تفكيك السيادة عبر الشيفرة الطائفية: كيف يُعاد إنتاج سايكس–بيكو بهندسة ناعمة؟

حسام البدري

✦ مدخل: الهويّة بوصفها أداة هندسة لا انتماء

في زمن لم تعد فيه الدول تسقط بالقوة، بل تتآكل بالهوية، تُستدعى الطائفية من أعمق طبقات البُنى الاجتماعية، لا بوصفها ميراثًا عقديًّا، بل بوصفها كودًا هندسيًّا لإعادة تشكيل الدولة.

لم تعد الجيوسياسة تُمارَس عبر المدافع، بل عبر شيفرات الانتماء، التي إذا أُعيد توزيعها رمزيًّا، تخلخل مركز السلطة، وتنتج “دولًا داخل الدولة” دون انقلاب ولا حرب.

✦ من سايكس–بيكو الكلاسيكي إلى النسخة السيميائية المعاصرة

سايكس–بيكو 1916 لم يكن مجرد اتفاق حدود، بل عملية تفكيك معرفي للمشرق:

قُطّعت الأقاليم وفق خطوط مذهبية وإثنية صامتة.

زُرعت حدود وظيفتها إنتاج التنافر لا الحماية.

وظهرت الدول لا ككيانات سيادية، بل كوكلاء عن خرائط لم تُصنع في الداخل.

اليوم، يعود “سايكس–بيكو” بنسخته الناعمة:

ليس عبر خرائط جديدة، بل عبر هندسة ما تحت الخرائط:

عبر المحاصصة.

التمثيل الطائفي.

التسليح الرمزي للهويات.

فما فعله الخط الأحمر بين حلب وبغداد عام 1916… يُعاد اليوم بلون طائفي على الخريطة نفسها، ولكن بأدوات إعلامية، قانونية، وإنسانية تُسوّق كـ”حلول ديمقراطية”.

فهل نعيش اليوم “سايكس–بيكو الطائفي” بصيغة جديدة؟ لا تُقسَّم فيه الأرض، بل تُجزّأ فيه الهويّة؟

✦ الانقسام كسلاح: الطائفة بوصفها حاوية للسلطة الخارجية

في بيئات ما بعد الدولة، تتحول الطائفة إلى:

جهاز استقبال للنفوذ.

وحدة تفاوض بالوكالة.

بنية تتسلل من خلالها القوى العظمى لإعادة ضبط السيادة من الداخل.

فكما قُسّمت المنطقة وفق “اتفاق مصالح” بين بريطانيا وفرنسا، تُعاد اليوم قسمة الولاءات عبر هندسة “مراكز القوى الطائفية” التي تشبه السفارات السيادية داخل جسد الدولة.

✦ الجيوسياسة الجديدة: أين تُصاغ الولاءات؟ ومن يرسم خريطة الداخل؟

لم تعد العواصم ترسم الخرائط، بل المراكز الهوياتية:

في كل طائفة مدعومة خارجيًّا هناك “بوابة خلفية” تعيد هندسة الداخل:

لا بالاحتلال، بل بالتمويل.

لا بالقواعد، بل بالمنصات الإعلامية والدينية والمجتمعية.

لا بإلغاء الدولة، بل بتحويلها إلى شركة إدراية لتوازنات طائفية.

وهنا تتحوّل الهويّة من انتماء إلى “سلاح جيوسياسي”، ومن مكوّن إلى “شيفرة توجيه”.

✦ من التفكيك الإدراكي إلى الإدارة الفوضوية: سايكس–بيكو كهيكل ظل في القرن 21

ما لم تستطع خطوط سايكس–بيكو فعله بالسلاح، فعلته السياسات الحديثة بـ:

تجزئة الولاء الوطني.

شرعنة التقسيم عبر دساتير المحاصصة.

توظيف الطائفة كعنصر إداري لا شعبي.

في الأصل، كانت سايكس–بيكو اتفاقًا على توزيع السيطرة.
اليوم، هي إطار ذهني يُعاد تشغيله بأدوات أخرى:
الإعلام، التعليم، التمويل، والتدخل الإنساني — كلها “قوى ناعمة” تُعيد توليد الحدود داخل الدول، لا بينها فقط.

✦ هل فقد العالم مناعته ضد هندسة الهويات؟ وأين موقع “الدولة” من هذا كله؟

الأسئلة لم تعُد: كيف نحمي الحدود؟

بل: كيف نحمي المعنى الواحد للدولة داخل حدودها؟

لأن الطائفية ليست دائمًا نتيجة داخلية… بل كثيرًا ما تُضخّ من الخارج، بوصفها نسخة محدثة من أدوات السيطرة.

فهل نحن داخل لحظة “سايكس–بيكو الثانية”؟ حيث تُفكك الدول بأدوات الطائفة، وتُدار عبر خطاب المصالح المقنعة؟

✦ خاتمة استشرافية: خرائط بلا خطوط… ودول بلا سيادة كاملة

بين الاتفاق القديم الذي أعاد تشكيل المشرق، والمشهد الحديث الذي يُعاد فيه تشكيل الداخل الطائفي، تتقاطع الخيوط:

سايكس–بيكو 1916 أعاد توزيع الأرض.

سايكس–بيكو 2025 يعيد توزيع الولاء، دون جيوش، ودون احتلال.

وحين تسأل: أين تقع “الدولة”؟

ستجدها مُشتتة بين أجهزة الطائفة، وهواجس الخارج، وأدوات إدارة لا تحكم، بل تُسوّي بين الأضداد.

فهل نعيش نهايات الدولة الموحّدة؟
أم بدايات خرائط معنوية جديدة لا تُرسَم بالحبر، بل تُبنى بالمفاهيم؟
وهل نمتلك بعد كل هذا الحق في أن نرسم خرائطنا بأنفسنا… أم أننا لا زلنا نقرأها من ترجمات سايكس وبيكو بلغةٍ أكثر نعومة وأعمق أثرًا؟