نوفمبر 22, 2024
8

اسم الكاتب : علي ثويني

كانت تمتعني جملة يرددها العراقيون (يرطن سبع ألسن) ، أي يتكلم سبع لغات. والألسن هي الأكثر تداولا في اللغة، ومازالت لغات الدنيا تسمي “لسان الفم” ولغاتها بنفس التسمية(لنكوا Lingue) اللاتينية.حتى أن العرب وجدوا كلمة(Logos) اليونانية التي تعني الكلمة وأخذت أبعاد فلسفية متشعبة قريبة في النطق والفحوى من كلمة (لغة) العربية فأطلقوا كلمة (منطق) أو (كلام)على هذا المفهوم الفلسفي،وهو ما شاع وعد قاعدة “مترطنة” اعتمدت روح اللغة.
والرطانة تعني بحسب موسوعة(ويكبيديا) أي لغة تنشأ بشكل تلقائي من اختلاط عدة لغات بوصفها كوسيلة للتخاطب بين الناطقين بلغات مختلفة كما هي الحالة العراقية. ويمكن للغات الرطانة أن تتطور إلى لغات كريول (creole languages)، مما يتطلب تعليمها للأطفال منذ الصغر، ليسهموا بدورهم في وضع مجموعة من القواعد النحوية المتكاملة التي تؤدي إلى تنظيم اللغة و استقرارها كما فعلت إسرائيل حينما عممت العبرية ابتداءا من شلومو(سليمان)، وواءمت (الإيديش) الأوربي المترع بالمفردات السلافية والجيرمانية مع العبري التوراتي. حتى أمكن مقارنتها من حيث التعقيد مع أي لغة أخرى.و غالبا ما تحل الكريول أو الرطانة في مجتمع ما محل خليط اللغات التي كانت مستخدمة في هذا المجتمع و لتصبح فيما بعد لغته الأم (مثل لغة الكريو في سيراليون و لغة توك بيسين في بابوا غينيا الجديدة جنوب إندونيسيا أو حتى الأردو في الباكستان وشمال الهند). ولكن أحياناً، تنحى اللغات الرطنة منحى آخر لتتحول إلى لغات مهملة.ونذهب في السياق إلى أن كلمة الرطين واردة من مصدر قديم أنعكس في مركب لاتيني (re-ton) وتعني ترديد الصوت،ومن الطريف أن ابن خلدون يورد أسم اللاتين بـ(اللطين) التي توحي كذلك بـ(الرطين).وكذلك سمى اليونان greec (الغريقيون)، كأنه يوحي إلى أناس نجوا من (غرق) ، كما تشير أساطيرهم إلى أرض أطلنطا التي غرقت في اليم، ومازال لغزها يحير العلماء.
وكلمة (اللِّسان)ُ تكررت في القرآن الكريم 15 مرة ، ،وبينت النصوص قدرته في تقسيم الناس أو تسهيل التواصل أو الدعوة للرسائل السماوية، كما في قوله (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)( ). ومصدر الكلمة الأول (لسانوم) الأكدية.الذي أسترسل في الآشورية بصيغة (لشانو) والآرامية بلغة (لَشنا)، وفرعها العبري بصيغة(لشون) ،بينما حاكت الصيغة العربية مثيلاتها في لغات الجنوب كما العربية، أي (لسان).
ومعنى اللسان كما في (لسان العرب) لابن منظور جارحة الكلام، وقد يُكْنَى بها عن الكلمة فيؤنث حينئذ. وقال ابن بري: اللِّسان هنا الرِّسالة والمقالة؛ وشاهد أَلْسِنَةٍ الجمع فيمن ذَكَّرَ قوله تعالى: (واختِلافُ أَلسِنَتِكم وأَلوانكم)؛ والجمع فيها أَلْسُنٍ.ويقول ابن سيده: واللِّسانُ المِقْوَلُ، يذكر ويؤنث، والجمع أَلْسِنة مثل حِمار وأَحْمرة، أو ذراع وأَذْرُع، لأَن ذلك قياس ما جاء على فِعالٍ من المذكر والمؤنث، وإِن أَردت باللسان اللغة أَنثت. يقال: فلان يتكلم بلِسانِ قومه. قال اللحياني: اللسان في الكلام يذكر ويؤنث. يقال: إِن لسانَ الناس عليك لَحَسنة وحَسَنٌ أَي ثناؤُهم. قال ابن سيده: هذا نص قوله واللسان الثناء. وقوله عز وجل:(واجْعَلْ لي لسانَ صِدْقٍ في الآخرين)؛ معناه اجعل لي ثَناءً حَسناً باقياً إِلى آخر الدهر. ونجد في قوله تعالى: (إِلا بلسانِ قومه)؛ أَي بلغة قومه؛ و الكلمة مؤنثة؛ وقال أَعشى باهلة: إِنِّي أَتاني لسانٌ لا أُسَرُّ به. وذهب إِلى الخبر فذكره. وعّد ابن سيده اللسان و اللغة مؤنثة لا غير.واللِّسْنُ، بكسر اللام: اللُّغة. واللِّسانُ: الرسالة. ويقال: رجل لَسِنٌ بَيِّنُ اللَّسَن إذا كان ذا بيان وفصاحة.والإِلْسان: إِبلاغ الرسالة. وأَلْسَنَه ما يقول أَي أَبلغه. وأَلْسَنَ عنه: بَلَّغ. ويقال: أَلْسِنِّي فلاناً وأَلْسِنْ لي فلاناً ، أَي أَبْلغْ لي. واللِّسْنُ: الكلام واللُّغة. ولاسَنه: ناطَقه.ولَسَنه يَلْسُنه لَسْناً: كان أَجودَ لساناً منه. ولَسَنه لَسْناً: أَخذه بلسانه .ولَسَنه : كلمه. وفي حديث عمر(رض)، وذكَر امرأَةً فقال: إِن دخلت عليك لَسَنتْكَ أَي أَخذَتكَ بلسانها، حينما توصف بالسَّلاطة وكثرة الكلام والبَذَاءةِ. واللَّسِنُ والمُلَسَّنُ: ما جُعِلَ طَرَفُه كطرف اللسان.ولسانُ القوم: المتكلم عنهم. وقوله في الحديث: لصاحب الحقِّ اليَدُ واللسانُ؛ اليَدُ: اللُّزوم، واللسانُ: التَّقاضي. ولسانُ الميزان: عَذَبَتُه. ولسانُ النار: ما يتشَكلُ منها على شكل اللسان. والمَلْسُونُ الكذاب.واللَّسَنُ، بالتحريك: الفصاحة. أو وسَلاطَتُه. وقوله عز وجل: وهذا كتابٌ مُصَدِّقٌ لساناً عربيّاً؛ أَي مُصَدِّقٌ للتوراة، وعربيّاً منصوب على الحال، المعنى مُصَدِّقٌ عربيّاً، وذكَرَ لساناً توكيداً ، ويجوز أَن يكون لساناً مفعولاً بمصدق، المعنى مصدّق النبي (ص)، أَي مصدق ذا لسان عربي.
واللغةُ تُسْتَخْدَمُ اليوم فيما يقابل بالإنكليزية واللغات اللاتنية كلمةُ :-lingue Language وهما نفس الكلمة من ناحية أيتمولوجية في المصدرين العربي والغربي. وهناك مبالغون ومتغربون ومستشرقون يرون أن كلمة اللغة ليست عربيّة ، وإنّما هي مُعَرَّبَة منقولة من كلمة Llagos اليونانية ، التي تعطي معنى (الكلمة) أو معنى ما تُعَبِّر عنه كلمةُ Lidea باللغة الإنكليزيّة ، أي معنى الخطة والتصميم والمشروع أو الفكرة . وغيرُ خافٍ أنّ بين هذه الكلمة اليونانية و بين الكلمة العربية من التماثل المعنوي والتجانس اللفظي . وبما أن العربية اقدم من اليونانية وأنها وريثة ثلاثة آلاف عام على الأقل من التداول قبلها ، يجعلنا نجزم بأن كلمة (لاغوس) اليونانية وردت من ضمن الـ60% من المفردات الشرقية أو من اللغات الأكدية والكنعانية في صلب اليونانية وهذا ما أكده مارتين برنال في نظريته الموسوعية (أثينا السوداء)، وحدث الأمر من جراء إحتلال (سامي) لتلك الديار بحدود العام 1520 ق.م ، أي لا يقل عن ثمانية قرون قبل نضوج المشروع الحضاري اليوناني وظهور الفلسفة ومفهوم(اللوغوس) الذي شاع فيما بعد.
وسبق إبن النديم برنال بقرون طويلة حينما تحدث بشكل شبه أسطوري لكن له دلالاته الملموسة عن الاقتباسات اليونانية لطرائق الكتابة من مصر والشام ذاكرا: (لم يكن اليونانيون يعرفون الخط في القديم حتى ورد رجلان من “مصر” يسمى أحدهما قيمس والآخر أغنور ومعهما ستة عشر حرفا فكتب بها اليونانيون ثم استنبط أحدهما أربعة أحرف فكتب بها ثم استنبط آخر يسمى سمونيدس أربعة أخر فصارت أربعا وعشرين وفي هذه الأيام نجم سقراطيس على ما ذكر إسحاق الراهب في تاريخه وسألت رجلا من الروم مراطنا بلغتهم وكان يذكر أنه قد وصل إلى المرتبة التي تسمى الايطومولوجيا وهو النحو الرومي … وقال جالينوس كنت في مجلس عام فتكلمت في التشريح كلاما عاما فلما كان بعد أيام لقيني صديق لي فقال أن فلانا يحفظ عليك مجلسك العام انك تكلمت بكذا وكذا وأعاد على ألفاظي بعينها فقلت من أين لك هذا فقال لي إني لقيت بكاتب ماهر “بالساميا” فكان يسبقك بالكتابة في كلامك وهذا القلم يتعلمه الملوك وجلة الكتاب ويمنع منه سائر الناس لجلالته جائنا من “بعلبك” في سنة ثمان وأربعين رجل متطبب زعم أنه يكتب بالساميا فجربنا عليه ما قال فأصبناه إذا تكلما بعشر كلمات أصغى إليها ثم كتب كلمة فاستعدناها فأعادها بألفاظنا)( ).
واختلف اللغويون العرب في ما يتعلق بأصل كلمة لغة ؛ فقالوا : إنّها من لَغَا يَلْغُو لَغْوًا بمعنى : تَكَلَّمَ، وإنّها على زنة ، فُلَة، مثل )كُرَة) فالواوُ الذي هو مكانَ اللام في الكلمة محذوفةٌ ، والتاءُ المربوطة – التي تنقلب هاءً لدى الوقف – عِوَضٌ عن اللام . وجمعُ اللغةِ : لُغًى ولُغَات وقالوا : إنّ أصلها : لَغِيَ يَلْغَى لَغًا بكذا، بمعنى : أُوْلِعَ به فَثَابَرَ عليه وَاعْتَادَه . وقالوا : إن اللغةَ أصلُها : اللَّهَاةُ التي تُطْلَق على : اللَّحمة المُشْرِفة على الحلق ، أو على : الهَنَة المُطْبِقَة في أقصى سقف الفم ؛ وبما أنّ كُلاًّ من الهاء والغين حرفٌ مخرجُه الحلقُ ؛ فتبدّلتِ الهاءُ غينًا . وبما أنّ اللهاةَ جزءٌ من الجِهاز الصوتي، قال بعضُ الدارسين: إنّ كونَ اللهاة هي أصلَ كلمة اللغةِ، ويبدو أنّه هو المُطَابِقُ للواقع الذي يقبله العقلُ والمنطقُ. أما كون لَغِيَ يَلْغَىٰ أصلاً للغة فيبدو مُسْتَبْعَدًا ؛ لأنه لا يُوجد قاسِمٌ مُشْتَركٌ مُوَحِّد بين الكلمتين معنىً ومدلولاً سوى المماثلة اللفظية والمشاكلة الحرفية .ومازال أهل العراق يطلقون على الطفل حينما يبدأ النطق (يناغي) أو (يلاغي) محاكاة لطريقة إخراج أولى الأصوات،وحتى أسفل الفم أو جلدة الفك السفلي المتحرك تدعى عند العراقيين (لغلغ) ونظن بأن كلمة (لغة) وردت من هذا السياق الأقرب إلى الوقائع.
ويجدر ذكر أن كلمة اللغة لم ترد في أيّ موضعٍ في كتاب الله العزيز ، ولم تستخدمها العرب في جاهليّتها بهذا المعنى ، ولا بعد الإسلام إلى عهد بني أميّة ؛ بل لا يُوْجَدُ دليل معلوم على استخدامها بهذا المعنى في الحقبة العباسية الممتد على الفترة ما بين 132-656هـ-750-1258م. وإنما استخدمها أولُّ مرة – كما يقال – في بعض أبياته شاعرٌ عراقِيّ وُلِدَ ونشأ في الحِلَّة وهو صَفِيُّ الدين الحِلِّي (عبد العزيز بن سرايا بن على بن أبي القاسم السنبسي الطائي) الذي وُلِدَ عام 677هـ/1278م وتُوُفِّيَ عام 750هـ / 1349م ، وكان تاجرًا ؛ فكانَ يُكْثِر من الرحلات إلى شتى البلاد العربية وغيرها(1) وهو الذي قال في بعض أبياته :
بِقَدْر لُغَاتِ الْمَرْءِ يَكْثُرُ نَفْـعُه
وَتِلْكَ له عِنْدَ الشَّدِائِدِ أَعْوَان
فَبَادِرْ إِلَىٰ حِفْظِ اللُّغَاتِ وَفَهْمِهَا
فَكُلُّ لِسَانٍ فِي الْحَقِيْقَةِ إِنْسَان()
ويقول الدارسون : إن العرب استخدم كلمةَ اللغة أوَّلاً بمعنى (اللهجة) وأساليب القبائل ، التي كان يختلف بعضها عن بعض . يقول الكاتب المصري السيّد رزق الطويل في كتابه: اللسان العربي والإسلام معًا في معركة المواجهة :لفظُ (اللغة) يُطْلَقُ على لغات القبائل، كأن يقال: لغةُ قريش ، أو لغةُ تميم ، أو لغةُ أسد، ونحوُ هذا . ولفظُ (لهجة( اُسْتُحْدِثَ في القرون الأولى بعدَ الهجرة تعبيرًا عن لغات القبائل (3).
ويذهب الباحث نور عالم خليل الأميني إلى أن من الأحسنُ والأدلُّ أن تظلّ كلمةُ )اللسان العربي) هي المستعملَة في التأليفات والكتابات والخطابات وهي الجارِيَةَ على ألسنة العرب وغير العرب المشتغلين بالعربية بشكل من الأشكال ؛ ولكنه شاء الله لحكمة يعلمها هو ولا يعلمها غيرُه أن تحلّ كلمةُ اللغة العربية محلَّ اللسانِ العربيِّ بشكل لا يرى الكُتّابُ والمُؤَلِّفُون والخطباءُ والناطقون بالضّاد محيصًا عنها ، على حين إنّ الكلمة الأخرى – اللسانَ العربيَّ – هي التعبيرُ الأمثلُ والأدقُّ وهو الذي اصطفاه كتابُ ربِّ العالمين خالقِ اللغاتِ والألسنةِ واللهجاتِ ( )، فيقول تعالى: (نَزَلَ به الروحُ الأَمِينُ عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِيْنَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِيْنٍ)().
ولابد لنا في هذا المجال التطرق إلى عملية انتقال اللغة من أداة بسيطة للتعبير(لهجة) تستخدمها جماعات أو قبائل معينة ضمن عائلة لغوية واحدة، إلى لغة متطورة متكاملة، يتفاهم بها أصحاب اللهجات المختلفة المنحدرة من العائلة اللغوية الواحدة. وقد جرت هذه العملية ضمن مراحل تاريخية معينة وأسباب مختلفة منها اقتصادية وسياسية ودينية وسياقات ثقافية شتى.. وثمة مثال على كل عامل من تلك العوامل، فالاقتصادي كان من جراء الجفاف الذي أرغم مجاميع بشرية وقبائل معينة بأن تجمع شملها تحت زعامة رئيس أقوى قبيلة لتترك المنطقة وتهجر إلى حيث المراعي والخصوبة، ولما كانت العملية تحتاج إلى تنظيم محكم وجيش قوي لبسط السيطرة على الأماكن المحتلة الجديدة، لذا فإننا ” شئنا أم أبينا” نجد أنفسنا أمام شكل من أشكال الدولة البدائية التي تستعمل عادة لغة أو لهجة القبيلة القائدة. وضمن هذه العملية التاريخية المتشابكة تندمج الجماعات والعشائر كي تتحول إلى شعب يتكلم لغة تتكون من مجموع اللهجات المنصهرة في بوتقة لغة الدولة الفتية.
ويمكن أن يعني اللسان الأمر الظاهر أو الناتج الثقافي والاجتماعي عن اللغة التي نجدها مرتبطة ببواطن العقل ومتداخلة مع الروح والمتراكم التاريخي للبشر.وربما كان هذا وراء أن يفصل اللغوي السويسري فريديناند دي سوسير في بواكير القرن العشرين بين اللغة والكلام والتفريق في قراءة النص الديني بين إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة. ويمكن أن يكون المعتزلة أصحاب واصل بن عطاء البصري أول من تبنى هذا الخط قبله بأحد عشر قرن.والأمر منهجيا يصب في غايات فتح الأفق للنقد اللغوي الذي يمكن أن يطال حتى النصوص المقدسة، والتي ورطت المعتزلة بالأمر في التراث الإسلامي ، بعدما ناقشوا أمور لا يمكننا اليوم مناقشتها و أقروا بأن القرآن كنص لساني ليس أزلي وإنما هو نتاج زمانه ومكانه ،ثم جاء الاشاعرة ليدحضوا الأمر وينخرطوا تباعا في عالم السلفية لأبن حنبل ومن تبعه. وبذلك فقد عالم الإسلام دفقه العقلي بعد القطيعة التي حصلت بين التوجهين العقلي والنقلي بما يشبه في رأينا النزق والخرق،وقطعت بعدها سبل الحوار الوسطي التوفيقي الذي جر عالم الإسلام إلى الغلو والتيهية والتشرذم التي نحصد زرعها اليوم . وفي زماننا سلك نفس المنهج طه حسين ثم تلاه نصر حامد أبو زيد لاحقا ولاسيما فيما كتبه بمؤلفه (النص ،السلطة ، الحقيقة).والعالمان المصريان راما إخضاع القرآن الكريم إلى تلك الآلية المفرقة بين المسارين الملتبسين والمرهفين والحساسين والمثيرين للجدل.
واللغة ليست رموزاً، ومواصفات فنية وحسب، ولكنها في الأساس منهج فكر وطريقة نظر، وأسلوب تصور.بل هي رؤية متكاملة تحدها خبرة حضارية منفردة، ويرفدها تكوين نفسي مميز، فهي تجارب وخبرة، وبصيرة، وفلسفة لأهلها. فهي التي تحيل التصور إلى فكر، تعبيراً عنه، وتحيل الفكر إلى عمل، تفسيراً له . ومازلت مؤمن أن ثمة الكثير من البوح الخفي يكمن في ثنايا علم الألسنة ويحتاج إلى جهد وتجريب ومتابعة ، وأن شعوب الشرق القديم هي الأولى بتلك المهام كونها تشكل وببديهية مناجم لغوية بما تضمنته لهجاتها المحكية من ثراء المفردات. ولا ضير في الأمر حينما لايمس المقدس الذي تتحرك حدوده بحسب التيارات والأزمنة وطبيعة السلطات، فبالأمس كانت الشيوعية وأقل من ذلك التيارات القومية تفتخر بالإلحاد في أوساط المجتمعات المتدينة ولمسناها في إيطاليا واليونان وحتى العراق . ونتذكر كيف كان صدام حسين يعلن من التلفاز بأن (شفاعة البعثي أولى عنده من شفاعة عمر بن الخطاب)، ويتغاضى الناس عنها خشية أو تملقا أو حتى قناعة.لكن صدام قضى مشنوقا بعد ربع قرن وبدا للناس ورعا ممسكا كتاب الله وكلامه المكتوب ، وعد بتلك الشكلية لدى العرب المتحمسين والباحثين عن بطل، شهيدا ومؤمنا،رغم يقينهم من جرمه.كل ذلك يثير لدينا شك في مآرب استغلال المقدس كلمة ومسوغ وممارسة .
* هذه ديباجة الفصل الأول من كتابي الذي سأصدره قريبا تحت عنوان (الألسنة العراقية).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *