اسم الكاتب : عبد الخالق حسين
منذ العدوان الصدامي على الكويت عام 1990، وفرض الحصار الاقتصادي الدولي على العراق، والذي أدى بدوره إلى تفاقم الفقر وصعوبة المعيشة، وبالتالي إلى تصاعد وتيرة الجريمة المنظمة، و عجز الحكومة وأجهزتها القضائية والأمنية في السيطرة عليها، لذلك أضطر الدكتاتور صدام حسين إلى إحياء العشائرية، لتلعب دورها في حل المنازعات بين المواطنين بعد أن تم إلغاءها في السنة الأولى من ثورة 14 تموز 1958. وقد أثبت الواقع أن بعث الحياة في العشائرية أشبه بخلق فرانكنشتاين من نوع جديد الذي أنقلب إلى غول رهيب يفترس خالقه والمجتمع معاً. لقد أصبحت العشائرية خطر كبير وتجاهلها أخطر.
هذه ليست المرة الأولى التي أكتب فيها عن مخاطر العشائرية في العراق، إذ سبق وأن كتبتُ مقالاً بعنوان (العشائر والدولة)(1) عام 2008، بمناسبة الاعتداءات العشائرية على الأطباء، ومقالة أخرى بعنوان: (قانون العشائر يعيق تطور الدولة المدنية)(2) عام 2012 عندما طُرح البعض مشروع قانون العشائر في البرلمان لتقنين وشرعنة العشائرية وتكريسها في المجتمع العراقي المبتلى أصلاً بمختلف الإنقسامات، الدينية والطائفية والأثنية.. وغيرها.
وأعود الآن ثالثة لهذا الموضوع الخطير بمناسبة ما ينشر في الصحف الوطنية والعالمية من تكرار التجاوزات العشائرية على الأطباء أيضاً. وآخرها تقرير صحيفة الديلي ميل اللندنية بعنوان: (يقول أطباء العراق أن حياتهم مهددة بالانتقامات الثأرية حتى وهم ينقذون حياة الآخرين Iraq doctors say vendetta threaten their lives even as they save others)( رابط التقرير في الهامش- رقم 3)
كذلك قرأت مقالاً قيماً قبل أيام للكتاب العراقي الأستاذ صادق الطائي بعنوان (إرهاب العشائر في العراق)(4)، يشرح فيه بشيء من التفصيل قوانين وأعراف العشائر القره قوزية المتخلفة في ممارسة أحكامها الجائرة لحل المنازعات بين أبناء الشعب بدلاً من السلطة القضائية، إضافة إلى ما يسمى بالدكات العشائرية وصداماتها فيما بينها. فالعشائرية أصبحت عبئاً ثقيلاً يهدد السلام المجتمعي، ابتلى به الشعب العراقي بعد سقوط الحكم البعثي الصدامي الذي كان يمارس إرهاب الدولة، وكأنه محكوم على هذا الشعب أن يعاني من مختلف أنواع الإرهاب وفي كل العهود.
ما هي العشائرية؟
العشيرة أو القبيلة، هي تجمع بشري تربط بينهم علاقة قربي والدم، أما العشائرية فهي العصبية التي تربط هؤلاء فيما بينهم، وفق مبدأ (أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)، ومبدأ (أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وأخي وابن عمي على الغريب). والغريب هنا ليس مواطني دولة أخرى، بل كل إنسان من عشيرة أخرى حتى ولو كان من نفس الوطن. والعشائرية مرحلة من مراحل تطور المجتمع البشري في التاريخ، تسبق تكوين الشعب والأمة والدولة. وفي عصرنا هذا تُبعث الحياة في العشائرية، وتنشط في فترات ضعف الدولة والانحطاط الحضاري، والانهيار الفكري، عندما تعجز الدول عن حماية مواطنيها من العدوان. لذلك فقوة العشيرة تتناسب عكسياً مع قوة الدولة ودرجة التمدن. وكما أشرت أعلاه، كادت العشائرية أن تختفي من المجتمع العراقي منذ السنة الأولى من ثورة 14 تموز، لولا حكم البعث الذي عمل على إعادة المجتمع إلى الوراء، أي إلى مرحلة القبلية. لذا فإحياء العشائرية عملية معوقة للتقدم الحضاري، وبناء المجتمع المدني، وتهدد السلم الأهلي، والوحدة الوطنية، لأنها تؤدي إلى تفتيت النسيج الاجتماعي، كما الطائفية والعنصرية الفاشية. لذلك فالعشائرية تناقض الدولة العصرية والنظام الديمقراطي، و تؤدي إلى ظهور شريحة طفيلية من أصحاب النفوذ، تشكل عبئاً ثقيلاً على ميزانية الدولة وأمن وسلامة المجتمع. لذلك لا توجد العشائرية في الدول المتقدمة، بل في المجتمعات المتخلفة فقط، فهي مظهر من مظاهر التخلف الحضاري.
وقد أدى الإرهاب العشائري إلى فرار الألوف من الأطباء وغيرهم من أصحاب الاختصاصات والكفاءات ليقدموا خدماتهم إلى الشعوب الأخرى مقابل كسب معيشتهم بأمان وكرامة. وفي هذا الخصوص قالت الدكتورة شيماء الكمالي، من بغداد، التي تعرضت حديثاً للإرهاب العشائري، ان مشاكلها بدأت عندما منعت والد إحدى المريضات من البقاء في المستشفى بعد ساعات الزيارة. فاقتحم أقاربها عيادتها احتجاجاً غاضبون وهم يحملون السلاح مما اضطرت إلى الفرار عبر مدخل الخدمة. ولم تجرأ في الذهاب إلى العمل لعشرة أيام، وأنها تفكر الآن لمغادرة العراق.
ويضيف التقرير: (يقول الأطباء والممرضون وغيرهم من العاملين الصحيين في جميع أنحاء العراق إنهم يتعرضون لخطر الاعتداء البدني والتهديد اللفظي، وحتى الاختطاف أثناء العمل)( نفس المصدر-3).
وإذا ما فشل الطبيب في شفاء المريض، أو أدت عملية جراحية إلى موت المريض، فإن عشيرة المريض تطالبه بدفع دية قد تقدر بخمسين ألف دولار. وقالت الدكتورة شيماء الكمالي: أن (من بين 348 طبيباً تخرجوا معها من كلية الطب عام 2009 ، غادر 285 البلاد بسبب هذه الاعتداءات).
وهذا يعني نزيف خطير في هجرة الأطباء وغيرهم من أصحاب الخبرة والاختصاصات المختلفة بسبب الإرهاب العشائري.
إن مغادرة الأطباء الشباب البلاد بسبب الإرهاب العشائري هي كارثة حقيقية يستغلها أيتام البعث للترويج بأن عهد حكمهم كان أكثر أماناً من عراق ما بعد صدام. طبعاً هذا الإدعاء غير صحيح، لأن العهد الصدامي كان يمارس إرهاب الدولة، حيث دشن صدام عهده عندما أعلن نفسه رئيساً للجمهورية عام 1979، بطرد 49 أستاذاً من خيرة أساتذة كلية طب بغداد، والتي سمَّتها إحدى الصحف البريطانية بـ(مجزرة في مدينة الطب Massacre in the Medical city). لا ننسى أن كل ما يجري الآن في العراق هو من تركة حكم البعث، ناهيك عن أن إحياء العشائرية وتمجيدها قد تم من قبل حكم البعث كما أسلفنا.
ما العمل؟
لا شك أن الدولة العراقية الآن وبعد مرور 16 عاماً على سقوط حكم البعث الجائر في موقع القوة، حيث نجحت الحكومة في بناء المؤسسة العسكرية، والأجهزة الأمنية، والقضائية، لذا فهي مطالبة بإلغاء العشائرية، وأحكامها الجائرة المتخلفة. فكما نجحت الحكومة بسحق الإرهاب الداعشي، لا بد وأنها قادرة على سحق الإرهاب العشائري أيضاً.
لقد نجحت ثورة 14 تموز عام 1958 بقيادة الزعيم عبدالكريم قاسم بإلغاء قانون حكم العشائر المجحف ودورها في حل المنازعات في الريف العراقي الذي كان يشمل نحو 70% من الشعب العراقي آنذاك. كما نجحت حكومة الثورة في تجريد شيوخ العشائر من قوتهم الاقتصادية وذلك بإصدار قانون الإصلاح الزراعي. ومنذ ذلك التاريخ استجاب الجميع لهذا القانون، وكادت العشائرية أن تختفي من العراق لولا حكم البعث الصدامي الذي أعاد إليها الحياة كما أسلفنا أعلاه.
كما نحذر الحكومة أن خطر العشائرية على الشعب العراقي لا يقل عن خطر الإرهاب الداعشي البعثي، والفساد المستشري في جميع مفاصل الدولة، وهي، أي الحكومة، تمتلك الآن كل الإمكانيات لإصدار قانون تلغي بموجبه تجاوزات العشائر، و دورها في حل المنازعات بين أبناء الشعب لأي سبب كان. ونحن إذ نقول ذلك نعلم مسبقاً المعوقات أمام هكذا قرار، إذ نتفهم أن العشائرية لا يمكن إلغاءها بمجرد قرار حكومي فقط، بل يحتاج إلى حملة ثقافية وإعلامية وتربوية، تتضافر فيها جهود كل الخيريين من المثقفين والكتاب والمدرسين والإعلاميين، لتنبيه الشعب عن مخاطر العشائرية والعصبيىة القبلية على مستقبل الأمة العراقية، وأن زوالها ضروري للسلم الأهلي وكرمة المواطن وسلامة الدولة وتقدمها.
فالأحكام العشائرية وما يحصل من صدامات بين العشائر نفسها، وأساليبها الهمجية في حل المنازعات وصمة عار في جبين المجتمع العراقي والحكومات العراقية المتعاقبة ما بعد 2003، وعلى سبيل المثال أن أحد هذه الحلول الإجرامية التي تلجأ إليها العشائر هو استخدام المرأة كدية.
وفي هذا الخصوص كتب الكاتب المصري الصديق، د.صلاح الدين محسن خاطرة بعنوان: (كلمة قصيرة – بمناسبة عيد المرأة 8 مارس)، أن ما يحدث للمرأة العراقية بان يتم التنازل عنها في قضايا (الثأر)، أي الفصل بين عشيرة وأخري، وصمة عار في جبين البشرية. وأبشع امتهان للمرأة .. المرأة ليست معزة ولا بقرة ، لكي تُدفع دية. لذلك يجب صدور قانون عراقي بالإعدام لزعيم العشيرة الذي يقدم نساء من عشيرته بتلك الطريقة، وكذلك إعدام شيخ العشيرة الذي يطلب او يقبل أخذ نساء من عشيرة أخري كدية ثمنا للثأر … النساء لسن ماعز او أبقار .. النساء امهات كل الرجال وسيداتهم وتيجان رؤوسهم.)(4)
إني أتفق كلياً مع ما قاله الصديق الكاتب القدير… فهل من يسمع؟