتيار الصدري , ويتبع زعيمه السيد مقتدى الصدر ويقدسه , فهو المعبر الحقيقي لشخصيتهم اللاشعورية وتطلعاتهم الشخصية . ولكن يبقى استلاب الشجاعة والخشية هى السبب الاهم والمقدم , فالعراقي لايظهر مبادئه وافكاره وانتقادته الا بعد ان يضمن سلامته وحياته, وبالتالي فهو عندما يريد ان يظهر علمانيته ومدنيته ومبادئه بالدولة العادلة ورفض الفساد والميليشيات وغيرها , فهو امام خيارات عديدة ليس بالضرورة ان يظهر ذلك بنقد الاحزاب والتيارات المتشددة التي لاتقبل النقد والاعتراض , وانما عنده خيارات اخرى لاظهار شجاعته وبطولته وتعويض حالة الاستلاب والجبن عنده من خلال مهاجمة الاحزاب الاخرى , المتراخية والضعيفة التي تتحمل النقد والسخرية والاعتراض , ولاتملك القدسية لقادتها او العصبة لحزبها او التقدير المغالي لسلوكها .
ان الممارسات التقليدية في الانظمة الديمقراطية من قبيل التظاهر والاحتجاج والاعتصام والنقد – وحتى السخرية – انما هى ممارسات طبيعية وسلوكيات مشروعة لاغبار عليها , وتدخل ضمن اطار الانظمة والقوانين والدستور العراقي الذي يبيح تلك الاعمال , الا انها لاتدخل ابدا في اطار الشجاعة والمواجهة والبطولة الشخصية والاجتماعية , لان النظام السياسي المقابل لها ليس ديكتاتوري او قمعي او شمولي , وانما – كما قلنا – نظاما ديمقراطيا متراخيا ومتسيبا , ولايملك لنفسه اي عصبة او جماعة او حزب لحمايته والدفاع عنه , بل ان الاحزاب والسياسيين الذين هم بالسلطة ينقدون ويهاجمون الدولة والنظام السياسي اكثر من المعارضين لها والناقمين عليها, وهى حالة فريدة لم تحصل في جميع دول العالم . فيما ان المتظاهرين انفسهم بالاصل عندما ينقدون النظام يقولون انه متسيب ومحاصصي وتوافقي وغير حازم , فكيف تكون مواجهته عملا بطوليا ؟؟!! . وبما ان تعريف الشجاعة البسيط – كما قلنا – هو مواجهة الاخطار والاستبداد والارهاب , وليس مواجهة الضعيف والمتراخي والمتسيب , وقع اولئك المستلبين في موقف محرج وتوتر نفسي , فاشاعوا على النظام السياسي مظاهر واساطير من الكذب والخطورة واضفاء عليه نوعا من القمع والتهويل والمبالغة .
وقد برز بعد السقوط مواقف من التحديات والاخطار الوجودية على المجتمع العراقي يمكن ان تظهر الانسان الشجاع والمتميز على حقيقته , وهو مواجهة الارهاب وداعش الذي ضرب البلاد بعد السقوط عام 2003 , وقتل مئات الالوف من المدنيين والابرياء العراقيين , واسقط محافظات ومدن سنية عديدة , حتى وصف بانه اخطر تنظيم ارهابي واجرامي ظهر بالتاريخ , الا اننا وجدنا عند المثقفين المخصيين تراخيا وتشكيكا بالارهاب , بل وجدنا العكس من ذلك , فقد هاجموا وطعنوا بالفصائل والشخصيات الشجاعة التي واجهت الارهاب وداعش , وهو تصرف غريب لايدخل الا ضمن خانة استلاب الشجاعة والبطولة , فبدل ان يحصل تقدير وتقديس لتلك الفصائل والشخصيات – كما هو معمول به او متعارف عند جميع دول العالم – وضمن سنن الكون والفطرة السليمة والتربية الرجولية , الا اننا وجدنا العكس من ذلك بالعراق , وهو الهجوم عليها والتخوين لمواقفها وتاريخها , وبما ان كل عمل غير عقلاني هو عمل لاشعوري – كما اثبت ذلك علماء النفس – فان التفسير الوحيد لهذه الظاهرة يجب ان يكون نفسيا وليس سياسيا او ايديولوجيا (رغم انه يحمل شذرات من ذلك) وهو الشعور بالنقص والاستلاب والخنوع , وكما قلنا ان الانسان الجبان يحقد على الانسان الشجاع , تعويضا لحالة الاستلاب والشعور بالعجز , وعلى قاعدة (الانسان المخصي دائم الحقد على الفحل) . لذا يمكن القول ان المستلبين فقدوا فرصة ذهبية لتعويض حالة الاستلاب من خلال المواجهة الفكرية والميدانية للارهاب وداعش , الا انهم اخذوا بالعكس من ذلك – كما قلنا – اتهموا الكثير من قيادات تلك الفصائل والحشد الشعبي من قبيل ابو مهدي المهندس والعامري وغيرهم من الحلفاء امثال قاسم سليماني بالتخوين والعمالة , ليس انسياقا وراء التربية والثقافة البعثية فقط – كما تصورناها سابقا – وانما تعويضا لحالة الجبن والاستلاب التي يعانون منها , والا نجد هناك الاف من السياسيين الشيعة والكورد والسنة الذين يملكون ميليشيات وملفات فساد , وحتى تبعية للشرق والغرب والشمال والجنوب , فلماذا يكون هجوم المخصيين على الشخصيات المتميزة التي كان دور كبير في مواجهة الطغيان البعثي والارهاب الداعشي فقط ؟؟ السبب لايحتاج الى تفكير عميق , فالامر مرتبط بحالة الاستلاب التي يعاني منها اغلبية العراقيين الشيعة . وهذا الامر وجدناه متجسدا بصورة كبيرة وظاهرة عند الشيوعيين العراقيين , فهم من اكثر الناس بتاريخ العراق السياسي الحديث والمعاصر تعرضا لحالة الاستلاب والشعور بالعجز والجبن , فكلنا يعلم ان الشيوعيين العراقيين تعرضوا الى اكبر عملية قمع وتصفية وابادة في بالعالم , ومن جميع الانظمة العراقية الملكية والجمهورية والقومية والبعثية , وقتل منهم البعثيون ربما اكثر من (500) الف فرد واعتقلوا منهم مئات الاف وتعرضوا لاقسى صنوف القمع والتعذيب والاعتداء الشخصي على الرفاق والاغتصاب على الرفيقات , فيما انهم لم يقتلوا بعثيا واحدا طوال تلك الفترة , الامر الذي ادى بالشاعر بدر شاكر السياب الى اتهامهم بالجبن , وتحداهم ان يقتلوا قوميا واحدا في مقالاته الشهيرة (كنت شيوعيا) , الا اننا وجدنا ان الشيوعيين – وتعويضا لحالة الاستلاب – لم يجدوا شخصيات لمهاجمتها افضل من الشخصيات الشجاعة التي لها موقف بطولي ورجولي في مواجهة الطغيان البعثي والارهاب الداعشي , والتركيز على حلفائهم مثل ايران وغيرها , وذلك تعويضا لحالة الاستلاب والجبن السابقة التي ذكرناها . وقد عزى السياب السبب لحالة الجبن هذه الى ضعف الايمان والتدين عند الشيوعيين والحادهم وعدم اعترافهم بالاخرة , الامر الذي يجعلهم حريصين على حياتهم الدنيا الوحيدة , وهو طبعا تفسير غير صحيح او عقلاني , فالشيوعيين العراقيين غير ملحدين حقيقية في قرارة انفسهم – رغم ادعائهم العكس – . ولكن السبب الحقيقي – عندي – مرتبط بالهوية الشيعية بالعراق , فكلما ابتعد الانسان الشيعي العراقي عن هويته الشيعية وتسامى عنها وترفع عليها او هاجمها وسخر منها , لدوافع شخصية او اجتماعية او نفسية او سياسية او ايديولوجية او دونية , يصبح اكثر جبنا ودونية واستلابا وشعورا بالنقص , كما عند العلمانيين والمدنيين والبعثيين والشيوعيين من ذوي الاصول الشيعية والجنوبية خاصة – والعكس – فكلما تمركز الشيعي على هويته اصبح اكثر قوة واعتزازا وبطولة وشجاعة , وهو ماشهدناه – كتطبيق عملي – بالتنظيمات والشخصيات الشيعية التي واجهت الاستبداد البعثي والارهاب الداعشي ,فالهوية تعطي شعورا بالاعتزاز والانتماء والفخر ,مشابه لما تفعله العقيدة في نفوس اصحابها من القوة والصلابة والمواجهة ,والامر ليس مقتصر على الشيعة فقط , وانما موجود بقوة عند سنة العراق والموارنة المسيحيين في لبنان واليهود في اسرائيل . بمعنى ان الافراد الشيعة – وخاصة العلمانيين منهم – وعندما افتقدوا الهوية الشيعية وهاجموها وتعالوا عنها , دخلوا مباشرة في مستنقع الجبن والاذلال والخصاء , الامر الذي فرض عليهم توترا نفسيا بسبب تلك الحالة التي حتما شعروا بها , فارادوا تعويض ذلك بمهاجمة الشخصيات الشيعية البطولية , او الانسياق وراء ممارسات برزت بعد السقوط من قبيل التظاهر والاعتصامات والاحتجاجات واضفاء صفات من البطولة عليها , لذا ليس من المستغرب ان تجد كل عملية تظاهر بعد السقوط يتصدى لها العلمانيون والشيوعيين وهم يرفعون الاعلام ويلتقطون الصور , تعويضا لحالة استلاب الشجاعة التي يعانون منها , رغم ان المفارقة الغريبة ان الشيوعيين لم يعيشوا الحرية وتحقيق الذات والحصول على الحقوق الشخصية والمكاسب الحزبية والكرامة الانسانية والممارسة الشخصية وفتح مقراتهم وطبع كتبهم وصحفهم منذ تاسيس الحزب عام 1934 , الا في هذا النظام السياسي الديمقراطي الذي تبلور بعد 2003 , ولكن – كما قلنا – ان الامر مرتبط بالتعويض النفسي والاستلاب الشخصي من ظاهرة الشجاعة .
ويظهر استلاب الشجاعة عند العراقيين العامة منهم والنخبة المثقفة والمتعلمة على حد سواء . فعند الناس العامة والبسطاء يظهر بوضوح استلاب الشجاعة بمظاهر الخبن والتهنبل والادعاءات الكاذبة والاسطورية والتباهي بسلوكيات لاتدخل ضمن اطار الشجاعة , وانما في دائرة الاستعراضات العشائرية او التغلب على الضعفاء او التجاوز على اتباع العشائر الضعيفة , وهو مصداق قول ابن خلدون في وصف العرب (ان العرب لايتغلبون الا البسائط , ولايركبون الصعاب ولايحاولون الخطر) . وتاييد هذا الكلام قد حصل عندنا في جنوب العراق , اذ وجدنا ان هذه العشائر الغارقة بسرديات البطولة والخبن والتهنبل واستحقار العشائر الاخرى والضعيفة , وجدنا عندها سكوتا مطبقا وجبنا غريبا امام النظام البعثي الديكتاتوري والاعضاء الحزبيين, فيما اذا حصل وحدثت مشكلة لها مع عشيرة مجاورة لها , تجد الهجوم الجسور والتطرف بالمطالب والابتزاز المالي والاستعلاء بالتعامل حتى يمكن وصفها (ولية مخانيث) . واما اذا كانت هذه العشيرة ضعيفة – وليس عندها عصبة – فالله سينتقم منها بالمطالب التعجيزية والمالية . كما يظهر استلاب الشجاعة عند العامة في قتل النساء غسلا للعار عند وقوع الزنا – او شبهة الزنا – او الهروب حتى لو كانت طفلة صغيرة ,فيما يكتفون من الرجل الخاطىء الذي اغوى المراة بالفصل والاموال فقط . كما تبرز بالاستعراضات الشعبية المسلحة التي تظهر بالمناسبات العامة , كتشييع الموتى والفواتح او الاعراس والقدوم من الحج , من حيث الرمي الكثيف بالسلاح المتوسط والخفيف ,والتباهي به وتصويره ,واغداق الاموال على الشعراء والمهاويل الذي يمدحون الشيوخ او اقاربهم – وحتى العامة منهم – من خلال ابيات شعرية غارقة بالكذب والتزييف في وصف البطولة والشجاعة عند المتوفي , رغم انه لايوجد اي تجسيد عملي او دليل واقعي لتلك البطولة في المواقف الخطيرة والحقيقية – مثل مواجهة الديكتاتورية البعثية – عدا ابتزاز العشائر المجاورة الاخرى وتهديدهم والنيل منهم .
واما استلاب الشجاعة عند المثقفين والمتعلمين فهو ظاهر بافراط على السطح , ولايمكن انكاره او تجاوزه , وتجسد بصورة بارزة خلال الحكم البعثي الديكتاتوري الذي جعل اغلبية المثقفين والادباء والكتاب والفنانين يتسابقون في العمل والخدمة بمؤسساته الاعلامية والحزبية – وحتى الامنية – وتبرير اعماله الاجرامية وسلوكياته الطائفية والعنصرية والاستبدادية . واما من هرب منهم خارج العراق , فقد اكتفى بالسكن واللجوء في الدول الغربية ,والتنعم بامتيازاتها واموالها وطبيعتها , دون تحمل عناء المقاومة والرفض للنظام الاستبدادي . وهذا السبب وغيرهم هو الذي جعلنا نستغرب من ظاهرة انعدام المثقفين الشهداء وندرته في العراق , اذ ربما يمكن ذكر اسماء معدودة جدا بهذا الصدد من قبيل محمد باقر الصدر وعزيز السيد جاسم . واما بعد سقوط النظام البعثي عام 2003 وقيام النظام الديمقراطي التعددي فقد خرج طوفان استلاب الشجاعة كالمارد من الرماد , فقد اصبح جميع اولئك المثقفين المخصيين والمرتزقة البعثيين والشيوعيين الهاربين والعامة الصامتين – بين ليلة وضحاها – وهم ثوريين اباة لايهادنون السلطة , او يصمتوا عليها , واصبحوا حساسين جدا امام اي تجاوز يحصل لهم , او اي خطا يحصل امامهم او يسمعوا به , لذا تجدهم في كل حدث او موقف او خبر نقد مريرا ومتطرفا للسلطة , دونوا خلالها الاف المقالات والمنشورات في مواقع التواصل الاجتماعي , وشاركوا بكل عملية تظاهر او احتجاج او اعتصام تحصل ضد هذا النظام الضعيف والمتراخي , وهم مزهوين بعملهم ومفتخرين بوقوفهم يلتقطون الصور دون اي شعور بالخجل والعار من ماضيهم السابق بالعبودية , تعويضا لحالة الجبن والاذلال التي سبق وان عايشوها بكل تفاصيلها ابان الحكم البعثي . بل ياليت الامر يقف عند هذا الحد , بل واخذ اغلبهم تعويضا لحالة الاستلاب والجبن التي ذكرناها سابقا بمهاجمة اي شخصية او تنظيم له موقف او تاريخ من البطولة والشجاعة في مواجهة النظام البعثي الديكتاتوري , واتهامها العمالة والخيانة وغيرها , كل ذلك بسبب ان وجود هذه الشخصيات والتنظيمات يشكل نوعا من التوتر النفسي والتعرية لتاريخهم وشخصيتهم النرجسية والمثالية , فيجب بالتالي ازالتهم من الوجود والاعلام والذاكرة , وانهاء تلك الحقبة البعثية المليئة بالعار والاذلال من التاريخ . لذا تجد عندهم سكوتا مريبا عن ذكر الحقبة البعثية او تاريخها وافعالها وضحاياها , وتحويل كل قضية او منقصة او سلبية تخص تلك الحقبة الى هذا النظام الحاكم الحالي , من اجل خلط الاوراق ونقل المعركة والقضية الى مدى اخر , كل ذلك واضحا عندنا وضوح الشمس ,وهو تحييد تلك الفترة البعثية والتعمية على اجرامها والتغطية على عارها . وهذا الامر لايقتصر على الافراد من اصحاب التوجهات البعثية والمتاثرين بثقافتها وتربيتها القومية والطائفية , وانما حتى المخصيين من ضحاياها , الذين وجدناهم ورغم مرور اكثر من عشرين عاما من سقوط النظام البعثي , الا انه حتى الان لم ينقدوه بكلمة واحدة او مقال خاص , رغم انهم كتبوا عن اغلب احداث التاريخ القديم والاسلامي والحديث والمعاصر . وقد اسرى لي احدهم سببا اخر ينم على الجبن الغريب لم اصدق به حتى الان , الا اني اذكره للتاريخ وهو : ان الكثير من الافراد والكتاب الذين لم يذكروا الحقبة البعثية واجرامها , انما هو خوفا من احتمالية عودتهم للسلطة ومن ثم الانتقام منهم , ولا اعرف صحة هذا السبب الذي ينم عن خوفا غير معقول وجبن اسطوري وافد من خلف اسوار التاريخ , الا انه غير مستبعد على الناس الذين تسرب الخوف والرعب الى نفوسهم المدجنة , واضحى مرادفا للاستلاب عندهم .
برزت ظاهرة استلاب الشجاعة في المواقف الفكرية والثقافية عند المثقفين العراقيين – وخاصة الشيعة منهم – في موضوعة الموقف من الارهاب الذي ضرب البلاد بعد سقوط النظام البعثي عام 2003 , واصبح سمة يومية من القتل الطائفي ضد الاغلبية الشيعية من خلال السيارات المفخخة والعمليات الانتحارية والتهجير والذبح والاغتصاب والسبي ,الذي قامت بها الاقلية السنية والحاضنة البعثية بتحريض من الدول العربية والخليجية ومساعدتها ودعمها – وخاصة السعودية – وقد ادت تلك الاعمال الى مقتل مئات الالوف من المدنيين والعسكريين الشيعة , وصلت قمتها بمرحلة تنظيم داعش وسقوط المحافظات السنية الثلاث وهى الموصل وصلاح الدين والانبار بيد هذا التنظيم الاجرامي … فماذا كان موقف المثقفين العراقيين – وخاصة الشيعة – من هذا الارهاب والقتل اليومي ؟؟ حتما ستصيبك الدهشة لاغرب موقف في التاريخ , لم يخرج الا من الافراد المخصيين والجبناء والمستلبين , وهو السكوت المطبق والمريب عن تلك الظاهرة الاجرامية والتعمية عليها والتغطية عن افعالها , وهذا الامر لايقتصر على الشواذ من الكتاب والمثقفين والاكاديميين والفنانين فقط , وانما الاغلبية منهم , حتى يمكن القول انه اصبح (نسقا) لم يتحرر منه الا الشجعان . فمن خلال احصائية قام بها البعض من الاكاديميين والباحثين المختصين ظهر ان من اصل (500) كاتب ومدون واديب وفنان واكاديمي معروف وله حضور بالانترنت , ظهر ان اكثر من (420) كاتب لم يذكر الارهاب بكلمة , او ذكره عرضا او برره او خلط الاوراق عنه , ويمكن وصفهم هؤلاء بالمخصيين الصريحين . و(40) منهم انتقد الارهاب وداعش , ولكنه انتقادا خجولا وعاما ورسميا دون المرتكزات الفكرية والاجتماعية والطائفية التي يستند عليها او الدول الداعمة له , مع انتقاد القوى الاخرى مثل الميليشيات والفصائل او الحشد الشعبي , كل ذلك من اجل ان يظهر نفسه بمظهر الوطني والمحايد , بل ان الانتقاد الاكثر هو للحكومة والميليشيات وليس الارهاب , وهؤلاء يمكن وصفهم بنصف المخصيين . واما الاربعين الباقين من اصل (500) كاتبا من المثقفين , فهم الشجعان وغير المخصيين النادرين الذين اعتبروا الارهاب هاجسا خطيرا عندهم وتحديا وجوديا عليهم ,وسببا رئيسيا في تلاشي مفهوم الدولة ,وتهديدا للسلم الاجتماعي ,ودافعا للطائفية والحرب الاهلية والتكفير والتخوين . وطبعا هذا كلامنا لايشمل الحاقدين من اصحاب الدونية والنقص من الشيعة الذين يدافعون عن الارهاب صراحة , ويعدونه دفاعا عن النفس في مواجهة الميليشيات والاقصاء والتهميش ضد السنة , او يعتبرونه مؤامرة ايرانية قام بها المالكي لتسليم المحافظات السنية لداعش , وغيرها من التبريرات التي لاتدخل في خانة الاستلاب فقط , وانما في دائرة الحقد والغل والنقص والدونية .
واما استلاب الشجاعة عند اهل السنة فهم يشتركون بسمات مع الشيعة ويختلفون في اخرى . فالسمات التي يشتركون بها هى ان الشجاعة عندهم تبرز في التجاوزعلى الضعفاء والبسطاء والعزل من الناس , الا ان الاختلاف انهم يشتركون العامة مع السلطات الحاكمة في هذه السمة ,وهى احدى اخلاقيات وسلوكيات الثقافة البدوية والتي سبق وان ادرجنا راي العلامة ابن خلدون فيها وهى (ان العرب لايتغلبون على الا على البسائط ولايركبون الصعاب ولايحاولون الخطر) , لذا تجد هذا ظاهرا في سلوكهم ابان حكمهم الطائفي بعد تاسيس الدولة العراقية عام 1921 وخاصة ابان الحكم القومي والبعثي والطائفي الصريح بين (1963- 2003) من حيث تصفية الابرياء على التهمة والظنة وابادة المدنيين وقتلهم , كما في المقابر الجماعية وضرب الاكراد بالكيمياوي في (حلبجة) وقتل اكثر من (180) الف كردي بعمليات الانفال وغيرها , او الهجوم على ايران عام 1980 واحتلال قسم من اراضيها ,مستغلين انشغالها بازمة الرهائن مع الامريكان والفتن الداخلية والصراعات السياسية وتخلخل المؤسسة العسكرية . او احتلال الكويت عام 1990 الدولة الضعيفة الصغيرة , فيما انهزموا هزيمة نكراء لامثيل لها بالتاريخ في حربين امام الامريكان : الاولى عام 1991 في عملية تحرير الكويت حيث لم يصمدوا امام الهجوم البري حتى ثلاث ايام , وهرب الضباط السنة وتركوا الجنود الشيعة لمصيرهم الاسود والابادة الشاملة . والثانية عام 2003 حيث انهزم الجيش العراقي هزيمة منكرة اسوء من الاولى , اذا سلموا العراق كله بظرف عشرين يوما , وانهزم الضباط السنة والقادة والاركان , حملة اكبر عدد من انواط الشجاعة بالتاريخ الى قراهم في المحافظات الغربية , وارتدوا العقال واليشماخ , بل وفاوضوا الامريكان وسلموا مدنهم دون اي قتال . فيما كان مصير قائدهم ورمزهم الاوحد صدام حسين لايشرف اي انسان بالعالم , حيث كان اول الهاربين الى حفرة صغيرة تحت الارض في قرية في مدينة (الدور) تاركا اولاده وزوجته وبناته وجيشه لمصيره المجهول , وهاربا بروحه وخائفا شعبه اكثر مما يخاف من الامريكان .
واما بعد سقوط النظام البعثي عام 2003 فقد اظهر السنة شجاعتهم ايضا من خلال مهاجمة النظام السياسي الجديد وتخوينه , بل وتكفيره والسخرية منه ,والنيل من احزابه وقادته ودستوره , واظهار البطولة الكاذبة امام الابرياء والعزل من اهل الشيعة وتهجيرهم وقتلهم وابادتهم من خلال القتل الطائفي والسيارات المفخخة , مستغلين انهيار الدولة وتلاشي المؤسسة العسكرية ,واجواء الحرية والديمقراطية وتراخي الدولة وضعفها وتسيبها . ولكن امام اي اختبار بسيط – مثل ظهور تنظيم داعش – هرب اهل السنة الى الاصقاع وتركوا مدنهم وقراهم نهبا للتنظيم الارهابي , وعاشوا بالخيم في كردستان لاجئين بالصيف اللاهب والبرد القارص , وانتظروا اهل الجنوب والشيعة من الجيش العراقي والحشد الشعبي الابطال وحرروا مدنهم واعادوهم لديارهم ومدنهم وقراهم .
ان هذه الدراسة المعرفية والنفسية والاجتماعية لظاهرة استلاب الشجاعة عند العراقيين ليس هدفها الادانة للشخصيات والافراد المصابين بهذه العاهة فحسب , وانما هدفها التعرية والتفكيك والنقد للتصرفات والممارسات والسلوكيات الغرائبية عند العراقيين , التي يغلب عليها الجانب العصابي والنفسي , وسحبها من منطقة اللاشعور واللاوعي الى منطقة الشعور والوعي , من اجل تجاوزها وفهمها والتصالح معها , ومن ثم بلورة مفهوم حقيقي ومعبر لمفهوم الشجاعة , فغير المعقول اننا طوال الاف الاعوام نجتر مفهوم الشجاعة غير الصحيح او الحقيقي من اجل تعويض الاستلاب والجبن الذي نعاني منه , الى التجاوز على الضعيف او المتراخي وخلق اساطير كاذبة من التهنبل والخبن والادعاءات الفارغة ,الامر الذي جعلنا نبتعد عند مفهوم الشجاعة الحقيقي من الاستبداد والديكتاتورية والاحزاب الخطيرة والاقصائية والارهاب , والتركيز نحو سلوكيات لاتمت للشجاعة بصلة , لانها تفتقد اهم شرط لتعريفها وهو مواجهة الخطر – كما قلنا – لان هذا يخلق انطباع خاطىء وخطير عند الناس والاجيال الجديدة بان حصولك على هذا اللقب مثل (شجاع) او (بطل) لايكون بالضروة ان تلقي نفسك بالتهلكة وتعرض حياتك للخطر , بل يمكن ان تحصل على هذه الالقاب المجانية والمتاحة من خلال سلوكيات وممارسات لاتحمل مضمون الخطورة , وتتوفر فيها شرط السلامة , وبما ان المجتمع باغلبيته يحمل تواطىء ضمني – او حتى صريح – على هذا المظهر , فانك ستحصل على هذه الالقاب بسهولة من خلال القيام بنقودات وسلوكيات وتصرفات لاتحمل سمة الخطر ,ولكن فاتهم ان هناك مراحل يظهر فيها حاكما ديكتاتوريا مثل صدام حسين او تنظيما ارهابيا مثل داعش , وسيظهر عندها رجال ابطال واباة لمواجهتهم , عندها يظهر الاختبار الحقيقي لمفهوم الشجاعة . كما ان الاغلبية من العراقيين لايظهر عندها هذا العنوان من البطولة والشجاعة الحقيقية ,فان اللاشعور ياخذ بخزن وكبت الاهانات والجبن الذي يحصل من خلال المواجهات والتجاوزات التي تقوم بها الديكتاتورية والارهاب , ثم يظهر لاحقا من خلال الاستلاب , الذي هو كما قلنا رد فعل لاواعي امام الاتهامات والاختلالات التي تواجه الانسان بحياته .
وقضية استلاب الشجاعة عند العراقيين الشيعة لها علاقة عضوية بقضية اخرى مهمة لها صلة بالموضوع وهى قضية (الاخر) . فالشجاعة والتجاوز يكون حسب (الاخر) الذي تعتقده , وبما ان الجماعة الشيعية في العراق تشكل الاغلبية السكانية والاجتماعية في البلاد , فانها تفتقد – بالتالي – الهوية والتضامن العضوي والتوحد الثقافي , وان (الاخر) على الدوام سيكون من بين صفوفها ونطاقها الاجتماعي ,سواء اكان شخصيا او عشائريا او طبقيا او سياسيا او ايديولوجيا , فان الشيعي سيظهر شجاعته وجسارته على ابناء هويته واهله وجماعته ومنطقته , وبما ان جميع تلك الفئات الشيعية هى بالضرورة ضعيفة ومستضعفة , بالقياس الى (الاخر) السني القوي والمتحد والفاعل , فمن المؤكد ان افضل مكان عند مستلب الشجاعة ان يبرز شجاعته وبطولته عند هذا (الاخر) الشيعي , والاصرار على انه (اخر) . بمعنى انه امام الشيعي المستلب والدوني والمخصي مهمتين اساسيتين بهذا المجال :
الاولى : مهاجمة هذا (الاخر) الشيعي الضعيف المستضعف , واظهار شجاعته وبطولته وصولته المجيدة امامه , من اجل تعويض حالة الاستلاب والخنوع والجبن الاسطوري والتاريخي الذي يعاني منه .
الثانية : الاصرار والتركيز من خلال اليات التدليس والكذب والتضليل على ان هذا (الاخر) الشيعي هو (الاخر) وليس (الاخر) الحقيقي الذي قتله منذ مئات السنين وقمعه واذله وعذبه وهجره وخونه وكفره وافقره وجوعه وهمشه واستعبده وانتهك عرضه وادخل بحروب وفتن وحصار لاناقة له بها او جمل , بل ومازال امام اعيننا يقتله حتى اليوم , ويقوم بنفس تلك السلوكيات البربرية والاعمال الاجرامية التي مارسها منذ قرون وحتى الان والتي – كما يبدو – ستستمر حتى في المستقبل القريب . الا ان الشيعي العراقي المستلب والمخصي عنده اصرار عجيب على اعتبار (الاخر) من جماعته واهله ومنطقته , ولو جئت له بملايين الادلة العقلية والنقلية والتاريخية والواقعية والمنطقية بان (الاخر) هو من استهدفه بالعنف المادي من الابادة والتصفية والقتل والذبح والتهجير والاغتصاب والتعذيب , والعنف الرمزي من التشويه والتخوين والتكفير والسخرية والتهميش والالغاء , ولكنه يرفض ذلك رفضا قاطعا لاسباب عدة اههما :
1 – ان مواجهة (الاخر) الحقيقي تتطلب شجاعة حقيقية وجسارة واقعية , لايستطيع القيام بها الانسان المخصي والدوني , المتجاوز هويته والطاعن بها بالاساس .
2 – الخشية من طرح الاسم الحقيقي والعنوان الصريح للاخر السني او الاستبدادي او الارهابي ان يدخله بنطاق الاتهام بالطائفية , والمثقف الشيعي مستعد ان يتحمل الاتهام باي سلبية او منقصة شخصية او عائلية او اجتماعية او فكرية – كما يقول حسن العلوي – عدا الاتهام بالطائفية , لان فيها تجاوزا على الاب الميت وطعنا بوطنيته وعروبته .
3 – اظهار نفسه بمظهر المحايد والموضوعي والوطني والعروبي المترفع عن الهويات التقليدية والمذهبية اذا ترك (الاخر) السني الحقيقي – والعكس – فانه سيعد من قبل الاعلام الذي يحدد الراي العام والخطاب الثقافي والسياسي وتوجهات الانتلجنسيا العراقية المخصية والمازومة والمستلبة انسانا مترفعا ووطنيا حقيقيا وعروبيا اصيلا , اذا اعتبر (الاخر) – كما قلنا – من اهله ومنطقته وطائفته .
ان هذا الراي لايفسر باي حال من الاحوال ان تكون الجماعة الشيعية كتلة واحدة متراصة من التوجه السياسي والايديولوجي, وان ينصهروا في هوية اجتماعية وطبقية ومناطقية وعشائرية واحدة , لان ذلك ممتنع عقلا , فالتنوع والاختلاف سمة العصر وحيوية الجماعة ونضجها , ولكن يجب ان يكون هناك التزام علوي بمصلحة الهوية والجماعة , وعدم تخوينها واستهدافها والنظر اليها بدونية واستلاب , وان يكون التنوع والاختلاف ضمن اطارها ومصلحتها العامة وحريتها وتضامنها ومشاركتها بالسلطة السياسية بالادارة والحكم .