نوفمبر 22, 2024
7676-ملحمة كلكامش

اسم الكاتب : أجراه في برلين : لطيف الحبيب ومصطفى قره داغي


رغم التنوع والغنى الكبير الذي تشمله نتاجات( سليم مطر)المتوزعة بين الفكر والسياسة والتاريخ بالاضافة الى القصة والرواية، الا اننا آثرنا أن يدور الحوار حول نقطة اساسية تهم كثيرا الوضع الحالي في بلادنا الجريحة، ونعني به موضوع (الهوية الوطنية) بالصورة التي قدمها (سليم مطر) في كتبه العديدة، وتبنيه لمفهوم(الامة العراقية) الذي يتخذ الآن اهمية كبرى ومصداقية واقعية في ظل مشاريع التقسيم الطائفي والقومي التي تهدد بلادنا.
ما قدمه كاتبنا من أنشطة وبحوث فكرية ينصب جلها في فضاءات الوطن والهوية العراقية وما يطلق عليه “الأمة العراقية”. له مؤلفات عديدة في المجالين الروائي والفكري، تتمحور حول موضوع (الهوية العراقية)، وقد جعل هدفه الأول والأكبر في حياته الإبداعية تكوين مشروع ثقافي يعيد إحياء” الأمة العراقية ” التي أنهكتها الحروب والصراعات الاقوامية  والطائفية، كما عبر هو عن ذلك.
يشرف حاليا على مجلة “ميزوبوتاميا” التي تصدر في بغداد وهي فصلية خاصة بالهوية العراقية. صدرت له عام 1991 رواية “امرأة القارورة” التي حازت على جائزة الناقد. عام 1997 صدر كتابه الفكري “الذات الجريحة” عن إشكالية الهوية العراقية بتفاصيلها الاقوامية والطائفية والتاريخية والفلسفية والسياسية. عام 2000 صدرت رواية “التؤام المفقود”. عام 2003 صدر كتابه الفكري”جدل الهويات: عرب، اكراد، تركمان، سريان، يزيدية” عن اشكالية التنوعات الاقوامية “العرقية” في العراق المعاصر. بالاضافة الى كتابات فكرية وسياسية في الصحافة معروفة ومستمرة تتعلق مباشرة بتطورات الوطن. يكرس وقته الآن لأنجاز مشاريعه الادبية منها (سيرة  ذاتية) وكذلك (رواية)..

*هناك من يردد ان العراق دولة مصطنعة كما تقول بعض النظريات و حيث إن لكل طائفة وقومية طقوسها واشتراطاتها الخاصة؟
ـ هذه فكرة للأسف أشاعها القوميون العرب لان العراق وبلدان الشام كما يقولون حدودها مصطنعة، دول صنعتها معاهدة ” سايكس بيكو “. وهم يكررون دائما هذا في سبيل تبرير مفهوم الوحدة العربية. وهذا المفهوم تبناه ايضا القوميون الأكراد لتبرير طموحاتهم الانفصالية. كل التيارات القومية تبنت هذه الأطروحة التي بدأها العروبيون لتبرير طروحاتهم الانفصالية.
ولكن حقائق التاريخ تقول عكس ذالك تماما. لم يتعرض الانكليز لأي ضغط لخلق وتحديد الحدود الحالية. ان هذه الحدود موجودة أصلا من الزمن العثماني، فالعثمانيون ليس حبا بعيون العراق حينما شكلوا ثلاث ولايات “ولاية الموصل، ولاية بغداد، ولاية البصرة ” وإنما لتسهيل عملية السيطرة على أنحاء بلاد النهرين. ولاية بغداد ظلت هي مركز العراق وواليها هو الحاكم الفعلي للعراق. العراق الحالي هو نفس العراق العثماني. بل ان العراق الحالي هو اقل من العراق  الطبيعي الاصلي، بلاد النهرين، حيث اقتطعت منه بعض الأجزاء التي ضمت الى الدول المجاورة. ليس هناك في العالم دولة لا تعاني من مشاكل الحدود. الفاصل الطبيعي بين إيران والعراق هو جبال ” زاكاروس ” وهذا الفاصل جغرافي واقوامي وتاريخي. ان الفيلية مثلا، ليس إيرانيون هاجرو إلى العراق، بل لأنهم تاريخيا وجغرافيا عراقيون، حيث ان مناطق تواجدهم جزء من السهل الجنوبي العراقي الذي اصبح فيما بعدا تابعا الى ايران مثل الاحواز.

*   تبني سليم مطر مفهوم (الأمة العراقية) فما هي ملامح هذا المفهوم. علما ان هناك مفهومان للأمة، احدهما يهتم بخاصية العرق مثل الأمة الجرمانية ، العربية، الفارسية ، ومفهوم آخر لا يهتم بشرط العرق، بل شرط الارض وشرط الدولة، مثلما تقول الأمة الأمريكية ، الانكليزية، الفرنسية، السويسرية.. أين يقع مفهومك للأمة العراقية؟
ـ    أنا من أتباع المفهوم الثاني، القائم على اساس الانتماء للدولة والارض المشتركة لمختلف الجماعات العرقية والدينية. بالحقيقة ان المفهوم الاول القائم على الانتماء العرقي المشترك، هو مفهوم زائف وغير واقعي ابدا. فحتى الجماعات القومية التي تدعي بأنها من اصل عرقي مشترك، هي بالاصل خليط من اعراق مختلفة امتزجت مع بعضها البعض وغلبت عليها لغة مشتركة. ثمة سوء فهم بين (الوحدة اللغوية) و(الوحدة العرقية او القومية). عندما نتحدث مثلا عن(الجماعات الهندو اوربيية) او(الجماعات السامية) نعني مجموعات تتكلم لغات متشابهة، ولكن ابدا ليس من اصل عرقي واحد. خذ مثلا، العرب، فأية علاقة عرقية بين السوري والسوداني، من ناحية الشكل والبشرة والاصل. كذلك خذ الهندي الاسود والالماني الاشقر، الاثنان يتكلمان لغتان محسوبتان على (المجموعة الآرية)..

*   لكن مفهوم الدولة الوطنية، هو حديث ليس له اساس تاريخي..
ـ لا أدري ما يعنون بأن مفهوم ( الدولة الوطنية) هو حديث. هذا خطأ. ليست الدولة الوطنية هي الحديثة، بل التنظير الآيدلوجي لها هو الحديث. نعم ان الأيدلوجية الوطنية ( أي القومية) هي الحديثة، بدأت في القرن التاسع عشر، في اوربا. منذ تكون الحضارة على الارض، تكونت الدول الوطنية، في العراق ومصر وعموم الشرق الاوسط  وفي العالم اجمع. وكان الشرط الاولي الحاسم لتكوين الدول هو عامل الوحدة الجغرافية، وليس العرقية، والذي كان يخلق التقاربات بين الجماعات ويسهل على الدولة الهيمنة. خذ مثلا، من اوائل الدول في التاريخ، هن الدولتين العراقية والمصرية. وكل واحد منهما قامت على اساس وحدة العامل الجغرافي، فدولة مصر حول النيل، ودولة العراق حول النهرين.
فيما بعد، عندما تستقوي هذه الدول (الوطنية الجغرافية)، ولكي تضمن حدودها وايقاف هجمات الجماعات القادمة من حواليها، كانت تضطر ان توسع مساحة هيمنتها نحو الأوطان المحيطة بها. وهذا ما فعلته مثلا الدولة العراقية زمن(سرجون الاكدي) اول ملك عراقي وحد الدويلات والامارات المتنافسة وخلق اول دولة عراقية موحدة على امتداد النهرين في الالف الثالث قبل الميلاد، ثم اضطر للتوسع نحو الشمال والغرب، فخلق اول امبراطورية في التاريخ تمتد من جبال زاخاورس حتى سواحل المتوسط.
نفس الكلام ينطبق على جميع الدول والامبراطوريات. خذ مثلا الدولة الرومانية، والتي قامت اولا في مساحة محددة جغرافيا وهي شبه جزيرة ايطاليا التي تقع وسط البحر المتوسط، لكن مصالحها وتهديدات محيطها واخطرهم الدولة القرطاجية في تونس، فرضت عليها ان تمتد لما حولها وتهيمن على جميع انحاء البحر المتوسط. يعني ان العامل السياسي الجغرافي وليس العرقي، هو العامل الحاسم بتكوين الدول والامبراطوريات.

* لكن هنالك قوميات واعراق متميزة عن بعضها لغويا، فماذا تقول ؟
ـ يجب تجنب الخلط ما بين التقارب اللغوي والاصل العرقي. اللغة تنتشر وتفرض نفسها بسرعة على المجموعات البشرية المختلفة عرقيا. خذ مثلا اللغة الاسبانية السائدة حاليا في امريكا اللاتينية، وهي شعوب بغالبيتها ليست اسبانية بل هندية. كذلك اللغة الانكليزية التي تتكلمها في امريكا واستراليا وانحاء العالم شعوب ليست لها اية علاقة عرقية بانكلترا. بل حتى انكلترا نفسها، رغم ان لغتها الانكليزية فرضتها القبائل الجرمانية( الانكلو ساسكونية) فأن الاصل العرقي لغالبية سكانها هم سلت ودانمارك ولاتين!

* الا تعتقد بأن الوحدة اللغوية المتمثلة حاليا بالعربية التي يتكلمها عرب العراق والذين يشكلون حوالي 80% من السكان، لهي دليل على وجود وحدة قومية عرقية تجمعنا مع باقي الشعوب العربية؟
ـ لا ابدا. ليس في العراق وحده، بل الشعوب الناطقة بالعربية، هي بغالبيتها الساحقة ليست لها اية علاقة عرقية بقبائل الجزيرة العربية. بل هم السكان الاصليون الذي تبنوا الاسلام واللغة العربية. هنا يوجب علينا ان نعود الى دور الموقع الجغرافي. خذ المصريين مثلا، فهم تاريخيا يتكونون من عرقين اساسيين، العرق الشمالي الذي ظل يأتي من الشام منذ فجر التاريخ وحتى الهجرات الشامية في اوائل القرن العشرين، ثم العرق الجنوبي الافريقي الذي  ظل يأتي من السودان ايضا منذ فجر التاريخ وحتى الوقت الحالي حيث هنالك جالية سودانية نوبية في مصر تبلغ عدة ملايين. بالاضافة الى اعراق عديدة افريقية واوربية وآسيوية قطنت مصر على مر التاريخ، منذ اليونان والرومان حتى العرب والاتراك والمماليك والارمن وغيرهم.     
العراق أيضا تكون من عدة أعراق، منها الآسيوية مثل الآرييين والأتراك والهنود الذين ظلو يأتون طيلة التاريخ من جهة الشرق والخليج، ثم الساميون الذين ظلوا يأتون من الجنوب والغرب خصوصا عبر بادية الشام واعالي الفرات، ثم الاعراق القفقاسية والاوربية التي كانت تأتي من الشمال. كل هذه الاقوام ظلت حتى وقت قريب تحط الرحال في هذه الوادي الخصيب بحثا عن الخصب وعن الحضارة، وتذوب مع بعضها البعض لتتبنى لغة واحدة، مثل السومرية والاكدية والآرامية والعربية.. خذ مثلا سهل ومدينة اربيل، حتى قبل قرن كان غالبية سكانه من السريان والتركمان، لكن هجرة العشائر الكردية من الجبال المحاذية جعلتها منذ سنين بغالبية كردية. على هذا المنوال يمكن معاينة تاريخ كل المناطق العراقية.

* هل باعتقادك ان مسألة الاصل غير العربي لمعظم الناطقين بالعربية، ينطبق ايضا على اكراد العراق، الذين يعتقدون انهم (عرقيا) آريون(هندو اوربيون)، لكونهم محميين وسط الجبال؟
ـ  نعم انها قاعدة تنطبق على جميع الجماعات اللغوية، بما فيهم الاكراد. بالحقيقة ان القوميين الاكراد يركزون كثيرا على مسألة (الاصل العرقي الآري) (الهندو اوربي) بسبب عقدة الخواجة ومن باب التفاخر الساذج. اتذكر ان صدمتنا الاولى هنا في اوربا، عندما وجدنا بعض اخوتنا الاكراد يرددون امام الاوربيين بكل انتهازية وتنكر: ( نحن لسنا بدو متخلفين مثل العرب.. نحن هندو اوربيون)! معتقدين بان هذا يجعلهم على علاقة عرقية بالاوربيين، مثل (القرعة التي تتباهى بشعر اختها).
وهذا يشبه قيام عرب السودان بالسخرية من اخوانهم غير المستعربين وتسميتهم بـ(العبيد)، رغم ان الطرفين هم سود البشرة افارقة!
بالحقيفة ان الاكراد منذ عشرات ألآلاف من السنين يسكنون جبال زاخاروس التي تفصل ايران عن العراق، وهم جماعات يقينا تعود الى نفس اصل الجماعات الاولى التي قطنت العراق. لان هذه الجبال المطلة على وادي النهرين ظلت طيلة التاريخ وحتى الآن تضخ بالجماعات النازحة من الجبال بحثا عن الخصب. فنحن العراقيون حتى سكان الاهوار منا، يقينا نحمل في دمائنا الكثير من دماء الجماعات النازحة من الجبال الكردية وخصوصا في نواحي دجلة، بينما التأثير الشامي السامي واضحا في نواحي  الفرات.
صحيح ان اللغات الكردية الحالية، مثل السورانية والبهدنانية والزازائية والخانقينية والفيلية، كلها محسوبة على مجموعة اللغات الآرية، الا ان هذا التأثير الآري اتى نتيجة سيطرة بعض العشائر الآرية التي نزحت في الالف الاول قبل الميلاد وفرضت هيمنتها العسكرية واللغوية على السكان الاصلييين لجبال زاخاروس. وقد تأثرت باللغة الآراية الكثير من الجماعات القاطنة والنازحة الى شمال العراق، منهم السومريون والاكديون والآراميون والعرب والتركمان. خذ مثلا حيا، هناك الكثير من عشائر الجبور العربية وكذلك السريان المسيحيون وبعض التركمان من يتكلمون احدى اللغات الكردية بتأثير الجيرة والامتزاج. وقد حدث نفس الشيء لباقي وادي النهرين حينما فرضت بعض الجماعات العربية بعد الفتح الاسلامي، لغتها على سكان العراق الاصلييين احفاد سومر وآشور وبابل.

* اذن انت تعارض تماما المفهوم القومي العرقي للوطن والامة؟
ـ ان مفهوم (الاصل العرقي القومي المشترك) ابتداع عنصري اوربي طورته الحركة القومية الالمانية وطبقته النازية من خلال سياسة التصفية العرقية. وقد شجع الاستعمار الاوربي هذه الحركات القومية في الشرق الاوسط من اجل تدمير الدولة العثمانية. لقد تبناه اولا القوميون الاتراك، ثم العرب والارمن والاكراد، وكذلك اليهود الذين على اساس هذا المفهوم القومي العرقي العنصري نجحو بتكوين (الحركة الصهيوينة) ثم (دولة اسرائيل). بالنتيجة ان الفكرة القومية العرقية، النازية واليهودية والعربية والكردية، لها نفس الاساس الآيدلوجي العرقي العنصري.

*ماهو مفهوم الامة الذي تدعو اليه؟
ـ من الخطأ تماما ربط تسمية( امة) بشرط (الوحدة اللغوية)، مثل القول ب(الامة الكردية) و(الامة العربية). ان من اول شروط الامة، هي (الوحدة الجغرافية ـ التاريخيةـ السياسية)، وليست الوحدة اللغوية. خذ فرنسا مثلا، فأن اللغة الفرنسية كانت بالاصل لغة باريس وما حولها، وغالبية الفرنسيين الحاليين لا زالوا يحتفظون بلغاتهم الاصلية، مثل البروتون والباسك والكورس والاكسوتان، وغيرهم. وبنفس الوقت لم يفكر الفرنسيون ابدا، بالمطالبة بالمناطق المحاذية التي تتكلم الفرنسية، في سويسرا وبلجيكا. وان مفهوم(الامة الفرنسية) يشمل كل سكان الدولة الفرنسية مهما اختلفت اصولهم العرقية، وليس له أي دخل بالجماعات الناطقة بالفرنسية في الدول المجاورة. وآخر الجماعات التي بدأت تدخل في مفهوم الامة الفرنسية هي الجماعات العربية والمسلمة التي بدأت استيطان فرنسا في اوائل القرن العشرين وفي طريقها لان تصبح تماما جزءا من الامة الفرنسية، رغم محافظتها على تمايزها الديني الاسلامي.
نفس الامر ينطبق على سويسرا. رغم وجود جماعات لغوية متعددة، الفرنسية والالمانية والايطالية، الا انهم جميعا يؤمنون بوجود (امة سويسرية) وينتمون لنفس الاحزاب ويتشكل اتحادهم الكونفدرالي على اساس المحافظات(المقاطعات) وليس على اساس الاقاليم القومية والطائفية.

*  بناءا على هذا الخطاب تبنيت مفهوم ” الأمة العراقية “؟
ـ نعم بالضبط. فأنا اعتبر ما ينطبق على غالبية دول العالم، يجب ان بنطبق على العراق. ان التنوع العرقي والديني في العراق ليس استثنائي ابدا، بل يشبه 80% من اوطان العالم. فلما اذا يجب ان ينطبق علينا وحدنا مفاهيم القومية العرقية التي ترفض الاعتراف بوحدتنا كشعب عراقي وكوننا امة، نمتلك شروط الامة، مثل وحدة الجغرافية والتاريخ، بالاضافة الى الوحدة السياسية، الممتدة منذ دول العراق القديم مرورا بالعرب والعثمانيين حتى انبثاق الدولة عراقية الحديثة منذ حوالي القرن.
ثم لا تنسى ان حوالي 80% من العراقيين يتكلمون بلغة واحدة هي العربية، وهي لغة حضارية ودينية يقدسها جميع المسلمين بما فيهم الاكراد والتركمان، كذلك ان حوالي 95% من العراقيين يحملون نفس الاصل الديني الا وهو الاسلام. يعني ان شرط (الوحدة الثقافية) (الدينية ـ اللغوية) متوفر ايضا في (الامة العراقية).

*هناك من يدعي انك ابتدعت امرا غير موجود..
ـ ارجو ان يكون معلوما، انا لم اخترع تسمية(امة عراقية) من فراغ، بل هذه التسمية كانت موجودة وسائدة في الفترة الملكية، وهذا التعبيير موجود في الدستور العراقي الاول، وحتى البرلمان العراقي كان اسمه(مجلس الامة).
ليس انا من خلق الاشكالية، بل القوميين العرب والاكراد وغيرهم هم الذين خلقوا لنا اشكالية ليست موجودة لدى الشعوب الاخرى. كلمة (امة) استخدمها الملك فيصل  ولم يرد عليه احد والدستور العراقي الأول استخدمها أيضا. لكن القوميين جائونا بنظرياتهم التي ربطت الأمة بمعنى القومية أي العرق. وهذا المعنى ليس موجودا في أي بلد آخر. من الطبيعي ان يقال(الامة الامريكية) رغم انه ليس هنالك (قومية امريكية)، ومن الطبيعي جدا ان يقال(الامة السويسرية) رغم وجود ثلاث جماعة لغوية مختلفة(فرنسية والمانية وايطالية).
القوميون العرب اخترعوا لنا مفردات، غير موجودة بأية لغة أخرى ولا يمكن حتى ترجمتها. اعني بالذات مفردتي “قومية ووطنية ” باعتبارهما كلمتين مختلفتين، الاولى تعني (ابناء الامة العربية)، والثانية تعني(القطر)! خذ مثلا، هناك إشكالية يعاني منها المترجمون الى اللغات الاوربية عند ترجمة عبارتي (القيادة القطرية)  و(القيادة القومية) لحزب البعث. اللغتان الانكليزية والفرنسية تترجمان تعبير( القيادة القطرية) إلى (الوطنية ـ NATIONAL) ومنها كلمة(امة ـ  NATION ) أي الشعب الذي يقطن الوطن، اما ( القيادة القومية) فتترجم الى (الاقليمية ـ REGIONAL)، وهذا التعبير ليس له اية علاقة بتسمية( قوم وعرق وامة)، بل يعني (منطقة تتكون من عدة اوطان، مثلما تقول مثلا( اقليم الشرق الاوسط) او (العالم العربي).

* انتم منذ عدة اعوام تصدرون مجلة فصلية باسم(ميزوبوتاميا)، وهي بأعتراف الكثير من المتابعين، تعتبر من افضل المجلات الثقافية الصادرة في العراق، بالاضافة الى انها اول مجلة تعبر فعلا عن (الوحدة العراقية) أي (الهوية العراقية) بكل تنوعاتها الاقومية والدينية والمناطقية. كيف نشأت فكرة هذه المجلة، ومعها مركز دراسات الامة العراقية، هل هي فكرة شخصية؟
ـ الحقيقة انه حلم راودني منذ سنين طويلة، لكن تحقيق الامر قبل سقوط النظام، كان من الناحية التقنية والسياسية صعبا. فكرة المجلة اتتني نتيجة انتباهي للنقص الكبير الذي تعاني منه المنشورات العراقية بالاهتمام بالثقافة العراقية. للأسف الشديد إن النخب العراقية لم تكن مهتمة بالهوية العراقية، رغم ان هذه مهمة اساسية لتكوين اية دولة في العالم. فكيف يمكنك ان تخلق حتى ولو شركة تجارية، دون ان تخلق معها فكرة ان لها قواسم مشتركة بين اجزاءها واعضائها منها المصلحة والاسم والعاطفة وغيرها.
لنأخذ مثلا بسيطا لعقلية النخب التي كانت حتى سنوات قريبة مسيطرة تماما على المجلات الثقافية العراقية، حكومية ومعارضة. لو تصفحت مثلا مجلة (الثقافة الجديدة) الناطقة باسم الحزب الشيوعي، فستجد من بين عشرين عنوانا، ربما موضوعين او ثلاثة تتحدث مباشرة عن العراق، والغالبية الباقية  تخص امورا ليس لها أي دخل بالعراق. عن السوفيت والصين وشيلي وفلسطين والهند ومصر وامور عديدة.  بنفس السياق تكون المجلات القومية العروبية، فهي مهتمة بموضوع الجزائر أو اليمن وإشكالية الصومال أكثر مما تهتم بالموضوع العراقي.نفس الحالة بالنسبة للمنشورات الاسلامية. العراق دائما بالنسبة للثقافة العراقية، ثانوي او حتى مغيب، والخارج، العالمي والعروبي والاسلامي دائما هو الاهم وهو المقدس.
ليس هذا النقص فقط في النشريات العراقية، بل هنالك نقصا افضع، هو ان هناك مواضيعا عديدة اتفقت النخب العراقية على تجنب التطرق اليها، مثل خصوصيات الفئات العراقية المختلفة، والتقاليد الدينية، والمناطق ، والعشائر. لنعطيك مثلا، ان مجلتنا هي اول مجلة حداثية عراقية تتحدث عن موضوع(الملايا العراقية) الذي كان يعتبر موضوعا رجعيا متخلفا بالنسبة للنخب الحداثية العراقية، وحتى بالنسبة للنخب الدينية التي حكمت على (الملايا) بالمروق عن الطريق الصحيح!

* هل تعتقد ان(ميزوبوتاميا) قد تمكنت من تحقيق رسالتها؟
ـ ان رسالة مجلة(ميزوبوتاميا) إلى المثقفين العراقيين، تقول لهم انه من المكن أن نصدر مجلة عراقية مئة بالمئة، وان بلادنا بتنوعها الديني والاقوامي والمناطقي تستحق مجلة خاصة بها. انها مجلة غايتها الاولى والاخيرة(التعريف) بالخصوصيات العراقية. من المعلوم ان عملية التنوير التي تمت في فرنسا، قبل أن تأتي من قبل الفلاسفة والسياسيين، بدأت بما سمي بـ(الموسوعيين) الذين قامو بكل بساطة بالتعريف بكل ما هو موجود في الحياة الفرنسية، من اسماء وتواريخ ودين ومطبخ وزراعة وعلوم وفنون واقوام ومذاهب وجماعات ومناطق وغيرها من الامور. أي العمل على جعل الفرنسي ينتمي لواقعة ولحاضره من خلال التعرف عليه بأقرب صورة وصفية ممكنة. وهذه هي بالضبط الرسالة التي نجهد لايصالها الى المثقفين العراقيين.

* اين يكمن القصور في الفكر العراقي؟
ـ اولا وقبل كل شئ يكمن هذا القصور في (احتقار الذات) و(تقديس الخارج).. نحن ابدا لسنا ضد الانفتاح والتعلم حتى من خصومنا واعدائنا، لكن يجب ان لا يعني هذا الاحتقار لثقافتنا ومبدعينا وخصوصياتنا. للأسف الشديد ان جميع التيارات الحداثية، الماركسية والقومية، تجاهلت واحتقرت خصوصياتنا الثقافية والدينية والاجتماعية، باسم مكافحة الرجعية والتعصب والانفتاح على الحداثة والخارج الاممي والقومي والديني.
لاحظ ان جميع الرموز الثقافية والسياسية الكبرى التي تقتدي بها النخب الثقافية والسياسية العراقية هي دائما خارجية، أجنبية وعربية واسلامية، من امثال كارل ماركس، وماو، وعبد الناصر، وميشيل عفلق، وسيد قطب، والخميني، وغيرهم، مع احترامنا لهم، الا انهم ليسوا عراقيين وافكارهم قد تناسب ظروفهم وبلدانهم.
خذا مثلا، ميشيل عفلق، كيف كان من الممكن ان يصبح مثل هذا الـ(نصف مثقف) مؤثرا في الوضع العراقي، سياسيا وثقاقيا، لو كانت نخبنا تمتلك الحد الادني من الاحترام لنفسها؟
هذا الرجل  لم يكن يعرف أي شيء عن العراق، بل هو جاهل حتى ببلاده؟ هو لا يعرف من هم بني لام أو  الصابئة أو الزيبارين، ولا يعرف معنى الشيعة أو السنة. والانكى من هذا هو حتى لم يهتم بمعرفة هذه الامور لأنه لم يكن مؤهلا لذلك، وكل ثقافته ونتاجه لا يتعدى لغة خواطر المراهقين السطحية الفارغة التي تقرب الى الشعر الرومانتيكي منه الى النثر والتحليل المسؤول والمفهوم. لا ادري كيف تمكن هذا الرجل من ان يصبح منظرا عربيا. والانكى من هذا انه اصبح منظرا لحقبة عراقية كاملة، دولة ونخب واجيال كاملة تبنت رطينه الساذج؟! وهذا دليل محزن ومخزي على مدى الانحطاط الروحي والثقافي الذي كانت تعاني منه بلادنا وشعبنا بجميع نخبه.

*اخيرا، نسألك عن حياتك في جنيف، بالعلاقة بالكارثة الحاصلة في بلادنا، كيف تمضي الايام؟
ـ خلال اعوام طويلة وحتى دخول الامريكان، كنا ننتظر سقوط صدام، لكي يفرجها الله علينا. اما الآن فيقولون لنا يجب ان ننتظر سقوط بوش، حتى يأتينا الفرج. وفي كل الأحوال تبدو حسبتنا طويلة. المهم الله كريم. اما بالنسبة لحياتي في جنيف، فأنها لا  تختلف عن اية مدينة غربية: نفس المكدونالدات وانماط الشوارع وماركات السيارات واشكال البنايات والاغاني السائدة واجواء الحانات، وحتى تنوع الوجوه وتعدد الاعراق والجاليات تكاد ان تكون نفس النسب.
الشيء الوحيد الذي يمكن ان يختلف هو(الانا).. نعم (اناي) كيف يمكنها تجد نفسها الحقيقية ولا تضيع وسط هذه العواصف الهوجاء والبحر المتلاطم من المؤثرات السمع ـ بصرية والدعايات الخلابة عن جنان لم يتخيلها لا سيدنا المسيح ولا نبينا محمد. كيف اجعل روحي المرهفة الحساسة المسكينة الطيبة تقاوم المغريات المهلكة والمتعبة والمضنكة لهذه الحضارة المعاصرة التي تستحق بجدارة تسمية : ( حضارة الوعود الزائفة) ( حضارة المكياج الخداع).. حضارة التجديد والتجديد الى حد اللهاث وفقدان القوى. كل شيء نقتنيه اليوم حتى لو كان حبيبا او كتابا سماويا، لا بد ان نغيره بعد فترة وجيزة، لأن الجميع يرددون علينا ( انه اصبح عتيقا وهناك غيره افضل وارخص منه..)..
لعل الكتابة بالنسبة لي هي (شباك العباس) التي اتمسك بها لكي احافظ على سفينتي وأحميها من لجاج هذا الطوفان الحداثي. ومنذ بضعة اشهر، قررت التوقف عن الكتابة الفكرية والسياسية للتفرغ لانجاز مشاريعي الادبية المؤجلة: مجموعة قصص ورواية وسيرة. وحاليا بطور الانتهاء من سيرة ذاتية(ادبية نفسية) نشرت منها عدة فصول، وستصدر قريبا بالعربية وكذلك بالفرنسية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *