نوفمبر 12, 2024
download

اسم الكاتب : عبد الخالق حسين

مقدمة
استلمت قبل أيام بالبريد الإلكتروني نداءً صادراً من (مركز البحوث والدراسات العراقية) موقَّعاً من رئيس المركز، السيد عدنان عبدالمنعم الجنابي، بعنوان (العشائر والدولة)، يناشد فيه المستلمين قائلاً: [أرسل لكم الملاحظات التي توصلنا إليها في مركزالبحوث والدراسات العراقية حول موضوع “العشائر والدولة”، وخاصة على ضوء النقاش الدائر بخصوص “مجالس الإسناد” و”مجالس الصحوة” نأمل أن تكون هذه الملاحظات مفيدة، ونرحب بأي تعديل أو تعليق ترونه مناسباً. – مع التقدير].

ثم يطرح السيد الجنابي قضية العشائر ودورها في المجتمعات العربية، فيقول: “يجب النظر إلى العشائر باعتبارها شكل متطور ومستديم في المجتمع المدني، قابل للتعايش مع التقدم الاجتماعي والاقتصادي للمجتمعات الحديثة المتقدمة، وعنصر إيجابي داعم للسلم الأهلي والتقدم الاجتماعي، كما حدث مؤخراً في العراق، ويحدث في الأردن ومصر وسوريا والسعودية.” ويضيف: [ من المفيد للمجتمع العراقي تجاوز الخوف من العشائر، وتجاوز الفكرة الدوغماتية باعتبار الولاء للعشيرة مناقض “للوطنية” و”القومية” والدين والطائفة والمذهب. إن العشائر نسيج اجتماعي يتعايش مع كل هذه العناوين ويتأثر بها ويؤثر فيها.] ثم يصل إلى بيت القصيد فيقول:” للقيام بهذا العمل البناء يجب أن نهدف إلى إعادة بناء المجتمعات العشائرية وفسح المجال أمامها للمشاركة في بناء الدولة ومؤسساتها، والاستفادة منها… الخ” ]

وفي الصفحة الثالثة من النداء، نقرأ (الحلول العملية والمقترحات) أجتزئ منها ما يلي :
1- تشجيع قيام مجالس عشائرية في كل محافظة برعاية الدولة (بدون تدخل مباشر) بقيادة القبائل الكبرى في المحافظة (10- 20 رئيس قبيلة).
2- ضم القيادات العشائرية للقبائل الكبرى في مجلس وطني للعشائر برعاية رئيس الجمهورية، ويتكون هذا المجلس من عدد لا يتجاوز (200) من رؤساء القبائل الكبرى في العراق،
3- إعطاء دور استشاري للمجلس الوطني للعشائر ورعايته ودعمه مادياً وأدبيا باشراف مكتب تابع لرئاسة الجمهورية (على غرار النمط الأردني).
4- الإعداد لضمان تمثيل العشائر في المجلس الاتحادي المقر في الدستور، والذي يهدف لتمثيل الأقاليم والمحافظات والأقليات والمجتمع المدني، والمقترح هنا هو أن تحدد نسبة لتمثيل العشائر في المجلس الاتحادي (20% مثلاً) ويتم انتخاب هؤلاء بواقع إثنين من كل محافظة من بين أعضاء المجلس الوطني للعشائر…الخ). انتهى.

واستجابة لطلب السيد رئيس المركز بإبداء الملاحظات وترحيبه بأي تعديل أو تعليق، نناقش أدناه هذه المقترحات، ونبين فيما إذا كانت العشائر فعلاً “تشكل عنصر إيجابي داعم للسلم الأهلي والتقدم الاجتماعي” أم ضدهما، آملين منه ومن غيره من دعاة بعث الحياة في العشائرية في العراق، أن تسع صدورهم لهذه المساهمة.

العشائرية في التطور الاجتماعي
العشائرية هي مرحلة من مراحل تطور المجتمع البشري في التاريخ، تمتد جذورها إلى آلاف السنين، وهي مرحلة انتقالية من مجتمع الصيد والمشاعة البدائية في العصور الحجرية، إلى مرحلة تكوين الشعوب والدول. ولذلك فهي بلا شك، تعد مرحلة متقدمة على ما قبلها، ولكنها متخلفة بالنسبة لما بعدها.
يقول كارل ماركس، أن تطور المجتمعات البشرية يحصل خارج وعي الانسان، وأن قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج واصطراعهما هي القوى المحركة للتاريخ والتحولات الاجتماعية.

وعليه، فإن بقاء العشائرية مرتبط بالضرورة بوسائل وعلاقات الانتاج، أي بمرحلة الإقطاع. فأوربا مثلاً كانت مقسمة إلى دويلات المدن، يقودها رؤساء القبائل وأصحاب الاقطاعيات الزراعية الكبيرة. وقد انتهى الاقطاع في أوربا بولادة الرأسمالية والثورة الصناعية. ونتيجة لظلم الاقطاع فقد هاجر الفلاحون (أبناء العشائر) من قراهم إلى المدن، وتركوا الزراعة وانخرطوا بورشات العمل وغيرها في المدن، مما أدى إلى نمو الرأسملية ومعها الطبقتين، العاملة والبرجوازية، متزامناً مع إنهيار الاقطاع وزوال دولة القبيلة ودويلات المدن، وفسح المجال لتكوين الشعوب والدول القومية على أنقاضها.

ومن كل ما تقدم نستنتج أن هذه التحولات لا علاقة لها بنوعية القومية، عربية كانت، أم فارسية أو أوربية، بل لها علاقة بقوى الإنتاج، وعلاقات الإنتاج واصطراعمها، أي القوى المحركة للتاريخ والتحولات الاجتماعية.

والعرب قبل الإسلام كانوا قبائل معظمها متنقلة وفي حروب دائمة فيما بينها على موارد الصحراء الشحيحة. والإسلام هو الذي وحَّدَ هذه القبائل وصهرها في شعب وأسس لهم دولة، فأحال طاقات القبائل القتالية فيما بينها إلى حروب وفتوحات خارجية بدافع الفوز بالدارين، الغنائم في الدنيا والجنة في الآخرة. ولا يعني هذا أن العشائرية والقبلية قد انتهت في عهد الدولة الإسلامية، لأن عملية التخلي عن هذه المكونات الاجتماعية يستغرق وقتاً طويلاً، ولأن وسائل وعلاقات الانتاج في الدولة الإسلامية لم تتغير كثيراً عما كانت عليه قبل الإسلام.

وللعشيرة وظيفة سياسية واجتماعية واقتصادية مهمة أملتها ظروف موضوعية، وهي حماية أمن وسلامة أبنائها ومصالحهم المادية من العدوان الخارجي. لذلك يدرك ابن العشيرة بالفطرة أن سلامته مرتبطة بسلامة العشيرة، وعليه أن يتفانى في الدفاع عن مصلحة عشيرته إلى آخر رمق لكي تدافع العشيرة عنه. لذلك فالعلاقة بين الفرد والعشيرة تقوى وتضعف حسب قوة الدولة ودورها في ضمان أمن ومعيشة أبناء الشعب. ففي عهد الدولة العثمانية مثلاً، لم تكن الحكومة مهتمة بأمن البلاد وشؤون الناس، بل كان كل دور الحكام منصباً على جمع الضرائب وإرسالها إلى العاصمة إسطنبول. ولهذا السبب لم يكن أمام العراقيين غير اللجوء إلى عشائرهم والتماسك فيما بينهم لضمان أمنهم وسلامتهم بقيادة شيخ العشيرة. وكانت هذه العشائر في حرب دائمة فيما بينها، ومع الحكومة العثمانية أيضا،ً والتي كانت تشجع أحياناً
الحروب بين القبائل من أجل إضعافها، وتنحاز إلى هذه القبيلة أو تلك حسب المصالح وتبدل الأحوال.

واستمرت الحالة هذه إلى تأسيس الدولة العراقية الحديثة والتي كانت نتجية لثورة العشرين التي قام بها أبناء العشائر يقيادة رؤسائهم وفتاواى رجال الدين الشيعة. لذك لم يكن سهلاً على مؤسسي الدولة العراقية وقوات الاحتلال البريطاني استمالة القبائل لها بين عشية وضحاها، بل شابت العلاقة توترات حصلت خلالها صراعات دموية، بدأت بحرب الجهاد ضد الاحتلال، لتليها ثورة العشرين. واستمرت العلاقة متوترة بين الدولة والعشائر خلال النصف الأول من العهد الملكي، حيث كانت بعض النخب التي تتناوب على السلطة، ما أن تصير في المعارضة حتى وتلجأ إلى تحريض العشائر ضد الحكومة. وكان موقف الحكومة حرجاً في البداية إذ كانت تعاني من ضعف. و نستنتج مما سبق، أن هناك علاقة عكسية بين الدولة والعشيرة، أي كلما ضعفت الدولة استقوت العشيرة، والعكس بالعكس.

تحويل الشيوخ إلى اقطاعيين
لم يكن شيوخ العشائر إقطاعيين أو مالكي الأراضي الزراعية قبل تأسيس الدولة العراقية، بل كانوا عبارة عن وجهاء وأمراء على أبناء عشائرهم التي تجمعهم وحدة الدم والقرابة. ولكن كمحاولة من الإنكليز والحكومة العراقية في استمالة الشيوخ، وزعوا عليهم الأراضي الأميرية وحولوهم من شيوخ عشائر يحمون أبناء عشائرهم إلى إقطاعيين وجلادين لأبناء عشائرهم. كما وسن الإنكليز قانون حكم العشائر الذي خوَّل الشيوخ حكم ابناء عشائرهم والنظر في دعاواهم وحل منازعاتهم وفق هذا القانون، أي العرف العشائري. وإذا ما عرفنا أن نحو 70% من أبناء الشعب كانوا يسكنون الريف آنذاك، فهذا يعني أن نحو 70% من الشعب العراقي في العهد الملكي لم يكونوا خاضعين للقوانين المدنية. ويعلق الباحث حنا بطاطو على ذلك، أن هذه التفرقة في الحكم بين سكان المدن والأرياف كان من أهم معوقات التقدم الحضاري في العراق.

كما وكان هذا التمييز أحد أهم الأسباب التي أدت إلى بروز الصراع على الحكم في العهد الملكي بين طبقة الإقطاع، المحكوم عليها تاريخياً بالزوال، والبرجوازية الصاعدة. فخلال العهد الملكي حصل تطور إجتماعي حيث نشأت البرجوازية الوطنية التي واجهت مقاومة عنيفة من طبقة الإقطاعيين في المشاركة في الحكم، إذ كان النظام الملكي قائماً على الإقطاع ومعتمداً عليه، حيث كان شيوخ الإقطاع مهيمنين على الإقتصاد من خلال امتلاكهم للأراضي الزراعية، وعلى صنع القرار السياسي من خلال هيمنتهم على البرلمان ونفوذهم في الحكومة. و في هذا الخصوص يذكر الدكتور منذر الشاوي في مقدمة لكتابه الموسوم (نظام برلماني ممسوخ قاد إلى ديكتاتورية ملكية)، قائلاً: “إن البرجوازية العراقية بدأت تنمو بشكل محسوس، إلا إن هذا النمو البرجوازي صادف وجود طبقة إقطاعية قوية، فلم تستطع الطبقة البرجوازية في ظل النظام الملكي من تنحيتها ولم تحدث بينهما المصالحة التي تمت في العديد من دول أوربا الغربية بين طبقة ملاك الأراضي والطبقة البرجوازية.”

وقد بلغ ظلم الإقطاع للفلاحين حداً لا يطاق، وعلى سبيل المثال لا الحصر، يقول الدكتور عزيز الحاج بهذا الصدد: ” فيما كان الفلاح العراقي يتضور جوعاً، وينسحق ديوناً،…أهدى أحد كبار الإقطاع في العمارة سيفاً ذهبياً لعسكري بريطاني، وفي نفس الوقت كان زملاؤه في محافظة الكوت (واسط) يجوِّعون كلابهم الضخمة بإنتظار الإنقضاض في اليوم التالي على الفلاحين الذين عجزوا عن تسديد ديونهم أو جازفوا بالهروب من جحيم الأسياد. وكان دخل الفلاح الممتاز لا يتجاوز في السنة 5 دنانير قبل الحرب العالمية الثانية، وثلاثين ديناراً إثناءها، في حين كان إيراد بعض الشيوخ من غلة واحدة قد يتجاوز المائة ألف دينار. وكان الإقطاعي يفرض على الفلاح عشرات الأشكال من الضرائب والرسوم، ويستهتر بعائلته، فضلاً عن ظلم التجار ونهبها بالربا الفاحش.” (د. عزيز الحاج، مع الأعوام، ص117).

فالجماهير المسحوقة وخاصة سكان الأرياف الذين كانوا يشكلون غالبية الشعب، كانوا يعيشون حياة بائسة ضحية الفقر والجهل والمرض، بسبب ظلم واضطهاد مشايخ الإقطاع لهم، مما أرغم الملايين منهم على ترك الفلاحة، والهجرة إلى بغداد والمدن العراقية الأخرى، مكونين أوراماً سكانية خطيرة على أطراف المدن، تنذر بعواقب اجتماعية وسياسية وخيمة. وهذا هو النتاج المباشر لاستفحال العشائرية.

ولذلك عندما حصلت ثورة 14 تموز 1958، كان من أهم مهماتها وأهدافها ضرب الاقطاع في الصميم، حيث أصدرت الثورة قرار إلغاء حكم العشائر، وبذلك جردت شيوخ العشائر من سلطتهم القانونية، وحررت 70% من أبناء الشعب من طغيانهم. والضربة الثانية جاءت لهم من خلال قانون الإصلاح الزراعي بضرب مصالحهم الاقتصادية. وبذلك حققت الثورة إنقلاباً إجتماعياً جذرياً في المجتمع العراقي، وهذه القوانين هي وحدها كافية لإعطاء سمة الثورة لما حصل يوم 14 تموز 1958، وما تلاه من عمر الثورة المغدورة. ومنذ ذلك اليوم بدأت النزعة الوطنية في نمو مطرد على حساب الانتماءات والولاءات الأخرى، مثل العشائرية والطائفية وغيرهما.

ولكن كما بينا في مناسبات عديدة، أن التطور الاجتماعي لن يكون على شكل خط بياني مستقيم إلى الأمام وإلى الأعلى، بل تحصل أحياناً انتكاسات وتراجعات. وقد حصل النكوص الأول بإنقلاب 8 شباط 1963، عندما هيمن التيار القومي العروبي على الحكم بإغتيال ثورة تموز وقيادتها الوطنية. وكان المفروض من هذا التيار توحيد الشعوب العربية في شعب واحد (أمة عربية واحدة)، من المحيط إلى الخليج، كما هو المعلن في شعاراته، إلا إن الذي حصل عملياً، وخاصة في عهد حكم البعث، هو تفتيت الشعب الواحد وإعادته إلى ما قبل تكوين الدولة والشعب.

وقد ساهم حكم حزب البعث، بفعالية في إحياء الطائفية والعنصرية والقبلية في العراق. ومن الإجراءات التي اتخذها حكام البعث في إحياء القبلية ونشر قيم البداوة، أن قام كل قيادي بعثي بنصب خيمة بدوية (بيت الشعر) أمام قصره المنيف، فيها موقد ودلال القهوة، رابطاً أمامها وإلى جنب سيارته المرسيدس، جملاً، والظهور في الأماكن العامة بالزي البدوي والريفي. وهكذا كان عهد حكم البعث هو عهد بعث الحياة في العشائرية وترويج قيمها البدوية وهيمنة الريف على المدينة وتفتيت الشعب وتجاهل القوانين المدنية ودور الدول في حكم الشعب.

وفي التسعينات من القرن الماضي، وبسبب الحصار وانتشار الفقر، تفشت الجريمة بشكل واسع بحيث لم تستطع محاكم الدولة التعامل مع الأعداد الهائلة من القضايا الجنائية للنظر فيها، لذلك اتخذ صدام حسين خطوة أخرى في صالح العشائرية لكسب ولائها، فمنح شيوخها المزيد من النفوذ والامتيازات المادية، وصلاحيات واسعة في حل المنازعات بين الناس وفق العرف العشائري وبالطرق البدائية الرخيصة، بدلاً من المحاكم المدنية وقوانين الدولة، أي حصلت ردة حضارية بكل معنى الكلمة.

مخاطر وأضرار إحياء العشائرية
أود هنا التوضيح أني لا أدعو إلى إعلان الحرب على العشائر في الظروف الحالية القاهرة التي يمر بها العراق، ولا في أي وقت في المستقبل، فالعشائر واقع مفروض على الشعب وموروث من الماضي القريب والبعيد، ويمكن التعايش معها مؤقتاً، والإستفادة منها لتحقيق الأمن وإلحاق الهزيمة بالإرهاب وعصابات الجريمة المنظمة في الظروف الحالية، حيث الحكومة ضعيفة ومؤسساتها المدنية وقواتها المسلحة مازالت في طور البناء ولم تكتمل بعد. فهناك الحاجة إلى دعم العشائر ورجال الدين وتوظيف كل ما في العراق من موروث اجتماعي لخدمة الشعب، والاستفادة منه في الظروف الحالية الطارئة. ولكن في نفس الوقت أرى من الواجب عدم سن قوانين من شأنها تكريس العشائرية والقبلية ونشر قيمها ونفوذها ومنحها دوراً في الدولة، لأنها على المدى المتوسط والبعيد هي على النقيض من بناء الدولة المدنية، والتقدم الاحتماعي والسلم الأهلي. وبعبارة أخرى، يجب عدم السماح للظروف القاهرة المؤقتة أن تكرس آثارها السلبية الضارة بالمجتمع على المدى الطويل.

لذلك أرى أن سن قانون إحياء العشائرية وتكريسها في العراق الجديد يحمل معه المخاطر والأضرار التالية:
1- إن إحياء العشائرية وتوسيع نفوذها هو جزء أساسي من أيديولوجة حزب البعث الساقط، واستمرار لسياسة صدام حسين تحديداً.
2- إن الدعوة لمشاركة شيوخ العشائر في مجالس المحافظات وفي المجلس الاتحادي عملية لا ديمقراطية، وتعني خلق شرائح إضافية من البيروقراطية في الدولة العراقية دون مبرر، ليشكلوا عبئاً ثقيلاً على كاهل ميزانية الدولة من رواتب وتخصيص أبنية لمقراتهم وتوفير حماية وخدم وسكن لهم…الخ، ودون أي نفع، أو أي دور إيجابي لهم في إدارة مؤسسات الدولة عدا كون هذه المناصب والرواتب عبارة عن رشوات لهؤلاء الشيوخ من أجل تجنب شرورهم باسم (الحفاظ على السلم الأهلي) بينما هم في الحقيقة يشكلون البلاء على السلم الأهلي.
3- كذلك تؤدي العشائرية إلى حكم الشعب بأكثر من قانون، ففي هذه الحالة يكون المواطن العراقي تحكمه القوانين المدنية، وقوانين العرف العشائري، وربما يظهر له حكم الشريعة..الخ. وهناك تجارب مريرة كثيرة مر بها سكان المدن الذين لم يألفوا العرف العشائري، فإذا ما تورط أحدهم بمشكلة مع أحد أبناء العشائر، يفاجأ بطلبات من العشيرة بدفع كذا مبلغ كفصل (دية)، إضافة إلى العقوبة التي يتلقاها من قرار المحكمة المدنية، وفي حالة رفضه دفع الفصل العشائري، تكون أفراد عائلته وكل أقربائه مهددين بالثأر والانتقام. هذا ما حصل للألوف من أبناء الشعب في عهد صدام حسين ولحد الآن بفضل إحياء العشائرية. ولدي عشرات القصص المؤلمة في هذا الخصوص.
4- يقول السيد الجنابي: “يجب النظر إلى العشائر باعتبارها شكل متطور ومستديم في المجتمع المدني، قابل للتعايش مع التقدم الاجتماعي والاقتصادي للمجتمعات الحديثة المتقدمة، وعنصر إيجابي داعم للسلم الأهلي والتقدم الاجتماعي،…الخ”، نقول وكما بينا أعلاه، أن علم الاجتماع أثبت أن العشائرية عقبة كأداء أمام التقدم الاجتماعي، وبناء الدولة المدنية القابلة للبقاء، لأن العشائرية والدولة على طرفي نقيض، فقوة العشيرة من ضعف الدولة، وهي ضد التقدم الاجتماعي.
5- الشعب العراقي يعاني بما فيه الكفاية من إنقسامات عرقية ودينية وطائفية، لذا فإحياء العشائرية وتكريسها يضيف رقماً آخر إلى قائمة تمزيق الشعب الواحد إلى كيانات متصارعة.
6- وكمثال حي لعواقب استفحال العشائرية وتهديدها للسلم الأهلي، نذكر على سبيل المثال لا الحصر، معاناة أطباء كربلاء، حسب تقرير نقلته وكالات الأنباء قبل أيام، بعنوان (200 طبيب عراقي في كربلاء يغلقون عياداتهم خشية القتل) والذي جاء فيه: “أغلق نحو مئتي طبيب عياداتهم أمس الاثنين في كربلاء احتجاجا على تهديدات توجهها عشائر تطالب بـ «الفصل»، أو بتعويض مالي، إثر وفاة مرضى أثناء معالجتهم أو خلال عمليات جراحية.
“قال علي أبوطحين نقيب الأطباء في كربلاء (110 كلم جنوب بغداد) خلال اعتصام في مستشفى الحسين العام إن «أكثر من مئتي طبيب أغلقوا عياداتهم وتوقفوا عن العمل بعد تعرض العديد من الجراحين والأطباء المختصين بالعمليات الجراحية إلى تهديدات ومضايقات يومية». وتابع أن «أهل المرضى الذين يخضعون لعمليات جراحية لا تنجح يوجهون هذه التهديدات إلى الأطباء وفقا للعرف العشائري، ويطالبون بالفصل (تعويض مالي) متجاهلين القوانين والسلطات الحكومية».
ونحن بدوورنا ندين أي تهديد للأطباء وغير الأطباء من قبل العشائر، كما ونؤكد أن ما حصل لأطباء كربلاء هو ليس حالة فريدة خاصة بكربلاء، بل هي حالة عامة وشائعة في جميع أنحاء العراق، ولو بدرجات مختلفة، يواجهها العراقيون بصمت، وهي غيض من فيض من أضرار طغيان العشائرية، نقدمها لدعاة إحياء القبلية لاسنخلاص الدروس والعبر. أدناه رابط التقرير. فهل هذا هو السلم الأهلي والتقدم الاجتماعي اللذين تساهم فيهما العشائر؟

7- الغريب في الأمر، أنه في الوقت الذي تحث فيه شعوب العالم خطوات متسارعة نحو التقارب والإندماح وتكوين إتحادات بين الدول وتختفي بينها الحدود، نجد البعض من أبناء العراق يريدون إعادة العراق إلى الوراء وتمزيق الشعب الواحد إلى كينانات وعشائر متصارعة. وهذا العمل هو ردة حضارية بامتياز.

خلاصة القول، العشائرية مرحلة من مراحل تطور المجتمع البشري في التاريخ تسبق تكوين الشعب والأمة والدولة، تُبعث فيها الحياة وتنشط في فترات ضعف الدولة والانحطاط الحضاري والانهيار الفكري، لذلك فقوتها تتناسب عكسياً مع قوة الدولة. وكادت العشائرية أن تختفي من المجتمع العراقي في السنوات الأخيرة من العهد الملكي وخلال ثورة 14 تموز، لولا حكم البعث الذي عمل على إعادة المجتمع إلى الوراء أي إلى مرحلة القبلية. لذا فإحياء العشائرية عملية معوقة للتقدم الحضاري، وبناء المجتمع المدني، وتهدد السلم الأهلي، ودورها مناقض للدولة العصرية، وتؤدي إلى ظهور شريحة طفيلية من الحكام تشكل عبئاً ثقيلاً على ميزانية الدولة دون مقابل. والعشائرية لا توجد في الدول المتقدمة بل في المجتمعات المتخلفة فقط، فهي مظهر من مظاهر التخلف الحضاري.
ــــــــــــــــ
* هذا المقال نشرته عام 2008، ونظراً لأهميته حيت تجددت في الفترة الأخيرة المطالبات من قبل قوى الردة، لبعث الحياة في العشائرية التي يراد بها إضافة أخرى لتفتيت الشعب العراقي بعد أن فتته الصراعات الطائفية والأثنية والمحلية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *