اسم الكاتب : عبد الخالق حسين
أعرف مسبقاً أن هذا المقال سيضعني في خانة المهووسين بـ(نظرية المؤامرة) من قبل المدافعين عن المؤامرة. فنظرية المؤامرة وُضِعت أساساً لإخفاء دور المتآمرين في الدسائس، والفتن، والصراعات السياسية وخراب الأوطان.
يواجه العراق اليوم أخطر مؤامرة قذرة في تاريخه، دُبرت بليل من قبل آلهة الشر، لا تقل خطورة عن المؤامرة التي اسقطت جمهورية ثورة 14 تموز المجيدة في انقلاب 8 شباط 1963 الدموي الأسود، المؤامرة التي شاركت فيها نحو 40 جهة داخلية وخارجية متناقضة فيما بينها، لا يجمعها أي جامع سوى التخلص من الحكومة الوطنية العراقية بقيادة الوطني النزيه الزعيم عبدالكريم قاسم. تلك المؤامرة التي ضمت من سيد محسن الحكيم إلى كميل شمعون، ومن المخابرات الأمريكية إلى السفاك الإيرانية الشاهنشاهية، وحكومات إقليمية وعشرات المنظمات والشخصيات المتنفذة المعروفة بعدائها للعراق.
فهذا التآمر الخبيث الذي يواجهه العراق اليوم خُطِطَ له بمنتهى الخبث والذكاء والدهاء والعبقرية، بدليل أن في المؤامرات السابقة، كان هناك خط واضح يفصل بين الأشرار المؤيدين لها، والأخيار المناهضين لها، خط واضح بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين الأخيار والأشرار. أما مؤامرة اليوم، فقد التبس فيها الأمر على أغلب الناس، حيث استخدموا ضحايا من فقراء الشيعة، وفي المحافظات الشيعية فقط ، إلى جانب بغداد العاصمة التي هي الأخرى معظم سكانها شيعة، كأدوات تنفيذ لتدمير أنفسهم، وتدمير العراق باسمهم. كما استخدموا مشاكل مزمنة، ونقاط ضعف واضحة تعاني منها الحكومة مثل (الفساد، وتردي الخدمات، والبطالة)، لتبرير إثارة الاضطرابات لإسقاطها بدلاً من إصلاحها. فباسم هذه المطالب المشروعة أثاروا الشارع العراقي الشيعي، وادعوا أن غايتهم التخلص من حكم الإسلاميين الفاسدين، والمحاصصة والطائفية…الخ، وإقامة نظام علماني ديمقراطي رشيد يستجيب لاحتياجات الشعب. لذلك نجح المتآمرون في جذب العديد من التقدميين العلمانيين وغيرهم من الذين لا يشك بوطنيتهم، بينما الحقيقة يريدون إعادة العراق إلى حكم ما قبل 2003، فهم يسيرون نحو الهاوية وهم نيام.
لقد نجحوا بشق الشعب من القمة إلى القاعدة وحتى داخل العائلة الواحدة، أناس لا يشك بوطنيتهم فيهم أكاديميون من الوزن الثقيل، كنا معهم حتى وقت قريب في خندق واحد، وإذا بهم يقفون اليوم وبكل حماس، في خندق السعودية، ودولة الإمارات، وإسرائيل، وفلول البعث الساقط، وكل من يريد بالعراق شراً، باسم التخلص من النفوذ الإيراني وحكم الإسلاميين الفاسدين. طبعاً المقصود بالإسلاميين الشيعة فقط. وهذا يعني أن الثقافة والوطنية والتقدمية واليسارية لم تمنح الإنسان المناعة ضد الخديعة والوقوع في الفخ. والسؤال هنا: أي منا مخدوع؟ نحن أم هم؟ فمن جانبنا نعتقد أنهم هم المخدوعون، ولنا أدلتنا التي نشير إليها في سياق هذا المقال.
نعم، هناك خطة محبوكة بمنتهى الدقة، ترافقها حملة إعلامية واسعة وخبيثة لنشر الالتباس والبلبلة الفكرية وتشويش العقول، وتضليل الناس. فقد استخدموا في أول الأمر مطالب مشروعة، وبعدما نجحوا في تثوير الشارع العراقي الشيعي، نعم الشيعي فقط، وليس الكردي ولا السني، وكأن هذه المناطق لا يوجد فيها فساد ولا بطالة، ولا تردي الخدمات. ولما استجابت لهم الحكومة ووعدت بتحقيق كل هذه المطالب المشروعة وأكثر، رفضوا وقف التظاهرات وما رافقها من أعمال عنف وفرض الإضرابات بالقوة، وطرحوا مطالب تعجيزية الغرض منها إرباك السلطة، و خلق فوضى هدامة عارمة لإشعال حرب أهلية لا تبقي ولا تذر، المستفيد منها الدول الاقليمية الحاقدة على العراق مثل السعودية والإمارات وغيرهما. وهذا دليل واضح على أن الغرض من هذه التظاهرات والإضرابات ليست المطالب المعلنة عنها في أول الأمر، بل إسقاط الحكومة، وإلغاء الديمقراطية والدستور، وكل ما تحقق من مكاسب بعد 2003، وبث روح العداء ضد إيران، وجر العراق إلى المحور المضاد لها، وفرض الحصار الاقتصادي عليها، تلبية لمطالب أمريكا وإسرائيل والسعودية ودولة الإمارات.
والجدير بالذكر، أني استلمت قبل أيام عبر بريدي الإلكتروني خاطرة للفنان السوري اللامع دريد لحام قال فيها: ((أمريكا سابقاً نكحت السعودية فأنجبت طفل لقيط اسمه (القاعدة)، والآن نكحت أمريكا السعودية ثانية فأنجبت لقيطاً آخر اسمه (داعش). فمتى العاهرة السعودية تتوب وتأخذ حبوب منع الحمل حتى لا تنجب لقطاء جدد يخربون الأوطان؟)).
فرد صديق مؤيد لهذه التظاهرات، أنه يشك بأن دريد لحام قال مثل هذه البذاءات!، فأجبته: سُئِلَ مظفر النواب مرة لماذا يستخدم كلمات بذيئة في وصف الحكومات العربية، فأجاب بحق، أن وضع هذه الحكومات أكثر بذاءةً، لذلك لا يمكن وصفها بغير هذه العبارات. لذا أعتقد أن ما قاله دريد لحام ينطبق تماماً على واقع السعودية.
فالسعودية وحليفاتها الخليجيات مثل البحر، يذرفون اليوم دموع التماسيح على مظلومية شيعة العراق، بينما يعاملون الشيعة من شعوبهم كمواطنين من الدرجة العاشرة. فقبل سنوات عندما انفجرت تظاهرات الشيعة في البحرين أرسلت السعودية قواتها فسحقتهم بمنتهى الوحشية.
وبدورنا، ففي الوقت الذي ندعو فيه إيران وأمريكا والسعودية وغيرها من الدول، باحترام السيادة الوطنية العراقية، وعدم التدخل في الشأن العراقي الداخلي، فنحن لا ندعو إلى معاداة أي من هذه الدول، لأن معاداتها تعني المزيد من الحروب وعدم الإستقرار، والمآسي للشعب العراقي وشعوب المنطقة. لذلك ندين بقوة كل من يؤجج المشاعر العدائية ضد الجارة إيران بدوافع طائفية وعنصرية قذرة، فعلاقتنا مع إيران ضاربة جذورها في العمق دينياً، وتاريخياً وجغرافياً لا يمكن الفكاك منها. وفي هذا الخصوص يرجى مراجعة المقال القيم للباحث الإسلامي الدكتور غسان ماهر السامرائي الموسوم (عقدة إيران في العراق- في هامش هذا المقال)
علم النفس في خدمة التضليل
ظاهرة أخرى جديرة بالذكر، وهي أن المحرضين على هذه الاضطرابات يستخدمون علم النفس لتشويه صورة كل مسؤول عراقي ومهما كان نزيهاً، وعلى سبيل المثال، كان الفريق عبدالكريم خلف يتمتع بسمعة جيدة لدى الجميع بسبب مواقفه الوطنية في تصريحاته العقلانية، ولكن ما أن تم تعيينه كناطق رسمي عن القائد العام للقوات المسلحة، حتى وراحوا في محاولة يائسة لتشويه صورته وتجريده من مصداقيته، وذلك بوضع صورته إلى جانب صورة الدجال البعثي محمد سعيد الصحاف، الناطق الرسمي عن حكومة البعث الصدامي أيام الحرب التي أطاحت بالنظام، والذي لُقِّب في الغرب بـ(Comical Ali)، لما أثاره من سخرية في تصريحاته. هذه العملية البافلوفية (نسبة إلى العالم الروسي بافلوف)، تسمى في علم النفس بالترويج (أو التسقيط ) عن طريق الربط (Advertisement by association). تذكروا مقولة غوبلز: (اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس، وحتى أنت تصدق كذبتك).
من هم المخدوعون؟
هل المحرضون على تدمير العراق، أم نحن الذين نطالب بتحقيق المطالب المشروعة والإصلاحات المطلوبة التي وعدت الحكومة بتنفيذها؟ في محاولة منهم لتجميل صورة التخريب الذي يواجهه العراق اليوم، أسبغ مؤيدو هذه المؤامرة عليها أسماءً ثورية رومانسية جذابة تدغدغ مشاعر اليساريين وغيرهم، مثل: “مظاهرات الفاتح من أكتوبر”، والتي تحولت إلى “انتفاضة أكتوبر”، ثم إلى “ثورة أكتوبر” تيمنا بثورة أكتوبر الروسية البلفشية؟! وفي هذه الحالة، من هو لينين الثورة ومن هم فلاسفتها وكتابها؟ هل هو مقتدى الصدر؟ وإذا كان الصدر، فهنيئاً لكم! فالصدر هو أيضاً إسلامي وشيعي، وكانت له حصة الأسد في جميع حكومات ما بعد 2003، لذا لا بد أن يكون لتياره دور في الفساد، وهو الذي راح يتنقل بولائه تارة لإيران وأخرى للسعودية، وتغيرت هتافاته من (كلا كلا إمريكا) إلى (إيران برة برة).
لذلك، فنحن نمر في مرحلة تُستخدم فيها شعارات الخير لمحاربة الخير، و رفع شعارات ومطالب وطنية مشروعة لتدمير الوطن والوطنية. وفي هذا الخصوص يذكر المفكر الإيراني الراحل علي شريعتي في كتابه (دين ضد الدين)، كيف نجح بنو أمية بقيادة معاوية وعمرو بن العاص، باستخدام الإسلام وقرآن الإسلام في محاربة الإسلام الحقيقي الذي كان يمثله الإمام علي، حيث رفعوا المصاحف على أسنة الحراب صارخين (لا حكم إلا للقرآن). فالتبس الأمر على أغلب صحابة النبي، إلى أي معسكر ينضمون. وعن هذا الالتباس ينقل لنا طه حسين أن صحابياً جاء إلى الإمام علي ذات يوم سائلاً: ((أيمكن أن يجتمع الزبير وطلحة وعائشة على باطل؟ فأجابه الإمام قائلاً: “إنك ملبوس عليك، إن الحق والباطل لا يُعرفان بأقدار الرجال، اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله.”))(طه حسين، الفتنة الكبرى، ج2، ص 40).
وما أشبه اليوم بالبارحة؟
لقد التبس الأمر حتى على المثقفين العراقيين وأكاديميين تقدميين، ومنهم يساريون، بمن فيهم الحزب الشيوعي العراقي، نراهم اليوم يشاركون البعثيين، والسعودية وغيرها من الدول الخليجية في دعمهم و تأييدهم الحار لهذا التآمر، بل ويطالبون بتدويل هذه التظاهرات، وتحريضهم لصب المزيد من الزيت على النيران المشتعلة. فمتى كانت السعودية الوهابية حريصة على مصلحة الشعب العراقي، ناهيك عن مصلحة شيعة العراق المحرومين من الخدمات والوظائف بسبب فساد حكومتهم “الشيعية”؟ نعم الفساد متفشي في جميع مفاصل الدولة، ويحتاج إلى علاج جذري بالعملية الجراحية الدقيقة لإنقاذ المريض، وليس بالعملية القصابية التي تقتل المريض كما يريد المتآمرون.
لقد التبس الأمر على العقل الجمعي العراقي، فنحن لا نعتقد أن السعودية الوهابية تنتصر يوماً لحقوق الشعب العراقي ناهيك عن الشيعة المحرومين. وبالنسبة لنا، صار الموقف واضحاً، إذ كما قال إمام المتقين: “إعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله.” وقال أيضاً: “حين سكت أهل الحق عن الباطل، توهم أهل الباطل أنهم على حق.”
ألا هل بلغت؟ اللهم إشهد.