الكاتب : دكتور ابو عبد الدليمي
—————————————
الدين والسياسة في العراق: إشكالية
الاستغلال ومسؤولية البناء الوطني
بقلم: د. أبو عبد الدليمي
على مدى العقود الماضية، مرّ العراق بتحولات عميقة كان الدين فيها حاضراً بقوة، ليس كقيمة روحية تهذب الإنسان، بل كأداة سياسية توجه القرار وتؤثر في مصير الأمة. هذه الظاهرة، التي تمثلت بالحكم باسم الدين وتسييس الفتاوى الدينية، لعبت دوراً محورياً في تمزيق النسيج الوطني العراقي وتعميق الانقسامات الطائفية والمجتمعية.
إن بناء دولة وطنية مدنية حقيقية، لا يمكن أن يقوم في بيئة تُختزل فيها المواطنة إلى انتماءات دينية أو مذهبية أو عرقية. فالدولة الحديثة تتأسس على مبدأ المواطنة المتساوية والاحتكام إلى القانون لا إلى المرجعيات الدينية، أيًا كانت. وإن التجربة العراقية بعد 2003 أثبتت أن تداخل الدين بالسياسة أدى إلى تكريس المحاصصة الطائفية، وأضعف المؤسسات، وفتح المجال أمام التدخلات الخارجية تحت عناوين دينية.
لقد تم استغلال الدين في العراق بوصفه غطاءً للسلطة، لا باعتباره عاملًا لتزكية النفوس وبناء الإنسان. حين تحوّل الدين إلى سلطة رسمية عبر المرجعيات، فُرضت القرارات السياسية من منطلقات دينية، وتم اختزال الوطنية بالولاء لطائفة أو مرجعية محددة، بدلاً من الولاء للوطن والمجتمع. وهكذا، أصبح الدين جزءًا من منظومة الصراع السياسي، وفقد الكثير من طهارته ودوره الإصلاحي.
إن القراءة العميقة للظاهرة الدينية تشير إلى أن الدين، في جوهره، علاقة فردية روحية بين الإنسان وربه. هو تجربة إيمانية شخصية لا تقبل الوساطة السياسية ولا تتحمل أثقال المصالح الدنيوية. الدين يدعو إلى الرحمة والعدالة، لا إلى الاصطفاف السياسي أو الاقتتال باسم العقيدة. لذلك، فإن محاولات تحويل الدين إلى مشروع سياسي دائمًا ما تقود إلى الاستبداد، لأن السلطة السياسية بطبيعتها لا تتحمل الطابع المطلق الذي تتميز به العقيدة.
إن التمييز بين المجال الفردي (الإيمان الشخصي) والمجال العمومي (الدولة والقانون) هو حجر الأساس لبناء مجتمع تعددي حر ومستقر. وعليه، فإن مستقبل العراق لن يتحقق إلا بفصلٍ حقيقي بين الدين والسلطة، بحيث تُدار شؤون الدولة بالكفاءة والعقلانية والعدالة، وتُترك حرية الإيمان والتدين ضمن دائرة الحرية الفردية المصونة.
ندعو إلى عقد مؤتمر وطني عراقي جامع، يُؤسس لعقد اجتماعي جديد يقوم على أربعة أعمدة رئيسية:
• المواطنة المتساوية.
• حكم القانون والمؤسسات.
• احترام الحرية الدينية باعتبارها حقًا فرديًا لا وظيفة سياسية.
• رفض المحاصصة والطائفية والتمييز بكل أشكاله.
العراق اليوم أمام مفترق طرق حاسم: إما أن نواصل الارتهان لمنظومة دينية-سياسية دمرت نسيجنا الوطني، أو أن نؤسس لدولة مدنية حديثة، تكون فيها سيادة القانون فوق الجميع، وتكون المواطنة الهوية الوحيدة التي ينتمي إليها الجميع.
الدين لله، والوطن للجميع، والمسؤولية تقع علينا جميعًا: علماء ومفكرين، قادة ورجال دولة، ومواطنين، لصياغة هذا المستقبل المنشود.