اسم الكاتب : وليد يوسف عطو
يؤكد البروفيسور ميثم الجنابي في كتابه الجديد :
(فلسفة الهوية الوطنية العراقية ):ان الانقسام والتجزئة الطائفية في العراق ظاهرة لها جذورها ومقدماتها التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية , التي يمكن ارجاعها الى مرحلة مابعد سقوط بغداد في منتصف القرن الثالث عشر حتى بداية ظهوره الجزئي الجديد في بداية القرن العشرين .فان اعادة ترسيخها في مرحلة التوتاليتارية ( الشمولية )البعثية والدكتاتورية الصدامية قد دمر كل القيم المتراكمة في تاريخ الدولة العراقية الحديثة . مما ادى الى ارجاع العراق الى بداية مرحلة انتقالية جديدة .
لكن الممارسة العنيفة للطائفية السياسية الجديدة من مذهبية شيعية وعرقية كردية قد اخذ يصيب بعدواه الجميع ويجبرها على التخندق وراء طوائف ماقبل الدولة . وهي بذلك تعيد انتاج الصدامية من حيث كونها خروجا على منطق الاستعراق ( الهوية الوطنية العراقية ) وتفريغا للتاريخ واجترارا للزمن العابر , اي للمؤقت فيه .وتتميز الطائفية السياسية الشيعية بالصفات التالية :
اولا : كونها تشكل نكوصا عن مبدا التشيع .
ثانيا :كونها تشكل خروجا على منطق الاستعراق .
ثالثا:كونها تشكل خضوعا لنفسية الاقلية وذهنيتها .
ان الطائفية المرفوضة من جانب السلطة الصدامية البائدة اخذت تبرز الى السطح بوصفها برنامجا ورؤية سياسية اكثر مما هي رد فعل .ويشير هذا الواقع الى فاعلية الطائفية بمعناها السياسي كما هو جلي في ظهور اسم (المثلث السني ).ومع انه مثلث وهمي من حيث الانتماء العقائدي والمذهبي ,لكنه فعلي من حيث الزمن السياسي والاداري للسلطة واجهزتها القمعية على امتداد عقود طويلة في العراق .
ان التلازم الداخلي بين الحركة القومية الكردية والاستعداد الذاتي لقبول فكرة الطائفية ينبع من الضعف البنيوي للحركة القومية الكردية , الذي يجعلها اكثر ميلا لنفسية وذهنية التجزئة . فهوالوسط الذي تشعر فيه بنفسها على انها ( عنصر مكونا ) و ( طرفا فاعلا ) و ( قومية متميزة ) و ( قوة لايستهان بها ), اي كل المكونات التي تجعل من لعبة المحاصصة والتجزئة المفتعلة للعراق جزء من الرؤية الاستراتيجية للحصول على الحقوق والمكاسب . بينما لاتتعدى هذه الممارسة اكثر من اوهام ,لكنها اوهام مدمرة . في المقابل اصبح للحركات السياسية الشيعية الماسكة للسلطة بنية متحجرة واخذت ترتد الى الوراء بمقاييس المعاصرة بعد سقوط الصدامية .
واعطت الانتخابات من حيث نتائجها السياسية لهذا الارتداد دفعة كبرى الى الامام ,اي الى الخلف ! .فقد عمق هذا الانتصار الساحق للانحطاط الاجتماعي والثقافي في العراق من امكانية استفحال العناصر الشمولية في الحركات الشيعية السياسية .اعطى لها زخم المبادرة الخشنة في اعادة انتاج الطائفية , ولكن من منطلق الفهم المغرور بنتائجها . بمعنى انتهاك المضمون الاجتماعي للانتخابات من خلال تحويل نتائجها الى جعل الشيعة طائفة سياسية بالشكل الذي جعل من اصوات الشيعة رد فعل واحتجاج على زمن الصدامية . في حين ان اية محاولة لجعل الشيعة طائفة في العراق يعادل الحكم عليها بمعايير ونفسية الاقلية . مع مايترتب على ذلك
من ممارسات المؤامرة والمغامرة .مما يجعله في تناقض مع فكرة وواقع الاغلبية .وذلك لان منطق الاغلبية هو العموم ,بينما الطائفية هي نفسية الاقلية . ومالم يجري تذليل هذا الخلل من خلال نقل الحركة الشيعية السياسية العراقية مصاف الرؤية الاجتماعية والوطنية ( العراقية)والعربية .فانه سوف يؤدي بالضرورة الى السير صوب الانعزال والتقوقع , او الانهماك اللامعقول في تصنيع طائفية سياسية .وكلاهما لاعلاقة جوهرية له بالعراق والعرب والتشيع العراقي .
ان الوحدة الوطنية والوفاق الوطني ليست لعبة الوفاق السياسية ولا حتى المساومة السياسية بافضل اشكالها . بل النتاج الموضوعي والضروري لتكامل الشعب والدولة والمؤسسات الحقوقية والشرعية في عملية بناء الهوية الوطنية .وبالتالي فمن النتيجة المتراكمة فيها يمكن ان يكون ايضا نوعا من الاجبار الشرعي على ممارستها والوقوف امام نتائجها .
ان فشل المشروع الامريكي للديمقراطية ليس نتاجا لنية سيئة او سوء فهم او عدم دراية وجهل وغيرها , بقدر ما انه الخاتمة الطبيعية لكل مشروع خارجي .ان حقيقة البدائل المستقبلية الكبرى ينبغي استمدادها من المستقبل .ولاعلاقة لهذا الافق بالقوى الاجنبية الا بالقدر الذي يستجيب لمصالحها الانية والبعيدة المدى .
ويذكر البروفيسور ميثم الجنابي النقاط التالية :
1 – ان اجمل وافضل المشاريع الاجنبية تبقى غريبة من حيث المقدمات والنتائج .
2 – ان المشاريع الاجنبية لايمكنها التوفيق بين رؤيتها الخاصة ورؤية الاخرين . وبالاخص في ظل اختلافات جوهرية في التاريخ الثقافي والسياسي والتطور العام .
3 – ان المشاريع الاجنبية هي اما املاءات وهو الاتعس , واما سياسة المصالح الضيقة وهي الاكثر تخريبا .
4 – ان المشاريع الاجنبية هي تؤشر على خراب ذاتي , ودليل على اختلال في توازن القوى . وبالتالي لايمكن الاعتمادعليها .
ان حالة الانحطاط الشاملة التي يمر بها العراق اليوم يكشف عن ظاهرة التقوقع الذهني والنفسي , والانغلاق والانعزال الطائفي والقومي والعرقي ,وهو مايسميه البروفيسور الجنابي بظاهرة ( المعلبات ).
فالمعلبات تحتوي على حوافظ يمكنها البقاء لفترة معينة سالمة سليمة . ولكنها حالما تصبح جاهزة للاستعمال ,فانها لاتحتمل البقاء طويلا …. من هنا الفساد السريع لاغلب القوى السياسية العراقية المعارضة للسلطة الصدمية السابقة .
العودة الى العراق تتمثل بالعودة الى الذات
ان تحقيق الهوية الوطنية العراقية يفترض قبل كل شيء الاتفاق على عقد اجتماعي جديد يتجاوز ويذلل ذهنية التجزئة ونفسية الغنيمة السائدة عند اغلب القوى السياسية .ويؤكد الجنابي على ضرورة ان يكون الاستعراق الحد الاقصى للقومية ,ومعناه التلقائية الضرورية للتطور الاجتماعي في الرؤية القومية للقومية الاجتماعية والحركات الفكرية والاحزاب السياسية .وليس حصرها في اطار عرقي او قومي ضيق .بمعنى تاسيس الابعادالثقافية للاستعراق في مجال الوطنية والقومية والدين والاجتماع . وذلك لان لكل من هذه المجالات بعدا ثقافيا يمكن تحقيقه من خلال غرس الفكرة القائلة ,بان القومية والعرق هما عوارض جزئية ومكونات نسبية في العراق . غير ان ذلك لايعني الدعوة لتعارض مفتعل مع الامتداد القومي لمن يعيش فيه .فالعرب للعروبة ,والاكراد للكردية , والتركمان للتركية وما الى ذلك .
وينبغي لهذه الفكرة ان تنبع من ادراك ثقافي لا من منطلق السياسة العابرة . ان الاستعراق هو فلسفة الحد الادنى الضروري والعام للوحدة الوطنية . وهي الفكرة القادرة على توفير الشروط الضرورية لوحدة الدولة والمجتمع . من هنا ضرورة تفعيل هذه الفكرة ضمن مااسماه البروفيسور الجنابي بالمرجعية الثقافية للوطنية الكبرى في العراق او الاستعراق .وذلك من خلال التاسيس للفكرة القائلة ,بان حقائق الارض هي حقائق الثقافة فقط وليس وقائع الانتشار السكاني , اي ان الحفريات الممكنة هنا هي حفريات الذاكرة التاريخية المدونة في العمارة والفن والمدن والانهار والسدود والمزارع والكتابة والفن والنقوش (علم الانثروبولوجيا )وليس بقايا العظام والجماجم ومدى انتشارها . فهي الرؤية التي تحرر الجميع من حق الملكية القومية والعرقية للارض في العراق . وتنفي امكانية ظهور مشكلة (الارض المتنازع عليها )او (الاراضي المختلف عليها ) او ( الاراضي المستقطعة من كردستان ) , او المصطلح الجديد (المناطق الكردستانية خارج الاقليم ).انظر الى لاعقلانية هذا المصطلح (والتعقيب لكاتب المقال ) . ( مناطق كردستانية ) والنقيض لها (خارج الاقليم ),وما شابه ذلك من نماذج الانتهاك الفض للقانون والحقائق التاريخية والثقافية والوطنية . اما الخروج على المرجعية الثقافية للوطنية الكبرى في العراق او الاستعراق فهو رجوع الى مختلف نماذج واشكال البنية التقليدية والبدائية من عرقية وطائفية وجهوية , ومن ثم فهو خروج على منطق الهوية الثقافية للعراق وعلى مكونات وجوده الجوهرية . لم يجري تمثل الحكمة التاريخية من قبل الحركات القومية بشكل عام . اذ تبرز ملامح هذه الظاهرة في طبيعة الصراعات القائمة حاليا بين الاحزاب القومية الكردية والتيارات العراقية الاخرى .حيث نعثر عليها حتى في في الكلمة نفسها ,عندما يجري الحديث عن (الاكراد ) و (العراق ) . وهي حالة انفصام واقعية لها اسبابها وتتحمل مسؤوليتها وبمستويات متباينة جميع القوى السياسية والاجتماعية في العراق . الا انها بدات تتركز في الحركة القومية الكردية ومطالبها الضيقة في استثارتها لنفسية وايديولوجية الخروج على الاستعراق من حيث كونه فلسفة الفكرة الوطنية العامة. اما النتيجة الحتمية لذلك , فهي الخروج على الحكمة الثقافية والسياسية لتاريخ العراق , وبالتالي الخروج على القانون بالمعنى التاريخي والثقافي والحقوقي ايضا .وليس المقصود بالخروج على الحكمة الثقافية لتاريخ العراق سوى الجهل بقيمة التاريخ الثقافي بالنسبة لبلورة وعي الذات التاريخي .
كل ذلك يجعل من الضروري النظر الى التاريخ العراقي العام والحديث بشكل خاص على انه ليس مجرد فكرة وعبرة ,بل شرط معاصرة المستقبل ايضا , بفعل الماساة الشاملة التي لحقت به جراء الخروج على مضمون الحكمة التاريخية السياسية المتراكمة فيه.وفي هذا يكمن سبب صعود الهامشية الاجتماعية والراديكالية السياسية والاقلية الطائفية الى السلطة والعمل بمقاييسها الضيقة .اماالنتيجة الجلية لذلك فهو خروج تام على القانون .وهي نتيجة لم تتصف بها الشمولية البعثية والدكتاتورية الصدامية فقط , بل ومرشح لها كل من يتجاهل او يجهل نتائجها في حال الخروج من الحكمة الثقافية – الساسية في العراق .وبالتالي فان للتحصن الفكري والسياسي فيها يفترض تاسيس مرجعية الاصلاح الثقافي بوصفها المكون الباطني لفلسفة الهوية العراقية البديلة .
على المودة نلتقيكم …