اسم الكاتب : وليد يوسف عطو
يؤكد البروفيسور ميثم الجنابي في كتابه الجديد :
(فلسفة الهوية الوطنية العراقية ) , ان من مفارقات العراق الحديث ( ان يتحول ماضيه ومستقبله الى مجهول ,بحيث يصبح موضعا للشكوك الجاهلة واليقين الاشد جهلا ,بمعنى ان يصبح ماضيه مادة للتامل الساذج والسرقة لتافهة للقوى السياسية العرقية والطائفية .كما يبدو المستقبل افاقا مظلمة لاولئك الذين لايمكنهم العيش دون السلطة بوصفها اداة الاستحواذ والنهب ).
ان الهوية العراقية بوصفها هوية حضارية – ثقافية ,تمتد من سومر وبابل صاحبتا الحضارتين الكونيتين ,مرورا بالحضارة الارامية – المسيحية وانتهاء بالحضارة العربية – الاسلامية ,قد جعلت من العراق كما يؤكدالباحث ميثم الجنابي كينونة تاريخية –ثقافية حرة في العقل والروح والضمير .
ان العراق صانع ذاته ! بمعنى انه ليس فقط لم يرتبط من حيث تكونه الذاتي وقدره التاريخي بقوة غير سواه ,بل وربما في هذه الصفة الذاتية من قيمة واثر عالميين .اذ لايعقل التاريخ العالمي من حيث مكوناته المدنية الاولى واصوله التاسيسية دون العراق .مما جعل منه بالضرورة هوية كونية .وتقف هذه الهوية على الدوام وراء حدوده الجغرافية – السياسية ونظامه المحتمل .الامر الذي جعل من اسمه ومغزاه ومعناه وقيمته شيئا واحدا .
وليس مصادفة كما يؤكد البروفيسور الجنابي ,ان تكون مراحل انحطاطه او تعرضه للهزائم مرتبطة دوما بالاقليات الهامشية ,كما جسدتها الدكتاتورية الصدامية بصورة نموذجية (اهل العوجة ).
فقد كانت الدكتاتورية الصدامية النتاج الخاص لصعود الراديكالية السياسية في مجرى القرن العشرين في العراق ,مما جعل منها القوة الاكثر تخريبا لمكونات الهوية العراقية بوصفها هوية تاريخية ثقافية ,وذلك بسبب طابعها السياسي – الحزبي البحت ,وانعدام تقاليد العقلانية والاعتدال ,مما جعل من نفسية وذهنية الراديكالية السياسية مصدر التحلل والتفكك الاجتماعي والوطني كلى كافة المستويات ..ان تفكيك الكل الوطني في العراق هو نتاج الزمن الشمولي الراديكالي ,وفيهما ينبغي البحث اولا وقبل كل شيء عن مقدمات الاحتلال وقدرته على تفعيل منظومة التفكك الوطني .وليس مصادفة ان يكون الاحتلال الامريكي للعراق ملازما لذروة الصعود الراديكالي لفكرة المحافظين الجدد , وذروة الانحطاط المعنوي للراديكالية التوتاليتارية البعثية (الشمولية ) والدكتاتورية الصدامية .
وقد كانت الحصلة النهائية للدكتاتورية الشمولية البعثية فقدان التاريخ بوصفه تراكما في المؤسسات والخبرة والتقاليد ,وانحطاط شامل في منظومة القيم ,وتفكيك كل مايفترض الوحدة في بنية الدولة والمجتمع الثقافة .وقد مهدت هذه النتائج للاحتلال ,وجعلت منه عنصرا اضافيا في توسع وتعمق منظومة التجزئة والانحطاط المادي والمعنوي للفكرة الوطنية , وهو سر الخراب اللاحق .بمعنى تلاشي كل التاريخ السياسي العراقي للاحزاب والقوى الاجتماعية عبر اندفاعها المغترب وراء المشروع الامريكي والقبول بالمشاركة الفعالة في ارساء اسس ( ديمقراطية العبيد ) ,واكثر من جسد هذه الصفة (والكلام للبروفيسور الجنابي ) الاحزاب السياسية الكردية .
اننا نقف الان امام وجود وفاعلية منظومة خفية اخذة في التكامل للنزعة الطائفية والعرقية .الامر الذي جعل من رذيلة التجزئة حقيقة سياسية .حالما تصبح الرذيلة حقيقة فان ذلك يعني بلوغ التجزئة حالة المنظومة الفاعلة في كافة نواحي الحياة .. بمعنى ان اغلب القوى السياسية الحالية تخون الفكرة الوطنية من خلال استغلال واقع التجزئة والتفكك الفعلي للهوية الوطنية العراقية .انها توظف هذا الواقع المؤقت بهيئة (حقيقة ) يجري رفعها الى مصاف الاسلوب (الواقعي )و (العقلاني ) للتحكم بالدولة ومؤسساتها .لكنه توظيف لايصنع في الواقع غير سموم الخطيئة …
تفترض هذه النتيجة النظرة المستقبلية عبر بلورة ملامح البديل العراقي المستقبلي ,اي بديل الرجوع الى الذات .
يؤكد البروفيسور الجنابي ان الاحتلال الخارجي هو استمرار للاحتلال الداخلي ,او الوجه الاخر له ولكن بقوة خارجية . ولكل مرحلة تاريخية نمطها الخاص في الاحتلال وتبريره … اننا نقف الان امام واقع يشير الى ان الاحتلال كان نتاجا لصعودالنزعة الامبراطورية الامريكية وانهيار العراق الداخلي .اذ يقف العراق امام حلقات مفرغة يدور ضمنها , هي حلقة ( تحريره ) من السلطة الصدامية واحتلاله كله ! ..فالامبراطوريات القديمة كانت تستند الى فكرة كونية ومركز موحد ,بينما الحديثة لايمكنها القيام بربط هذين المكونين في سلوكها العملي ,بسبب اولوية وجوهرية الفكرة القومية فيها .من هنا تحول النزعة الامبراطورية الى سلوك كولونيالي بحت لاقيمة له ولا اثر لمشاركة الاطراف .
لقد قامت الولايات المتحدة بالحرب على العراق من اجل جعل النفط سلطة وليس طاقة . بمعنى استغلاله بطريقة قادرة على التحكم باسيا واوربا عبر وضع الايدي الامريكية على منابع النفط , ومن ثم تغيير العالم العربي والاسلامي بالقوة من اجل بناء الانظمة (الديمقراطية )فيه . وقد بلور وليم كريستول هذه الفكرة في عبارته القائلة , بان الرسالة الامريكية ومهمتها تبدا في بغداد لكنها لاتتوقف فيها . اننا نقف امام حالة عادية لسقوط الامبراطورية ونزوعها غير العقلاني .فمن الناحية التاريخية تمثل الامبراطورية الامريكية اخر الامبراطوريات . الامر الذي يجعلها اسرع افولا .ومن ثم اتعسها حظا ! .اما من الناحية الفعلية ,فانها اشدالامبراطوريات جهلا ,واكثرها تعنتا ,واعمقها تناقضا , واوسعها رياء ,واكثرها ايغالا في رمال الطوباوية النفعية ,
صعود نفسية وذهنية المؤقت
لقد برزت منذ العهد الصدامي الديكتاتوري فكرة المؤقت ,وانتقلت الى (العراق الجديد ) بوصفها الصيغة الرمزية للطفيلية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والاخلاقية الحاكمة والمتحكمة في السلطة والدولة .
فقد كان حكم البعث وصدام يعتمد على الفقرة (ا ) من المادة (42)من ادستور المؤقت والتي تبيح لرئيس مجلس قيادة الثورة اصدار او الغاء اي تشريع يراه مناسبا .
يؤكد البروفيسور ميثم الجنابي ان الثابت او مطلق الدكتاتورية الشمولية هو المؤقت في كل شيء .مما جعل منها مجرد الة مخربة لكل شيء وفي كل شيء .ومن هنا انتقال نفسية وذهنية والية المؤقت بكامل عتادها , كما نراه بوضوح في عمل الادارات الموروثة .فهي نموذج للفساد والافساد والخراب والتخريب يستحيل معها بناء العراق الجديد ,كما يستحيل بناء دولة قوية على اسس هشة وارساء اسس الفضيلة على الرذيلة .
يؤكد البروفيسور الجنابي ان العراق لم يعرف في تاريخه الحديث فكرة ونموذج الحكم الثابت .وفي الدكتاتورية البعثية تجسدت فيها فكرة (المؤقت ) الذي تحول الى (ثبات دائم ) . وفي هذا تكمن احدى السمات الجوهرية للخراب السياسي والاجتماعي الذي تعرض له المجتمع والدولة .الامر الذي كان يسحق بصورة متتالية فكرة التراكم ,بوصفها جوهر التقدم والتطور العقلاني والعملي للدولة والمجتمع .اذ لايعني (الدستور المؤقت )و (القانون المؤقت ) سوى الصيغة الاثر تدميرا للدستور والقانون .ويتحول الى التجريب الخارج على القانون الى اسلوب وجود الاشياء , وتؤدي هذه الممارسة بالضرورة الى الخروج على كل قانون ,مما جعل من العنف والاكراه اسلوبا لتصنيع وهم الثبات الدائم .
ان ارتباط (المؤقت ) بفكرة ( الغنيمة ) و (الرهينة )ادى الى تاسيس المحاصصة المبنية على طائفية سياسية مغلقة ,وهي ظاهرة شكلت فيها الاحزاب القومية الكردية احد المتحمسين والعاملين على دعمها وتاييدها بكافة الاشكال .
محنة الكرد الفيليين
سالت صديق من الكرد الفيليين لماذا لاتنتقل للسكن والعيش والعمل من بغداد الى اربيل او السليمانية ؟
اجابني : ان الاكراد يحسبونني على العرب ويقولون لي انك لست كرديا ! وبالمقابل فان العرب في وسط وجنوب العراق يقولون علينا اننا اكراد ولسنا عربا !وهذه محنة اذ لسنا نملك سندا او هوية نستند اليها .واضاف ان صدام حسين استخدم اسلوب الضد – النوعي في حربه ضد اران .فقد استخدم شيعة العراق لقتال شيعة ايران واضاف ان اقليم كردستان خلال السنوات الخمس القادمة ستصبح ايراداته من السياحة والاستثمارات اكثر من ايراداته من النفط والغاز .وبذلك سيصبح هناك تنازع على هذه الثروات بين سلطة الاقليم وبين الحكومة الفيدرالية في بغداد بالاضافة الى تركيا وايران .وبالتالي فان اية حرب قادمة سنصبح نحن الكرد الفيليين وقودا لها وسيتم جعل الكردي يقتل اخاه الكردي وسوف اضطر لحمل البندقية لقتال اخي الكردي او العربي .اننا لانملك جهة نستند اليها ولا هوية واضحة رغم اننا نسكن العراق منذ ازمان ساحقة .
هذه دعوة لانصاف الكرد الفيليين الذين لم يحصلوا على الجنسية العراقية ,ولم تعاد لهم املاكهم المصادرة .وهذا يبين النتائج الكارثية لازمة الهوية العراقية .
الخاتمة
من اجل فهم فلسفة الهوية الوطنية العراقية (الاستعراق)باعتبارها هوية حضارية وثقافية وليس هوية عرقية .وهي هوية وثقافة متراكمة عبر التاريخ من سومر وبابل واشور ,مرورا بالحضارة الارامية المسيحية وصولا الى الاسلامية – العربية .
لانستطيع فهم كل هذا التراكم الثقافي والحضاري والتاريخي الذي نراه في بيت الطين السومري والبابلي (الصريفة )وفي التنور السومري والذي يستعمله العراقيون الى الان ,وفي الكوفية التي تحمل نقشة شبكة صيد السمك السومرية ,وفي الهريسة السومرية التي انتقلت الى شيعة العراق ,وفي فكرة اللطم والبكاء ومراسيم العزاء وفي فكرة المخلص (المسيح المنتظر )و (المهدي المنتظر )الموروثة من السومريين والبابليين .اقول لايمكن فهم هذا التراكم الثقافي الا من خلال علم الانثروبولوجيا , وذلك لكي نستطيع فهم الهوية الوطنية العراقية .
على المودة نلتقيكم …