الكاتب : الدكتور ابو عبد الدليمي
—————————————
النظام السياسي في العراق… حصانٌ معاق ينتظر طلقة الرحمة
بقلم: د. أبو عبد الدليمي
بعد أكثر من عقدين على ما سُمِّي بـ”التحول الديمقراطي” في العراق، تُسدل الحقيقة ستار الوهم عن مشهد سياسي مشوّه، تتزايد فيه مؤشرات الانهيار والانفصال التام بين السلطة والشعب. فالعراق اليوم، أشبه ما يكون بحصانٍ جريح، مثقلٍ بعربات الطوائف، مكبلٍ بقيود الخارج، ينتظر طلقة الرحمة لينتهي به المطاف خارج ميدان الدولة، لا إلى خط النهاية.
مقاطعة الانتخابات… موقف لا عزوف
في الدورات الانتخابية الثلاث الأخيرة، وصلت نسبة المقاطعة الشعبية إلى أرقام غير مسبوقة، تجاوزت 80% في بعض المناطق. ذلك لم يكن مجرد “عزوف”، بل موقف واعٍ واحتجاج سياسي ضد نظام لم يعد يمثل أحدًا، سوى من خلقه ويديره.
إن هذا الرفض الجماهيري العارم، يُعبّر عن قناعة راسخة لدى الشعب بأن التغيير الحقيقي لن يأتي من داخل صناديق صُنعت خارج الحدود، تُدار بيد طبقة سياسية عُينت في الظلام، وتُموَّل في العلن.
التغيير القسري… والاحتلال المغلف بالديمقراطية
ما حدث في 2003 لم يكن تحريرًا، بل إعادة استعمار بأدوات ناعمة. لقد فُرض التغيير بقوة السلاح الأمريكي، مدفوعًا بأكاذيب اعترف بها لاحقًا صانعوها، من جورج بوش الابن إلى توني بلير. أما الحقيقة، فهي أن العراق كان العقبة الأصعب في وجه “سايكس بيكو الجديد”، الذي سطّرت خطوطه كوندوليزا رايس، ووقعه في الهامش هنري كيسنجر.
ما حدث لم يكن فقط إسقاطًا لنظام استبدادي، بل إسقاط لمفهوم الدولة المركزية المستقلة، وإعادة تشكيلها على نمط هجين هشّ، يكرّس التفكيك المذهبي والعرقي والجهوي.
النظام السيامي… والتشظي الداخلي
المشكلة الكبرى في النظام السياسي العراقي أنه بُني على تفكيك المجتمع لا لحمته. لم يعد المواطن يعرف نفسه كمواطن، بل كـ”مكوّن”، يعيش في وطن مُقسّم على الورق، وموزّع في الولاءات بين المرجعيات، أو السفارات.
صار الولاء للزعيم الطائفي أو القومي أعلى من الولاء للدولة. وانتهى مفهوم “العراقي” الجامع، لصالح هويات فرعية تتنازع الحصص، في نظام أقرب إلى مولود سيامي عاجز، لا يقوى على السير ولا يملك الانفصال دون موت أحد الأعضاء.
سلطة بلا عدالة… وشعب بلا دولة
عندما يغيب العدل، تغيب الدولة. يتحول القانون إلى سلاح، وتصبح المناصب مغنمًا للولاء، لا أمانة للكفاءة. النخب الحاكمة لم تأتِ من ميادين النضال أو ساحات الفكر، بل من أبواب السفارات والمنافي والمخابرات الأجنبية.
من جاءوا للحكم لم يأتوا بمشروع نهضوي، بل بجوع إلى السلطة وامتيازات السلطة. لم يكونوا رجال دولة، ولن يكونوا كذلك، لأنهم لم يعرفوا يومًا كيف تُبنى الدول، بل كيف تُدار الشعوب كرهائن.
الدين في خدمة السلطة… والمنابر أُسرت بالتخلف
أسوأ ما في المشهد، أن الدين نفسه تم توظيفه لتبرير هذا الانحدار. تحالفت السلطة مع بعض منابر التخلف والتجهيل، وتحوّلت نصوص الدين إلى شعارات فارغة في خدمة أحزاب غارقة في الفساد.
في الوقت الذي كانت فيه القوى الغربية تبدي “تسامحًا” حتى مع عبدة الشيطان، كانت الأدوات الدينية في العراق تُستخدم لقمع أبناء الدين ذاته، وتكفير الأصوات الحرة، وكأنّ الوطن لم يُخلق إلا ليُحكم بمنابر الميليشيات.
العراق والمنطقة أمام لحظة مفصلية
المنطقة اليوم تغلي. حرب غزة أعادت خلط الأوراق، وارتداداتها تضرب العمق الإقليمي. إيران تتراجع تكتيكيًا تحت ضغط العقوبات، وتركيا تعيد ترتيب أولوياتها، بينما القوى الدولية ترسم حدودًا جديدة بالنار والخرائط.
وفي وسط كل هذا، يقف العراق مشلول الإرادة، بلا رؤية، بلا سيادة. الطبقة الحاكمة منشغلة بالمكاسب، والشعب تائه بين الحلم والخذلان، بينما الوقت يمر… والعالم لا ينتظر.
من الإنقاذ إلى الانقراض؟
ما يحتاجه العراق ليس مجرد انتخابات مبكرة أو تعديل قوانين، بل ولادة سياسية جديدة، تعيد بناء العقد الاجتماعي من جذوره، على أساس المواطنة لا المكوّن، على الكفاءة لا الولاء.
النظام الحالي يشبه حصانًا معاقًا، كل من يركبه يثقل عليه، وكل من يدفعه يجرّه نحو الهاوية. وإذا لم يتم اتخاذ قرارات مصيرية تُنقذ ما تبقى من الدولة، فإن طلقة الرحمة، رغم قسوتها، قد تصبح أكثر إنسانية من استمرار هذا الموت البطيء.