نوفمبر 22, 2024
E2E6EE49-C729-45A3-80DA-0B8BCE0185D9

اسم الكاتب : عبد الخالق حسين

بعد نشر مقالي الأخير الموسوم (العراق بين سندان أمريكا ومطرقة إيران)(1)، استلمت العديد من التعليقات القيمة، من بينها تعليقاً من صديق جاء فيه أنه قرأ كتابًا بعنوان (العرب من وجهة نظر يابانية)(2)، لكاتب ياباني متنور اسمه نوبو اكي نوتو هارا، قضى اربعين عاما يتجول في مصر، والتقى الأدباء والكتاب العرب، وميز بين كتّاب السلطة (الباقون) وكتّاب الشعب (الزائلون)، والقابعون خلف القضبان، أو المقيمون في المنافي. في معرض تحليله لأسباب عدم نهوض العرب، وفي اجابة له على السؤال الذي طرح عليه من قبل أصدقائه من الكتاب والأدباء العرب، كيف استطاعت اليابان ان تنهض بعدما دمرت بالكامل من قبل أمريكا، وهي تحتفظ بأفضل العلاقات مع امريكا فأجاب:
– عملنا مراجعة شاملة لتشخيص الأخطاء،
– عملنا على تصحيح الأخطاء ووضعنا الخطط الكفيلة لعدم تكرارها،
– لم ننقاد الى عواطفنا في التعامل مع أمريكا، بل بحثنا عن مصالحنا اولا في التعامل معها، ووضعنا عواطفنا جانبا.
وهنا أشار الى العرب قائلاً: مشكلتكم وأحد اهم الاسباب لعدم تطوركم هو: عدم التعلم من أخطائكم”.
ويضيف الصديق: “تدكرت هذه الملاحظة وأنا اقرأ لكً أن (عادل عبدالمهدي لم يتعلم من خطاً المالكي وراح ينصاع لضغوط ايران و مليشياتها…الخ). ويضيف الصديق: “نعم انها مشكلتنا الأزلية.. لا مراحعة لمسيرة السلف الخاطئ…. ولا تشخيص للخطأ… ولا التعلم منه والتخطيط لعدم تكراره …مع خالص الود)) انتهت رسالة الصديق مشكوراً.
***
و في حوار ملتزم ضمن مجموعة نقاش من المثقفين العراقيين، بعثتُ تعليقاً تضمن هذه المقارنة بين اليابان والعراق، وأننا نسجن أنفسنا في الماضي ونمجده، بينما المطلوب منا استخلاص الدروس والعبر، والتعلم من أخطائه لمنع تكرارها. وكنت قد ألقيت اللوم على العراقيين فيما حصل من فساد وأعمال فوضى وخراب بعد 2003، إلا إن أغلب المساهمين في النقاش ألقوا اللوم على أمريكا، وخاصة ممثلها الحاكم المدني بول بريمير، وأعادوا نفس اللازمة التي مفادها، أن أمريكا احتلت العراق لا لسواد عيون العراقيين، ولا لتحريره من حكم البعث الصدامي الجائر، بل لتدمير الدولة العراقية العظيمة خدمة لإسرائيل…الخ. وكأن صدام كان فعلاً يشكل خطراً على إسرائيل…!!

مع اعتراف أحد الأخوة المعلقين بأن ((الفساد قد بدأ في عهد صدام والذي كان على شاكلتين: الأولى بيد صدام حصراً، والذي كان يوزع الأموال والمكارم والبيوت والسيارات ..الخ، بإرادته الشخصية حصراً، وعلى هواه، والويل لمن يعمل خارج هذا النظام. والثانية: ما تفشى في سنوات الحصار بين الكثير من الموظفين، ولكن بمبالغ بسيطة (مثل عشرة آلاف دينار لتمشية معاملة متلكئة)، وأصبح هكذا فساد عرف و عادي وحسب إمكانية المراجع. وكانت الأجهزة الأمنية تغض النظر عن ذلك الفساد بسبب ظروف الحصار القاتلة، والتي انبسطت على عموم العراق حينئذٍ….أما الفساد ما بعد صدام فقد حصلت نقلة نوعية بالمستوى المالي عمودياً وبمدى انتشاره افقياً…فكان بريمر كمن سكب الوقود على الجمرات فالتهبت وانتشرت النار وانتقلت الى كل مرافق الحياة. فحتى المعلمة لم تعد تدرِّس بالمدرسة وعندئذٍ يضطر أهل الطفل لدفع الرسوم لتلك المعلمة لغرض الدروس البيتية… وهكذا تطور خطير يتحمل وزره الأمريكان.)) انتهى.

وأود أن أضيف معلومة أخرى عن الفساد في عهد البعث وهو: أن صدّام خاطب القضاة يوماً ونصحهم أن يكتفوا بذاتهم، بمعنى أن يقبلوا الرشوة ليتمكنوا من تدبير حالهم. إضافة إلى الحملة الإيمانية المزيفة، وإحيائه العشائرية، حيث ترك الحكم لشيوخ العشائر في حسم القضايا الجنائية والحوادث وغيرها.
وأنا إذ أتفق مع الصديق في أغلب مما تفضل به، إلا إن نقطة الخلاف معه ومع الأخوة الذين أيدوه في كون كل هذا الفساد أسسه الحاكم المدني الأمريكي بول بريمير.

أعتقد إلقاء اللوم على الأمريكان في الفساد غير صحيح، لأنه في رأيي تقع مسؤولية الفساد على عاتق العراقيين أنفسهم، وبالأخص حكم البعث الساقط، وهذا ليس دفاعاً عن أمريكا معاذ الله، فهذه تهمة شنيعة في هذا الزمن الأغبر، بل أرى من الواجب إعمال عقولنا في قراءة الواقع، وكي نتوصل إلى تشخيص صحيح للعلة، وبالتالي إيجاد الدواء الناجع لأمراضنا المزمنة.

والسؤال هو، كيف استطاع ممثل أمريكا في العراق، (بول بريمير)، أن يحيل أغلب العراقيين إلى فاسدين ومرتشين بعصا سحرية، وبمجرد أن قال لهم: (افسدوا ففسدوا) على غرار القدرة الإلهية: (كن فيكون)، بحيث حتى المعلمة في المدرسة الإبتدائية صارت لا تهتم بطالباتها “إلا بعد أن يضطر أهل الطفل لدفع الرسوم لتلك المعلمة لغرض الدروس البيتية ؟” ولماذا لم تنشر أمريكا الفساد في الدول الأخرى مثل اليابان، وكوريا الجنوبية، ومعظم الدول الأوربية التي ساعدتها في تحريرها من النازية والفاشية في الحرب العالمية الثانية، ولها معها علاقات عسكرية واقتصادية وسياسية؟ لماذا العراق وحده تريد أمركا تدميره بعد أن ضحت بالكثير، بشرياً ومادياً، لخلاصه من أبشع حكم جائر عرفه التاريخ، ومهما كانت أغراض أمريكا من تحرير العراق، نهب ثرواته، استعباد شعبه… وغيره من هذا الكلام؟

في الحقيقة كان بريمر ضد الفساد، حيث ورد في مذكراته نقداً شديداً بخصوص قرار أعضاء مجلس الحكم الإنتقالي في تحديد رواتبهم. واحتلال الأحزاب و” القادة ” السياسيين قصور صدام، ورجالات النظام السابق والسكن فيه منذ عام 2003 ولحد الآن. وغيرها كثير من مفاسد حكام العهد الجديد.

فالأخبار التي تصلنا تؤكد أن غالبية موظفي الدولة (نحو 5 ملايين) مرتشون، و فاسدون. فكيف استطاع شخص واحد أمريكي يدعى بول بريمر، والذي فترة بقائه في العراق لم تزد عن سنة واحدة، أن يسحر كل هذه الملايين ويحولهم إلى فاسدين؟

ليس أسهل على العراقيين خاصة، والعرب عامة، من تعليق غسيلهم على شماعة الآخرين وبالأخص أمريكا، في كوارثهم، وتخلفهم، وإعفاء أنفسهم من أية مسؤولية. طيب بريمير قال للعراقين: كونوا فاسدين! فلماذا أطاعوه، وتخلوا عن أصالتهم، وعراقتهم، وأخلاقيتهم الدينية، وثقافتهم الاجتماعية الموروثة التي يعتزون بها ويتباهون، وصاروا فاسدين بلمح البصر؟ هذا يسمونه: (حب واحكي وإكره وإحكي!!!)

إذنْ ما هي أسباب الفساد في العراق؟
لقد حاول حكم البعث خلال 35 سنة من حكمه الجائر تدمير النسيج الاجتماعي، والاخلاقي، والفكري والحضاري، وهيمن على كل وسائل الإعلام، ومنع العراقيين من التفكير الحر، لأن الدكتاتور وحده كان يفكر نيابة عنهم. وفي حالة منع الانسان من استعمال عقله كما يشاء لمدة طويلة، لا بد وأن يصاب عقله بالعطل وفق المقولة الطبية:(Use it or lose it)، أي (إما أن تستخدمه أو تفقده)، والضمور لعدم الاستعمال (Disuse atrophy). وهذا المبدأ ينطبق على الصحة الجسمية والعقلية، وحتى الماكنة الصماء إذا لم تستخدم تصدأ. فالشعب العراقي مُنِعَ من إعمال عقله والتفكير الحر لأاربعين سنة، أي منذ إنقلاب 8 شباط 1963 إلى 2003.

كذلك فرض حكم البعث على الشعب اخلاقيته التدميرية الشاذة بكل قسوة وصرامة، وهي الطاعة العمياء المطلقة للدكتاتور بدون أي نقاش، وعلى المواطن أن يتأقلم، ويتكيف كما يريده النظام وفق شعاره الذي ذكره حنا بطاطو في بحثه الأكاديمي عن تاريخ العراق: (إلما يمشي على سكتنا خلي يكعد ويه مرته). إضافة إلى الحصار الاقتصادي الدولي الذي أذل العراقيين، والحروب العبثية التدميرية، وغيرها من وسائل الخراب المادي والمعنوي والأخلاقي، فجردوا الناس من قيمهم وأعرافهم السابقة، وحتى الشعور بالمسؤولية والمواطنة والوطنية والإنتماء الوطني، فصاروا يائسين من الحياة، لا أباليين. وفي هذا الخصوص يقول الفيلسوف الإيرلندي (Edmond Burk): “لكي تحب وطنك، يجب أن يكون فيه ما يجعلك تحبه”. لذلك فقد المواطنون كل شعور يربطهم بهذا الوطن، ولسان حالهم يقول:(طز بالوطن، طز بالآخرين)، و (وكلمن يقول يا روحي). بل فرضوا على الشعب التقشف المجحف، وشحة في البضائع بما فيها المواد الغذائية الضرورية منذ السبعينات، أي قبل الحرب العراقية الإيرانية والحروب اللاحقة. وكنا نسمع أن صدام كان قد تبنى مقولة لأحد خلفاء بني العباس: (جوِّع كلبك حتى يركض وراك). وأخذ صدام بهذه المقولة المهينة لكرامة الإنسان، وطبقها على العراقيين، ولقي التشجيع من مرتزقته حين كانوا يستقبلونه أين ما يذهب بهتافاتهم الرخيصة الصاخبة (بالروح بالدم نفديك يا صدام)، و(صدام اسمك هز أمريكا).

لذلك فهذا الفساد المتفشي اليوم من أعلى قمة السلطة إلى أصغر موظف هو التركة الثقيلة التي ورثها العراق الجديد من البعث الساقط، وسوف يبقى إلى أجل غير معلوم. وإلا كيف يقبل مهندس أن يقوم بتفجير أنبوب نفط مقابل 600 دولار؟ نعم. هذا ما قرأته بعد التحرير في إحدى الصحف اللندنية.
قد يعترض البعض قائلاً: لكن البعث سقط إلى غير رجعة، فلماذا تلقون اللوم عليه الآن وبعد 16 عاماً؟
نعم، البعث سقط ولكن تركته الأخلاقية الكارثية ستبقى إلى أكثر من جيل. وحتى المسؤولون الفاسدون والعاجزون عن الإصلاح هم نتاج مرحلة البعث.

خلاصة القول: الفساد والفوضى وغيرهما من الكوارث، هي صناعة محلية عراقية بامتياز، وليس من صنع أمريكا، وإذا كانت صناعة أمريكية فلماذا تمسك بها العراقيون؟ أليس عيباً عليهم قبول بضاعة فاسدة؟
على العراقيين أن يعيدوا النظر بمواقفهم من هذه الأمور، إذ لا يمكن الإصلاح إلا إذا بدأنا بإصلاح أنفسنا، وإعمال عقولنا بالتحليل الصائب، وتبديل المناهج الدراسية لرفع معنوية الإنسان العراقي، وحب الوطن، وحب الحياة، والتركيز على الولاء للوحدة الوطنية بدون عزل أو تهميش، وتشجيع التفكير النقدي، والنقد الذاتي، فـ”النقد أساس التقدم”، والتعلم من أخطاء الماضي، وليس تعليق غسيلنا على شماعة الآخرين. فكما قال حكيم: “الذين ينسون أخطاء الماضي محكوم عليهم بتكرارها”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *