جوسكا.. الحروب الصامتة في أروقة العقل

رياض سعد

ليست “جوسكا” مرضًا، بل هي معركة فكرية سرية تدور رحاها في صمت الرأس، حيث لا صراخ، ولا دماء، بل كلمات تتناطح في الخفاء، ووجوهٌ تُحاكم في مسرح الذاكرة. إنها تلك اللحظات التي نحياها داخل أدمغتنا حين نُعيد الحوار ذاته ألف مرة، نُجادل من أساء، وننتصر أخيرًا بكلمات لم تُقال يومًا.

الجوسكا ليست جنونًا، بل نوعٌ من الذكاء المتألم؛ إنها طريقة العقل في إعادة كتابة ما جرى عندما كان اللسان عاجزًا أو خائفًا.

🔹 في عمق الظاهرة

في أعماق كل إنسانٍ مزيج من الصمت والكلام المؤجَّل.

حين يفلت الموقف، ويُقال ما لا يُراد، أو يُصمت عما يجب أن يُقال، يبدأ العقل بإنشاء مسرحٍ داخلي يتقمّص فيه أدوار الجميع: الخصم، الحبيب، الصديق، وحتى العدو.

وهكذا تتحول الجوسكا إلى دراما ذهنية كاملة؛

المشهد الأول: حوارٌ لم يحدث.

المشهد الثاني: انتقامٌ بالكلمات.

المشهد الثالث: راحةٌ مؤقتة تذوب بعد لحظة، فيبدأ العرض من جديد.

الجوسكا ليست سوى محاولة متأخرة لإصلاح التاريخ الشخصي؛

تلك المواقف الصغيرة التي كسرتنا دون أن نملك حينها حق الرد.

🔹 الأسباب الخفية

يولد هذا الحوار الداخلي من التوتر بين ما نُظهره وما نكتمه.

حين يقمع المجتمع التعبير، وحين يُربّى الناس على الصمت لا المواجهة، ينشأ في داخلهم هذا الصوت الذي لا يسكت.

إنها إذن ليست ظاهرة فردية، بل نتاج ثقافة كاملة من الكبت والمجاملة والخوف.

الذين لم يتعلموا قول “لا” في وجوه الآخرين،

يتعلمون قولها في داخلهم، مرارًا وتكرارًا،

إلى أن تصبح “لا” في الرأس جرحًا لا يلتئم.

🔹 التداعيات النفسية

قد تبدو الجوسكا تافهة، لكنها في حقيقتها استنزافٌ خفي للعقل والوجدان.

إنها تسحبنا من الواقع إلى المتخيل، من الممكن إلى المستحيل، حتى نصحو منهكين وكأننا قاتلنا جيوشًا.

هي التي تجعلنا نبتسم للناس في النهار،

ونتشاجر معهم في الليل دون أن يدروا.

ومع تكرارها، يتحول الذهن إلى غرفة مغلقة لا يدخلها أحد،

ويبدأ صاحبها بالانسحاب من العالم الواقعي رويدًا رويدًا،

حتى يصبح الصمت لغته، والانعزال وطنه، والتفكير مرضه الأليف.

🔹 البعد الاجتماعي والسياسي

في مجتمعات القهر والخوف، حيث يُكبت الصوت الحقيقي،

تصبح الجوسكا ظاهرة جماعية أكثر منها فردية.

فالشعوب المقهورة تمارس “جوسكا” سياسية دائمة؛

تتخيل ما كانت ستقوله للطغاة لو استطاعت،

وتحاور نفسها عوضًا عن أن تحاور سلطتها.

هكذا يتحول القهر الجمعي إلى صمت جماعي متكلم في الداخل،

فتنمو الجوسكا في الأمة كما ينمو العفن في زوايا البيت القديم.

🔹 العلاج بالصدق والمواجهة

الطريق إلى الشفاء ليس في إسكات الجوسكا،

بل في الاعتراف بها أولًا،

وفي تعلّم أن نقول ما نريد حين يجب أن يُقال، لا بعد فوات الأوان.

أن نحيا في اللحظة، لا في تكرارها.

أن نصالح ذواتنا بدل أن نحاكمها في محكمة الذاكرة.

أن نفهم أن الصمت قد يكون حكمة، لكنه حين يُفرض بالقهر يتحول إلى سمٍّ بطيء.

🔹 خلاصة

الجوسكا ليست ضعفًا، بل صرخة الروح حين لا تجد أذنًا تصغي لها.

إنها محاولة العقل لإنقاذ ما تبقى من كرامة الحرف بعد فوات الموقف.

لكن إن لم نُوقفها، تحوّلت إلى سجنٍ لا نغادره إلا إلى التعب.

فليكن ردّك الأول في الحياة هو ردّك الحقيقي،

ولا تؤجل معاركك إلى الداخل.

فالعقل ليس ساحة حرب، بل بيتٌ ينبغي أن يسكنه السلام.