
حسن العكيلي
طيلة الخمسين عاما المنصرمة من عمره ظل يراوح في مكانه من دون ان يفعل شيئا لنفسه. فلم يراجع طبيبا لمعرفة اسباب صعود ضغط دمه المفاجئ. او اصلاح ماتبقى من اسنانه التي نخرتها البكتريا .. ولا لعائلته التي لازالت تسكن بالايجار فقائمة الاعمال التي قام بادائها وفشل فيها طويلة.
ذات ليلة ربيعية هادئة نام جميل ليلته لاول مرة ومن دون ارق ولا قلق او احلام مزعجة . الا من حلم وحيد زرع الامل في روحه المرتبكة ونث على ورق وردها ندى الهدوء والطمانينة فقد كان حلمه متميزا مختلفا عن احلامه السابقة المشبعة بالخوف على حياة عائلته المليئة بالتحديات والصعوبات
لقد حلم جميل بانه قد اشترى سيارة كبيرة تتسع لاكثر من اربعين راكبا ليعتاش عليها وتكون مصدرا لرزقه وعائلته وكاد يستمر حلمه حتى الظهيرة لولا صياح الديك عند الفجر الذي اعاد اليه انتباهته والوعي الى بصيرته.
عندما استيقظ نادى على زوجته واخبرها بحلمه وضرورة تطبيقه وطلب منها الوقوف معه وكذا نسيبه الذي لايبخل عليه بشي
شجعته زوجته على تنفيذ فكرته واخبرته بانها ستبيع كل مالديها من ذهب وبعد ان جمع مبلغا جيدا ذهب الى احد معارض السيارات في النهضة واشترى سيارتة الحلم وطلب من ابنه البكر ان يكون مساعدا له في رحلاته وجولاته- وعاش شهورا عديدة في غاية السعادة – تغيرت فيه احوال عائلته الذين راحوا يرتدون الملابس الجديدة بعد قطيعة دامت لسنين..
ذات يوم نهض جميل مبكرا ليتوجه نحو الكراج وبعد تناول فطوره في مطعم الكراج امتلات سيارته بالركاب راح يشق طريقه بين مئات السيارات التي راحت تتسرب في شوارع وازقة المدن كدبيب كل يتوجه صوبه وجهته فالمسافة بين بغداد والعمارة ليست بالقصيرة .
عند دخوله حدود مدينة الكوت طلب منه احد الركاب وعائلته بالنزول ففرح جميل بنزولهم ليتم تعويضهم بركاب جدد ولكن في تلك اللحظات خلا الشارع من اي راكب
كانت المسافة بين الساحة الرئيسية للمدينة والجسر الذي يجثم فوق نهر دجلة منذ عشرات السنين ليس ببعيد. ذلك الجسر العتيد الذي عبرت فوقه ملايين السيارات وشهد الحروب الدموية والسنين العجاف –راح جميل ينظر اليه والى الماء والى اصحاب الزوارق المشغولين بصيد السمك ويحرك يديه بحركات تخلو من اي معنى
شك ابنه بما يفعله والده من حركات غريبة لايعرف كنهها لانه لم يكن معتادا عليها ولم يألفها من قبل . حركات مريبة مزجت بالفرح والحزن معا تفزع قلب كل من يراها- اعتقد ابنه وعدد من الركاب الذين يجلسون خلفه انها حركات عدم رضا او اشارات تدل على القلق من المجهول. فقرر السائق الانحراف يمينا ببطء ليتوقف
ضن ابنه ان سبب وقوفه هو ان شخصا ما قد رفع يده طالبا منه التوقف . حاول ابنه ان يمد راسه من شباك باب السيارة ولكن لم يرى احدا. حاول النزول الى الشارع وتحرك امتارا عديدة ليعرف اين اختفى ذلك الرجل ..وبعد تاكده من عدم وجود احد .عاد مهرولا الى والده ليخبره بذلك . ولكن من دون رد . جلس الابن في مكانه بينما وضع والده راسه على مقود السيارة . ضن ابنه والركاب ان السائق مرهق واراد ان يريح راسه لبضعة ثواني ليكمل رحلته الطويلة
لكن السائق جميل بقي على حاله دون حراك.طلب احد الركاب من ابنه ان يقوم بايقاضه من غفوته . تحرك الابن والخوف واضح على محياه فربت على كتف والده طالبا منه الاستيقاض ولكن من دون حركة . حاول ان يرفع راسه من المقود ليتكأ على كرسيه لكنه هوى على المقود ثانية بينما راحت يداه تتدليان بعد ان دب فيهما الموت
هرع الجميع لمعرفة ما حصل للسائق فتاكدوا وبالملموس ان سائقهم قد توفاه الله بعد ان ارسل اليه احد جنوده المباركين طالبا منه التوقف والامتثال لامره لياخذ روحه بهدوء ومن دون ايذاء لاحد….. فسبحان الله الذي أمات وأحيا واضحك وابكى وأنزل الماء وأجرى وله الحمد في الأخرة والأولى وله الحمد ما أعطى وهدى