
نزار حيدر
{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}.
الحديثُ هُنا عن الأَمرِ بالمعرُوفِ والنَّهي عن المُنكرِ في بُعدهِ المُتعلِّق بالشَّأنِ العامِّ، والذي نُلخِّصهُ بالعدلِ [المعرُوف] ضدَّ الظُّلمِ [المُنكرِ] والذي نطلقُ عليهِ اليَوم بالمُصطلحِ السِّياسي المُعاصر بـ [المُعارضة] التي تهتمُّ بفضحِ الحاكمِ إِذا ظلمَ وتكشِف عن فسادهِ إِذا سرقَ وتُعِّدد مثالبهُ إِذا فشلَ وتُصارِح الرَّأي العام إِذا تجاوزَ صلاحيَّاتهِ وتغوَّلَ نفُوذهُ ليتحوَّل إِلى سبُعٍ يفترِسُ حقُوقَ الرَّعيَّة كما يصِفُ ذلكَ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) في عهدهِ للأَشترِ منبِّهاً من ظاهرةِ [السَّبُعيَّة] التي يتقمَّصها الحاكِم الظَّالم ويُبتلى بها المُجتمع المغلُوبِ على أَمرهِ.
يقُولُ (ع) {وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ والْمَحَبَّةَ لَهُمْ واللُّطْفَ بِهِمْ ولَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ؛ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ ويُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ والْخَطَإِ فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وصَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وتَرْضَى أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّه مِنْ عَفْوِه وصَفْحِه فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ ووَالِي الأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ واللَّه فَوْقَ مَنْ وَلَّاكَ! وقَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ وابْتَلَاكَ بِهِمْ}.
والمعيارُ في الأَمرِ والنَّهي هو الحقُّ والباطلُ والصحُّ والخطأُ فالمعروفُ معروفٌ بغضِّ النَّظرِ عن هويَّةِ فاعلهِ والمُنكرُ مُنكرٌ بغضِّ النَّظرِ عن فاعلهِ إِذ لا علاقةَ لهُما بالخلفيَّةِ الدينيَّةِ أَو المذهبيَّةِ أَو الإِثنيَّةِ أَو المناطقيَّةِ أَو الفكريَّةِ والحزبيَّةِ والسياسيَّةِ، لأَنَّ الأَمرَ بالمعروفِ والنَّهي عن المُنكرِ على مُستوى العِلاقة بين الرَّاعي والرعيَّة يتعلَّق بحقُوقِ النَّاس، فإِذا ما تعرَّضت للعُدوانِ والتَّجاوُزِ والسَّحقِ من قبلِ الحاكِم فإِنَّ التصدِّي لها ومُواجهتِها ضَرورةٌ بمعيارِ الحقِّ والباطِل فقط، أَمَّا إِذا لبسَ الأَمرُ والنَّهي لِباسَ الطائفيَّة أَو العنصريَّة أَو المناطقيَّة فإِنَّها الجاهليَّة التي تُدافعُ أَو تبرِّرُ للمسؤُولِ فسادهُ وظُلمهُ وفشلهُ إِذا كانَ على ديني أَو مذهبي أَو من حزبي أَو كانَ إِبن ولايتي! إِلَّا أَنَّها تصبُّ جامَّ غضبِها عليهِ إِذا لم يكُن من [جماعتِنا] وبمثلِ هذهِ الحالة فإِنَّ الأَمرَ بالمعروفِ والنَّهي عن المُنكرِ يفقُدُ قيمتهُ الرساليَّة والسياسيَّة على حدٍّ سواءٍ، وبالتَّالي يتحوَّل من خُلُقٍ إِلهيٍّ كما يصفهُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) {وإِنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ لَخُلُقَانِ مِنْ خُلُقِ اللَّه سُبْحَانَه وإِنَّهُمَا لَا يُقَرِّبَانِ مِنْ أَجَلٍ ولَا يَنْقُصَانِ مِنْ رِزْقٍ} إِلى صفةٍ بشريَّةٍ تافِهةٍ يُوظِّفها المُتخاصِمونَ لتصفيةِ الحساباتِ فيما بينهِم على حسابِ حقُوقِ النَّاسِ الضَّائعة، لا تُغني ولا تُسمِنُ من جوعٍ، ولا تتركَ أَيَّ أَثرٍ في مساعي التَّغييرِ والإِصلاحِ إِذ ستجِد أَنَّ الآمرينَ بالمعروفِ النَّاهينَ عن المُنكرِ مُتخندِقٌ كُلّاً في دينهِ أَو طائفتهِ أَو حزبهِ وجماعتهِ وكُتلتهِ، فبدلاً من أَن يكونَ الأَمرُ والنَّهيُ عاملاً إِيجابيّاً لفضحِ الظُّلمِ والكشفِ عن الفسادِ، وهوَ الجامِعُ المانِعُ في المُجتمعِ، إِذا بهِ يتحوَّل إِلى آلةِ هدمٍ وتخريبٍ تحرِّضُ على الطائفيَّة والعُنصريَّة، وهيَ الحالةُ التي يُشيرُ إِليها حديثُ رسولِ الله (ص) بقولهِ الذي تنقلهُ كُتُب الحديث عن أَميرِ المُؤمنِينَ (ع) قائلاً {قالَ رسولُ الله (ص) (كيفَ بكُم إِذا فسقَ فتيانكُم وطغى نساؤُكم؟! قالُوا؛ يا رسولَ الله وإِنَّ ذلكَ لكائِنٌ؟! قالَ نعم وأَشد؛ كيفَ أَنتم إِذا لم تأمرُوا بالمعرُوفِ ولم تنهُوا عنِ المنكرِ؟! قالُوا يا رسولَ الله وإِنَّ ذلكَ لكائنٌ؟! قالَ نعم وأَشد؛ كيفَ بكُم إِذا أَمرتُم بالمُنكرِ ونهيتُم عن المعرُوفِ؟! قالُوا يا رسولَ الله وإِنَّ ذلكَ لكائِنٌ؟! قالَ نعم وأَشد؛ كيفَ بكُم إِذا رأَيتُم المعرُوفَ مُنكراً والمنكرَ معرُوفًا؟! قالُوا يا رسولَ الله وإِنَّ ذلكَ لكائنٌ؟! قالَ نعم)}.
ولذلكَ فعِندما يِعالِجُ القُرآن الكريم هذهِ الظَّواهِر فإِنَّما بمِعيارِ الحقِّ والباطلِ فقط دُونَ أَيِّ معيارٍ آخر، ولنا فيما يلي من الآياتِ أَوضحُ دليلٌ على ذلكَ.
الأُولى في قولهِ تعالى {فَلَآ أُقۡسِمُ بِمَا تُبۡصِرُونَ* وَمَا لَا تُبۡصِرُونَ* إِنَّهُۥ لَقَوۡلُ رَسُولٖ كَرِيمٖ* وَمَا هُوَ بِقَوۡلِ شَاعِرٖۚ قَلِيلٗا مَّا تُؤۡمِنُونَ* وَلَا بِقَوۡلِ كَاهِنٖۚ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ* تَنزِيلٞ مِّن رَّبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ* وَلَوۡ تَقَوَّلَ عَلَيۡنَا بَعۡضَ ٱلۡأَقَاوِيلِ* لَأَخَذۡنَا مِنۡهُ بِٱلۡيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعۡنَا مِنۡهُ ٱلۡوَتِينَ* فَمَا مِنكُم مِّنۡ أَحَدٍ عَنۡهُ حَٰجِزِينَ* وَإِنَّهُۥ لَتَذۡكِرَةٞ لِّلۡمُتَّقِينَ}.
الثَّانية في قَولهِ تعالى {وَإِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ءَأَنتَ قُلۡتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيۡنِ مِن دُونِ ٱللَّهِۖ قَالَ سُبۡحَٰنَكَ مَا يَكُونُ لِيٓ أَنۡ أَقُولَ مَا لَيۡسَ لِي بِحَقٍّۚ إِن كُنتُ قُلۡتُهُۥ فَقَدۡ عَلِمۡتَهُۥۚ تَعۡلَمُ مَا فِي نَفۡسِي وَلَآ أَعۡلَمُ مَا فِي نَفۡسِكَۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّٰمُ ٱلۡغُيُوبِ* مَا قُلۡتُ لَهُمۡ إِلَّا مَآ أَمَرۡتَنِي بِهِۦٓ أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمۡۚ وَكُنتُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدٗا مَّا دُمۡتُ فِيهِمۡۖ فَلَمَّا تَوَفَّيۡتَنِي كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيۡهِمۡۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ* إِن تُعَذِّبۡهُمۡ فَإِنَّهُمۡ عِبَادُكَۖ وَإِن تَغۡفِرۡ لَهُمۡ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ* قَالَ ٱللَّهُ هَٰذَا يَوۡمُ يَنفَعُ ٱلصَّٰدِقِينَ صِدۡقُهُمۡۚ لَهُمۡ جَنَّٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ}.
وبنفسِ المنهجِ تعاملَ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) معَ الظُّلمِ والفسادِ عندما كانَت تتعرَّض لهُ رعيَّتهُ، فلم يكُن ليُميِّزَ بينَ مُواطنٍ وآخر فالعدلُ في التَّعامُلِ هوَ أَساسُ ذلكَ.
يقُولُ (ع) {أَلَا وإِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى قِتَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَيْلًا ونَهَاراً وسِرّاً وإِعْلَاناً وقُلْتُ لَكُمُ اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ فَوَاللَّه مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلَّا ذَلُّوا، فَتَوَاكَلْتُمْ وتَخَاذَلْتُمْ حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ الْغَارَاتُ ومُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الأَوْطَانُ، وهَذَا أَخُو غَامِدٍ وقَدْ وَرَدَتْ خَيْلُه الأَنْبَارَ وقَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ الْبَكْرِيَّ وأَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا ولَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ والأُخْرَى الْمُعَاهِدَةِ فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وقُلُبَهَا وقَلَائِدَهَا ورُعُثَهَا مَا تَمْتَنِعُ مِنْه إِلَّا بِالِاسْتِرْجَاعِ والِاسْتِرْحَامِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ مَا نَالَ رَجُلًا مِنْهُمْ كَلْمٌ ولَا أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِه مَلُوماً بَلْ كَانَ بِه عِنْدِي جَدِيراً، فَيَا عَجَباً عَجَباً واللَّه يُمِيتُ الْقَلْبَ ويَجْلِبُ الْهَمَّ مِنَ اجْتِمَاعِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ وتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ! فَقُبْحاً لَكُمْ وتَرَحاً حِينَ صِرْتُمْ غَرَضاً يُرْمَى يُغَارُ عَلَيْكُمْ ولَا تُغِيرُونَ وتُغْزَوْنَ ولَا تَغْزُونَ ويُعْصَى اللَّه وتَرْضَوْنَ}.
ولذلكَ شرَّعَ رسُولَ الله (ص) حُرمةَ ظُلم غَير المُسلم في بلادِ المُسلمينَ مُعتبِراً نفسهُ المُحامي الذي سيَترافع عنهُم يَومَ الحشرِ.
يقُولُ (ص) {مَن ظَلَمَ مُعاهَداً أو تَنَقَّصَهُ حقَّهُ وكَلَّفَهُ فوقَ طاقتِهِ أَو أخَذَ منهُ شيئاً بغَيرِ طِيبِ نفْسٍ فأَنا خَصمُهُ يومَ القيامةِ}.
وهذا هوَ عينُ التَّأسيسِ لدَولةِ المُواطنةِ.
٢٠٢٥/٣/١٢