الكاتب : عبد المنعم الاعسم
الحديد، كل حديد، لا قيمة له في ذاته من دون تصنيع، وحين يُصنع كجهاز تبدأ فضائله ونذالاته.
قبل ذلك هو مادة صماء، محايدة، حتى حين دخلت عليها عبقرية الانسان قبل حوالي الفي سنة وجعلت منها آلة بخارية لقطع النقود.. فقد لاحظ مخترع الآلة الاسكندراني هيرون ان ثمة تلاعب في ذلك الجهاز، وثمة متلاعبين، وغش في سبل استخدامه، وذلك قبل ان تـُلهم تلك الالة العجيبة كتاب قصص الخيال العلمي ليتنبأوا باختراع الانسان الآلي، وقبل ان يتوصل العالم الامريكي إلمر سبيري الى اختراع الجيروسكوب من خردة الحديد المصقول عام 1913، فيما استطاع العالم جورج ديفول تقطيع المصقولات الى جزيئات غاية في الدقة ليصنع منها الالكترونيات والميكانيكا والبرمجيات.
مادة الحديد، مرة اخرى، صماء.. لكنها صارت، على يد اجيال من المخترعين، تؤدي وظائف لا يتكمن الانسان من إدائها، ومن بينها “آلات الاستشعار عن بعد” الامر الذي اصبح العراق(لسوء حظه) في حاجة استثنائية اليه مع سقوط الدكتاتورية للكشف عن المتفجرات التي تـُدس بالملابس وتحت مقاعد العجلات من قبل عصابات الارهاب المسلحة لتنظيم المجازر البشرية، لكن ذلك الحديد الخردة اتخذ اسماء ساحرة: جهاز الكشف عن العجلات ZBV السونار و جهاز كشف المتفجرات عن بعد SNIFEX و جهاز كشف المتفجرات ADE650 و وجهاز كشف المتفجرات عن قرب QSH100 وجهاز التشويش الذبذبي JAMMAR وجهاز كشف القنابل المطمورة، واختصر بكلمة “السونار” وقد ظهر بان كل تلك الرموز لا تعدو عن اكاذيب لـُفقت على عجل لسد حاجة العراقيين الذين كانوا بحاجة الى “معجزة” لدحر قوى الهمجة الوافدة المنفلتة.
بعد خمسة اعوام من الفشل صار للحديد السونار لسان فصيح يتحدث عن الشركات الوهمية التي زودت منعطفات الشوارع ومفارز الامن ومداخل المدن وبوابات مكاتب السياسيين والحكومة والمنطقة الخضراء باجهزة يقال انها كاشفة للمتفجرات، وعن الابطال والسماسرة الذين باعوا دم العراقيين في صفقات مشبوهة، وعن مكاتب ببغداد وبيروت ولندن تخصصت في تلفيق ابشع صفقة تورط فيها جنرالات وساسة ومسؤولون وحبربشية يتكلمون اللهجات اللبنانية والعراقية، والغريب في الامر ان الصفقة الوسخة لم تمر على مستشار انكليزي كان يعمل في وزارة الداخلية العام 2006 هو العقيد بول اولفليد الذي استشعر الفضيحة وكتب بوجوب مراجعتها ورفضها، ولم يسمعه احد.
قائمة الشركات المتورطة بالفضيحة طويلة، لكن لنتأمل اسماءها: واحة البادية. بروسك. العترة. الطف. اما قائمة المتورطين فيحسن ان نبدأ بهم من الاعلى، وكل الاصابع تشير اليهم.. وهم صامتون.
*******
“النذالة ليست صفة.. انها مستنقع”.
سوفوكلس