بين أنوار شام “معاوية” الساطعة ومأساة ظلام كوفة “علي” أحزاب شيعة السلطة الذين أذلوا العراق !!؟

صباح البغدادي

(*) عندما استلمت أحزاب الإسلام السياسي الطائفية الراديكالية السلطة في العراق بعد 2003، عمدت بشكل ممنهج وتعسفي إلى إلغاء مفهوم الهوية الوطنية الجامعة والتي كانت – رغم كل عيوبها – ترى العراقيين مواطنين متساوين تحت راية وطن واحد وجامع وشامل لجميع أطيافه ، واستبدلتها بترسيخ الهوية الطائفية والمذهبية والعرقية الضيقة ، وجعلت الانتماء الفرعي ( شيعي، سني، كردي، تركماني …) هو المعيار الوحيد لتوزيع الحقوق والواجبات والولاءات .  كان الهدف الاستراتيجي على المدى البعيد واضحاً وجليا لغرض تحويل المجتمع إلى كتل طائفية متصارعة فيما بينها ويسهل السيطرة عليها، ومنع تكوّن أي عقل جمعي وطني قادر على الثورة على هذه الأحزاب نفسها أو محاسبتها . فبدل أن تكون مفهوم الدولة الوطنية أداة لتوحيد المكونات المجتمعية فيما بينها ، صارت أداة لتكريس حالة الانقسام والتشرذم ، وبدل أن يكون المواطن شريكاً في الوطن ، صار رهينة لانتمائه الفرعي الذي تتحكم به الميلشييات والحزب والزعيم الطائفي .  بهذا الشكل ، لم تُحكم العراق فحسب، بل دمّرت أولاً فكرة “العراق” كوطن لجميع أطيافه؟.

في الثامن من ك1 2024، شهدت سوريا لحظة غيرت معها مجرى تاريخها الى غير رجعة تمثل بسقوط مدوي للنظام وبعد 13 عاماً من الحرب الاهلية  الوحشية ، وأكثر من خمسة عقود من حكم عائلي قمع الشعب بالحديد والنار و أهدر دماءهم بالداخل والخارج . ذلك اليوم ، الذي أعلنت فيه فصائل وتنظيمات “هيئة تحرير الشام ” بداية فصل جديد، مليء بالتحديات والأمل والمستقبل , ولكن اليوم غير الأمس ، ومع انتهاء الأيام القادمة لمناسبة مرور عام كامل على هذا الحدث التاريخي المهم ، نحاول أن نبرز معها الدروس والعبر المستفادة، والإنجازات التي تحققت وما تزال تجري على خطى ثابتة ، والرؤى المستقبلية، مع مقارنة حاسمة وساخطة وجارحة لما ابتلينا به ومقارنة بين مسار سوريا الجديدة والعراق بعد سقوط النظام . فعلا إنها قصة شعب وارادة وقيادة سياسية تريد وتعيد بناء نفسها من الصفر لتحول معها رماد وحطام الحرب الاهلية الى اساس وبنيان مرصوص لدولة تعيد معها صياغة نهجها وتنميتها الاقتصادية والمجتمعية وتغير العقل الجمعي لمفهوم الصحيح لأسس المواطنة وبعيدا عن التقسيمات المذهبية والطائفية والقومية والعرقية ، مستنداً إلى حكمة قيادته الجديدة والتي أتت من منبع اسلامية وعقيدة جهادية غير ما عرفناها وشاهدنا أعمالها وافعالها في العراق بعد الغزو والاحتلال بل هو مغاير تماما للواقع والحقيقة التي كانت تنطق وتروج لها مختلف عناوين قيادات احزاب الاسلام السياسي قبل الغزو والاحتلال بوجوب اعادة دولة العدل الإلهية للإمام (علي) . وعلى العكس تمامآ لما حدث في العراق فان سوريا والتحديات الأولى وصمود الثوار على مختلف توجهاتهم العقائدية والإسلامية كانت انطلاق شرارة الثورة السورية وهو رد فعل طبيعي على عقود من الاستبداد البعثي والعائلي والمذهبي ، الذي أدى إلى تفاوتات اجتماعية واقتصادية حادة، وانتهاكات لحقوق الإنسان، وتآمر مع قوى إقليمية وحزبية خارجية . لكن الذين قادوا “رد العدوان” في 2024 كانوا فصائل وتشكيلات المعارضة السورية ذات التوجه الإسلامي والعقائدي ، وتمثلت بـ “هيئة تحرير الشام” ، التي جمعت تحت لوائها قوى وطنية ومذاهب متنوعة . في غضون 12 يوماً فقط ، انهار الجيش النظامي ، وسقطت دمشق دون مقاومة عنيفة ، بفضل الانهيار الداخلي للنظام الذي أضعف الظرف الاقتصادي والنقمة الشعبية العارمة والساخطة على هذا الحكم العائلي القمعي . والأيام الأولى بعد السقوط كانت مليئة بالتحديات ومخاوف من فوضى أمنية وعنف داخلي بين مكونات المجتمع السوري، وتهديدات خارجية، وانقسامات طائفية مكبوتة . إسرائيل، على سبيل المثال، أجرت عمليات عسكرية محمومة في جنوب سوريا وما تزال ، ومحاولة جر البلاد إلى صراع مباشر داخلي ، مستغلة الفراغ وكما أثارت النعرات الطائفية المذهبية، التي غذاها النظام السابق ، مخاوف من تكرار سيناريوهات الاقتتال الداخلي . ومع كل ذلك، أجهضت القيادة السورية الجديدة هذه الجنين المسخ قبل أن يولد، من خلال حملات أمنية سريعة ومبادرات مصالحة وطنية. كان قاموس القيادة واضحاً: إعمار الإنسان والبناء، لا القتال – على الأقل ليس الآن، وليس في وقته.هذه الحكمة الاستراتيجية، التي ركزت على الاستقرار الداخلي أولاً، فرقت بين سوريا والعراق. في العراق، أدى تفكيك الجيش النظامي وإهمال التوازنات الطائفية والمذهبية إلى فوضى أمنية دامت سنوات طويلة وما تزال نشاهد اثارها باقية لغاية الان ، مع صراعات سنية-شيعية أودت بحياة مئات الآلاف . أما في سوريا، فقد شكلت الحكومة الانتقالية حواراً وطنياً في شباط 2025، وأصدرت إعلاناً دستورياً في اذار ، يضمن تمثيل جميع الأطياف، مما منع تفاقم التوترات المذهبية والقومية واجهضها . اليوم تسارع خطى البناء والعودة الدولية بعد أقل من عام، في البناء والتعمير، محققة إنجازات ملموسة تثير الإعجاب. واقتصادياً، أصبحت إعادة الإعمار الأولوية ومع رفع الاتحاد الأوروبي للعقوبات في شباط 2025، تلاه رفع أمريكي كامل في شهر أيار وبناءً على طلب سعودي ومن تركيا ، مما فتح أبواب الاستثمار الداخلي والأجنبي والعربي . وتقدم أكثر من 500 شركة طلبات لفتح فروع في جميع المحافظات السورية، وأعلنت الحكومة عن مشاريع في الطاقة والنقل، مع تعاون مع الولايات المتحدة في مكافحة “داعش”. اجتماعياً، عادت ملايين اللاجئين تدريجياً، مدعومة ببرامج إعادة تأهيل ، وأصبحت الخدمات الأساسية – الكهرباء، المياه، التعليم – أولوية، مع انخفاض معدلات البطالة بفضل إصلاحات السوق الحرة المعدلة.وأما على الصعيد الدولي، فإن أبرز إنجازاتها هي عودة سوريا إلى المجتمع الدولي بقوة. لقاء الرئيس الشرع مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ثلاث مرات – الأولى في السعودية في أيار 2025، الثانية في البيت الأبيض في ت2 ، والثالثة في إطار ثلاثي مع تركيا – يمثل سابقة تاريخية. لم تحصل أي رئيس عربي سابق على مثل هذا الاهتمام، الذي أسفر عن تمديد تعليق عقوبات “قيصر” لـ180 يوماً، وانضمام سوريا إلى التحالف الدولي ضد “داعش”. هذه اللقاءات ليست مجرد بروتوكول ؛ إنها رسائل استراتيجية تعزز الاستقرار الإقليمي ، وتفتح قنوات اقتصادية، وتضمن دعماً لدمج قوات سوريا الديمقراطية في الجيش السوري الجديد.في المقابل، يبرز العراق كمثال مضاد. بعد سقوط نظام صدام حسين ، استلم الحكم فصائل وأحزاب وتنظيمات ذات توجه إسلامي راديكالي شيعي . ولكن بدلاً من البناء والتعمير واعادة الهوية الوطنية ، غرقت هذه الأحزاب الاسلام السياسي في السرقات والفساد، ورهنت العراق لدول الجوار مثل إيران، مما أدى إلى انهيار اقتصادي واجتماعي. اليوم، يعاني العراق من فساد يبلغ مليارات الدولارات، وصراعات طائفية مستمرة، بينما سوريا تتجنب هذا المصير بتركيزها على الشفافية والعدالة الانتقالية. فهل صحيح كما اشيع على منصات التواصل الاجتماعي خلال الفترة الماضية وتم مقارنتها وإعادة التاريخ الإسلامي واسقاطه على حاضرنا اليوم بنجاح دولة “معاوية” وفشل دولة العدل الإلهي “الإمام علي” كما كانت تبشر بها احزاب الاسلام السياسي العراقية قبل الغزو والاحتلال ؟ ومع حلول الذكرى السنوية للصرخة مذيع قناة العربية المذيع ” حسين مكي الشيخ” (1) ومع قرب حلول ختام هذا العام، يتساءل المرء: هل يعيد التاريخ نفسه في دمشق والكوفة؟ قبل غزو العراق 2003، ادعت المعارضة العراقية – خاصة الفصائل والأحزاب الشيعية – أن سقوط نظام صدام حسين سيؤدي معها إلى اعادة إقامة “دولة العدل الإلهية” المتمثلة بدولة “الإمام علي”، حيث يسود العدل والمساواة وحقوق الإنسان بين أطياف فسيفساء ونسيج المجتمع العراقي. ولكن الواقع كان عكس ذلك تماما، حيث أصبح العراق رهينة للنفوذ الإيراني والصراعات الداخلية والفساد المالي والإداري والمحسوبية فكانت دولة فاشلة بامتياز بكافة النواحي وما تزال آثارها باقية لغاية الان ويعاني منها المجتمع العراقي وعلى مختلف انتهكته المذهبية والطائفية والعقائدية قبل غزو العراق، كانت قيادات حزب الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية ومنظمة العمل وغيرهم من رموز الإسلام السياسي الشيعي يرددون شعاراً واحداً بلهجة النصر المبين : ” اليوم عاد الحكم إلى الشيعة بعد أربعة عشر قرناً من الغياب… اليوم نعيد دولة العدل الإلهي التي أسسها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب… انتهى حكم بني أمية وبني العباس، وبدأ حكم أهل البيت”  كانوا يصفون أنفسهم بـ”ورثة الإمام علي”، ويعدون الشعب العراقي بجنة عدن وعدل لم يرها التاريخ من قبل ؟ وقد صدقهم الشعب ولكن وبعد مضي اكثر من اثنتان وعشرون سنة… فماذا كانت النتيجة؟ النتيجة تمثلت بأكبر عملية نهب منظم ومنسق لموارد الدولة في تاريخ المنطقة الحديث ، سرقات بالمئات من مليارات الدولارات، صفقات ومشاريع اقتصادية عملاقة وهمية سرقت من قبل قادة دولة “العدل الإلهي” لبناء قصورهم الفارهة في لندن ودبي وبيروت وطهران وقم باسم “ثوار الكوفة”، ميلشييات تسيطر على الموانئ والمنافذ وتبتز التجار، ودولة أصبحت رهينة لنفوذ خارجي لم يعرفه العراق حتى في أحلك أيام الاحتلال العثماني أو البريطاني. وهذه هي حقيقية «دولة الإمام علي» التي بشرونا بها … دولة صارت رمزاً عالمياً للفساد والإفقار والتخلف والجهل والمرض . وفي الضفة الأخرى من التاريخ، في “شام معاوية” التي كانوا ليعنونها ليل نهار وجهارا ، نرى اليوم ما لم تره عين في أي بلد خرج من حرب أهلية مدمرة وبعد أقل من عام واحد على سقوط نظام قمعي عائلي طائفي بغيض ، عادت الكهرباء 24 ساعة يومياً في معظم المحافظات، شوارع دمشق وحلب وإدلب تضيء ليلاً كأنها لم تعرف قذيفة ولا برميلاً متفجراً ، المصانع تعمل ، المدارس فتحت أبوابها، اللاجئون يعودون بالملايين، الاستثمار الأجنبي يتدفق، والرئيس “الشرع ” يجلس مع اقوى رئيس دولة بالعالم  “ترامب” ثلاث مرات في عام واحد، بينما رؤساء وزراء ” دولة العدل الإلهي ” في بغداد لم يجرؤ أحدهم حتى على طلب موعد للقاء الرئيس “ترامب” فقط يتم إرسال مبعوثين له وليس سفراء لتنفيذ الأوامر .إذن، من انتصر فعلاً؟ “دولة معاوية” التي شتموها أم “دولة علي” التي رفعوا رايتها؟ التاريخ لا يكذب , فالذين حكموا باسم عليّ في الكوفة الجديدة (بغداد) سرقوا الشعب وأذلوه وأورثوه الظلام والفقر والتخلف والجوع والتشرد، والذين حكموا في “دمشق” معاوية الجديدة (سوريا ما بعد الأسد) أضاءوا البلد، وأعادوا بناء الإنسان ، وجعلوا الشام منارة أمل لأمة كادت أن تفقد الأمل كله.هذه هي الحقيقة التي لا يستطيع خطيب منبر جمعة او في حسينية  ولا إعلامي من مريدي محور ” المقاومة والممانعة ” أن يواريها مهما بلغت شجاعته الاخلاقية والادبية  , لان العدل الالهي الحقيقي غير المزيف والمزين بشعارات طائفية ومذهبية لا يُبنى باسم الأئمة … بل العدل يُبنى بالعمل الجاد والشفافية والحكمة , وهذا ما فعلته دمشق اليوم بعد أن استوعب قادتها الدرس جيدآ وحفظوه عن ظهر قلب ، وبينما ما تزال “كوفة بغداد”  تبكي على وعد كاذب لم يتحقق إلا في قصور اللصوص احزاب الاسلام السياسي والميليشيات الفصائل الولائية . أما في سوريا ، فتثبت عكس ذلك. بدءاً من فصائل إسلامية قادت الثورة، أصبحت دولة تاريخية جديدة تجمع بين الإسلام السياسي والقيم الهوية الوطنية الجامعة ، ومركزة على إعمار الإنسان لا تدميره . واستمرار هذا المسار نحو انتخابات حرة ديمقراطية وشفافة ونزيهة في 2026، وتعزيز الشراكات الدولية، وتحقيق نمو اقتصادي يصل إلى 5% سنوياً. سوريا ليست مجرد دولة؛ إنها نموذج للنهوض الاقتصادي والثقافي والاجتماعي ، يثبت أن الثورة يمكن أن تولد عدلاً حقيقياً، بعيداً عن أوهام الماضي . وفي نهاية العام وكل عام ، سيحتفل السوريون ليقولون للعالم : “من رماد الأسد، نبني فينيقاً من جديد “. هذا الأمل ليس وهماً بل إنه استراتيجية ناجحة، ووعد بمستقبل يليق بشعب عانى كثيراً فمتى يتعلم العراقيين من هذه الدروس والعبر .

sabahalbaghdadi@gmail.com

(1) https://www.youtube.com/watch?v=jcHHnrZldSg