رياض الفرطوسي
لا يشبه جمعة اللامي أحداً، ولا يشبه أحدٌ جمعة. كان يمشي في اللغة كمن يسير في حقل ألغام، لا ليُفجِّر، بل ليحرِّر المعنى من قيده. كل نصٍّ له، أشبه بصرخة تُقال بصمت، وكل جملة فيه، كأنها نافذةٌ تُفتح على غيبٍ نجهله. من يقرأه، لا يقرأ كاتباً فحسب، بل يقرأ تاريخاً عاشقاً للتمرد، صوتاً لا ينام، وقلقاً لم يهدأ أبداً.
كان جمعة يكتب بعينين مشغولتين بالحقيقة، وبقلب تذوق طعم الموت أكثر من مرة، ولم يألفه. غرقٌ في الطفولة، رصاصٌ في معسكر، عتمة سجن، و«موت طبي» عاد منه ليستيقظ على موسيقى لا يعرف إن كانت من الدنيا أو من مكان أبعد. وبين الحياة والحياة، ظلّ يمسك قلمه كمن يمسك بحبله الأخير، لا ليتشبث، بل ليواصل السقوط في العمق.
جمعة لم يكن ينتمي إلى جنس أدبي واحد. لم يكن مجرد قاص، أو شاعر، أو روائي. كان، ببساطة، كائن كتابة. من النوع الذي حين يكتب، يذوب الشكل، ويولد المعنى في أقصى لحظاته البشرية. لا نصٌّ له يشبه الثاني، لأن كل نصّ هو هوية جديدة، وصوتٌ جديد ينبثق من دخيلةٍ لا تهدأ.
تعلّق بالمقدّس من نافذة الشكّ، وطرق باب الإيمان لا ليسأل، بل ليُبصر. سُئل ذات مرة: “وماذا تريد من الله؟”، فقال ببساطة تقطع النفس: “أريد أن أراه”. هكذا، دون فلسفة، دون تكلّف، دون رتوش. جمعة لم يكن يؤمن بالكلمات المنمّقة، كان يؤمن بنورها أو لا شيء.
رحيله ليس عابراً. الذين يشبهونه لا يغيبون، بل يتوارون في كتبهم، وفي قلوب من عرفهم. جمعة لم يكن صاحب قلم فقط، بل صاحب موقف، ورؤية، ورسالة. وقد منح من روحه لمن حوله، وخصّ بعضهم بما يفيض عن الكلمة.
جمعة اللامي الذي شاركني الحلم والكتابة:
“كان أخاً وصديقاً، وضع خبرته وعلاقاته معي عندما أصدرت مجلة سطور، فكان له الأثر الكبير في إثراء المجلة بالأفكار.”
وفي واحدة من أجمل وأعمق شهاداته بحقي :
“(أتابع ما ينشره الزميل رياض الفرطوسي، رئيس تحرير مجلة سطور،
منذ سنوات، فأجد لديه الحرص على العلانية في إشاعة ما يؤسس لما يعتقد به،
أو يثير هواجسه، لا سيما في الميادين الثقافية والاجتماعية،
فأرى فيه قلماً يدعو إلى انتهاج فضيلة العلم،
ويُعلي من شأن مفهوم الفضيلة.
ومتى ما اقترنت الفضيلة بالعلم،
حقق الكاتب نُجْحاً على طريق بناء الإنسان،
كما ورد ذلك ـ مضمونياً، على لسان سقراط.
وإن هذا التواصل بيننا
هو نمط من أنماط التراسل بين الأدباء،
لا سيما في عصرنا الحديث، كان شأناً معتبراً بين جماجم الكتاب العرب،
وبرز في هذا المشهد،
الراحل ألبير أديب ـ صاحب مجلة الأديب اللبنانية،
ثم مجلة العلوم اللبنانية أيضاً).”
جمعة كان يكتب كما يُحب، ويحب كما يكتب. صادقاً، نقيّاً، ومتشبّعاً بجراح وطنٍ، وأمل إنسان. لم يسكن يوماً نصاً واحداً، بل كان في كل مرة يولد من جديد، كما لو أن الحياة لم تكتمل فيه بعد.
واليوم، حين نكتب عنه، لا نرثيه. بل نحاول أن نقبض على ظلّه، أن نلمس ذلك البعد الساكن في صوته، أن نحاكي صمته، ذلك الصمت الذي “يكون أبلغ من الصوت البشري في الإفصاح”.
وداعاً أيها الشاهد على موتك، والناجي من نهاياتك.
وداعاً أيها الذي اختار أن يرى الله… على طريقته.