اسم الكاتب : علي ثويني
شاعت أيام الحرب بين صدام والخميني في ثمانينات القرن العشرين أغنية تتغني (بأولاد قحطان وعدنان)،تحاول أن تستحث الحماس لدى العراقيين، ويسعدني أني لم أسمعها لكني سمعت عنها. وفي مغترب السويد كنت أقابل بين الحين والآخر صديق أرمني عراقي دمث يدعى (أبو آرا)، وقد شكا لي يوما بأنه عادة ما يجد نفسه بين الفينة والأخرى مرددا تلك الأهزوجة، بما مكث في ذاكرته من أيام الحرب العبثية التي قضمت عشر سنين من سنيع شبابه. وأخبرني بأنه يرددها مثل الببغاء دون أن يعي فحواها. فذكرت له بأنه أرمني وأن الأمر لا يشمله من قريب أو بعيد، فعدنان وقحطان هم أجداد العرب كما يدعى العروبيون، فأبو آرا أشقر وردي السحنة وهؤلاء خلاسيين (جلحان ملحان)وبذلك فهو برئ من هذا النسل الى يوم الدين ، فضحك صاحبي وحمد الله على ذلك.
فقد شاع في الثقافة العربية ولاسيما في العراق العروبي مفهومي (عدنان وقحطان) الذي ورد من كنف تصانيف المؤرخين في التراث التي خلطت الكثير من المفاهيم وحرفت الكثير من المسميات،و أمسى هذا المفهوم ثابت ومسلم به و لا يقبل المراجعة . وحقيقة الأمر أنه محض أسطورة منهجها “ثنيوي duality” كما في السياق مفاهيم كثيرة كما النور والظلام والخير والشر والحياة والموت..الخ. وأوحت تلك الأسطورة هواجس عريزية معيشية محضة من خلال إقحامها في قصة أخوين أولهما أقترن بالجدب والقحط(قحطان) والآخر بالخضرة وجنة عدن(عدنان)، وهما حالتين الأولى يخشاها العربي والثانية يتمناها، فبين الشغف والخوف(الفوبيا) أوجد له أصلان وفصلان، وأختص اليمن الأخضر بالمكان الذي أستقبل الجد المجدب (قحطان) وأختص الإقليم المجدب الحجازي(واد ليس ذي زرع) بإستقبال الجد المترع (عدنان)،وهو ما ينم عن جملة معطيات نفسية كأن تكون أماني أو تعميه أو تمويه أو شغف ترد في السليقة البشرية تحاكي بالتمام ما نهجه أهل الشمال(سكندنافيا) حينما أطلقوا أسم (كرين لاند) أي الأرض الخضراء على الجزيرة الموحشة المثلجة الواقعة في أقاصي شمال الأرض ، أما الأرض الدافئة التي تحتها فأطلقوا عليها أسم( آيس لاند) أي أرض الجليد،وكأنهم كانوا (يطردون العين) عنها، أو كما ذهب بعض الباحثين بأنها ألعوبة لشعب الفايكنك كي لا يسطوا اللصوص على كنوزهم التي خبأوها في أرضيها ،ولا نعلم أن كان نفس الهاجس قد مضى عليه سكان الجزيرة العربية.
لقد أطلق مؤرخو التراث على القحطانيين أهل اليمن صيغة (العاربة) أي أصحاب الأصل العربي، أما العدنانيون الحجازيون فهم (المستعربة) أي الذين اقتبسوا العربية لاحقا، كون جدهم إبراهيم وإبنه إسماعيل(ع) كانوا كلدانا من العراق . وهذا ما أربك الكثير من المفاهيم المتعلقة باللغة وأنعكس على الأدب ثم الدين،وتداعى أن يشكل غضاضة في موائمة معطيات الحفريات ونتائج بحوث الأجناس والألسنة الحديثة مع واقع الحال أو مع أسفار الكتب المقدسة أو ما ورد في مدونات التراث. كل ذلك أوحى للدكتور طه حسين أن يشكك بوجود شعر جاهلي أصلا ،ثم يشكك في مسوغ كون اليهود والعرب(أولا عمومة) من خلال وحدة جدهم إبراهيم ، و ذهب طه حسين إلى أنها أقحمت عنوة في القرآن الحكيم،كون اليمانيين عربوا بعد الإسلام وكانت الحميرية والسبئية والأمهرية رائجة فيها،ومازال نفر منهم يتكلم تلك اللغات كما هو الحال في اللغات العراقية التي مكثت عند فئاته الأقلية اليوم.
ومما زاد الطين بلة ما ثبت في النظريات اللسانية الغربية التي واشجت الأمر مع الأقوام وصفاء الأعراق. وهكذا اختلطت الأمور ونأت عن البحث الواقعي النابذ للعصبية والأحكام المسبقة،واللاغي لمنطق الأمور.وهذا الإشكال يؤرق كل متشبث ومتعصب كما الصهاينة اليوم الذين لجئوا حتى للتزوير وفبركة العاديات وتصنيعها ، من أجل إرجاعها لأثبات معطيات توراتية، ومازال موضوع هيكل سليمان مثلا وموقعه وعمارته يقض مضاجع بحوثهم بما يكتنفه من ضباب الأسطورة النائي عن صفاء البحث وملموس اللقى والأثر الحفري( ).
وجدير أن نشير إلى الاختلاف الجوهري بالأصول والفصول والسحن واللغات بين أهل الحجاز واليمن وعمّان والخليج في كنف الجزيرة العربية، بسبب إختلاف الرحلات والإستيطانات والجوار الأقليمي ومناخات الدول التي تبعت لها قبل وبعد الإسلام،وكذلك الحال بين العراقيين و الشاميين من جهة واليمنيين من جهة أخرى،و الذي أريد لهم قسرا أن ينتموا إلى أرومة واحدة بسبب وحدة اللغة العربية اليوم التي أسبغها الإسلام.وحري أن نظن بأن العربية الحجازية (الفصحى) هي هجين مثقف لامتزاج الآرامية الشمالية مع السبأية أو الحبشية ، وهذا ممكن في كنف التاريخ كما حال السواحلية بين العربية والبامبو أو الأردية بين عدة لغات. ومذهبنا يعتمد على كون العربية الحجازية حبلى بثراء الكلمات الواردة من الصوبين الشمالي والجنوبي، وهي أقرب إلى الآرامية حتما بسبب سهولتها ووسع مفرداتها التي اقتبستها من حضارات سابقة، وكذلك ملكاتها المثقفة أكثر من لغات الجنوب.
كل ذلك أجج الشعور بأن الأصل العدناني الذي يخص أهل الحجاز التابعين للنعت (المضري) والصفة المستعربة، بأنهم منتمون إلى العراق حصرا. فقد ذكر الإمام علي(ع) في أن(معشر قريش) عراقيو الأصل، وكان تمجيد الكعبة وبيت الله هو إعلان “مضري” عن انتمائهم لإبراهيم الأوري. ونجزم أن الإمام أبا الحسن لم يكن يروم تملق العراقيين حينما ترك المدينة وسكن الكوفة ، ولا نستبعد أنه وجد بهم بيئة فكرية أرقى، قريبة من همه و اهتمامه أكثر من بيئة الحجاز.
إن هذا الشعور الموروث مصدره الاعتقاد بقدوم إسماعيل من أور وان إبراهيم هو الذي بنى الكعبة، وقد أوردها الإمام علي نفسه . حيث جاء في اللسان : قال محمد بن سيرين : سمعت عبيدة قال : سمعت عليّاً (رض) يقول : (من كان سائلاً عن نسبتنا فإنّا نبط من كوثى).قال أبو المنصور : والقول هو الأول لقوله : فإنها نبط من كوثى, ولو أراد كوثى مكة لما قاله نبط. وكوثى العراق هي سُرّة السواد من محل النبط. وإنما أراد عليٌّ أن أبانا إبراهيم كان من نبط كوثى. ونحو ذلك قال ابن عباس: نحن معاشر قريش حيّ من النبط من أهل كوثى. والنبط من أهل العراق.وأنت تعلم أن مراد العرب بنبط العراق: البابليون الأقدمون. وعلى هذا يكون القرشيون بابليّي الأصل فلما دخلوا بلاد العرب أدخلوا إليها لغتهم معهم) ( ).
ويمكن أن يكون سياق انتقال ملوك بابل إلى الحجاز وآخرهم (نبونيد) الذي سقطت بابل عام 539 ق.م إبان حكمه كما كشفت عنه الحفريات يؤكد ذلك المذهب،. فقد كان ملك بابل الأخير معتكفا في واحة تيماء شمال الحجاز، وأنتقل لها نهائيا مع علماءه بعد احتلال بابل على يد قورش الأخميني. وما يشير إلى ذلك على المحك تأثر الحجازيين بالأديان العراقية المتعاقبة و اقتباسهم آلهتهم التي احتفظت بأسمائها العراقية إبتداءا من (عثتر) وهي عشتار حتى (مناة) وأصلها آلهة أكدية. ، وآخر الاقتباسات بين الصوبين كان الفكر العرفاني الذي تبناه نبونيد ذاته بعد الدعوة الإبراهيمية الأولى، والذي توج بمشروع الإسلام كدين وحضارة،و الذي عم تباعا في عين البيئة دون غضاضة أو استغراب أو إستيراد.
ونتفق بهذا الصدد مع من يحاور العقل ويتساءل: هل العراقيون أصلهم عرب من الجزيرة أم العرب أصلهم عراقيون، ونجزم أن المعادلة الثانية أكثر رصانة ورجاحة، بسبب وجود دلائل تشير إلى أن الحياة في العراق نشأت قبل نظيرتها في الجزيرة العربية بآلاف السنين،وأن كهوف شمال العراق(منطقة طورايا) ترجع الحياة إلى ستين ألف عام قبل الميلاد،وأن الفراتيين الأوائل كانوا يتكلمون لغة أثرت بالسومرية ويعتقد أنها مثل بقية ما يدعى اللغات”السامية” كالأكدية، وأن أنظمة الري وطرائق العيش والبناء في العراق أقدم آلاف السنين عما هو موجود في اليمن والجزيرة العربية. والأهم في ذلك إن أقدم حضارة في الجزيرة العربية هي الحضارة السبئية في اليمن. التي بدأت تسعة أو عشرة قرون قبل الميلاد، أي بعد أكثر من ألفين وخمسمائة سنة عن السومرية.
وقد استغرب العلماء من انتقال اليمن فجأة من العصر الحجري إلى عصر البناء والكتابة من دون أي تطور سابق متدرج معقول, وقد أوحى الأمر لهم بقدوم شعب متحضر إلى اليمن إبان تلك الحقب.ويقول باحث الآثار اليمني بافقيه :(السبئيون في نظر الكثير من العلماء جاءوا إلى اليمن من الشمال. فالدكتور (فرتزهومل) يقول : إن الفترة السابقة لتاريخهم الحقيقي بدأت خارج اليمن, ويرجح هذا الوطن الخارجي أنه كان في الأصل في شمال بلاد العرب. ومثل هذا سبق أن أوصى به (سترابر) حين ربط بين الأنباط والسبئيين لكونهم أول من سكن العربية السعيدة. وتمشياً مع هذا الرأي اقترح الأستاذ (و. ف. البرايت) تاريخاً لهجرتهم حوالي 1200 ق. م ذاهباً في نفس الوقت إلى أن هجرتهم تلك تأتي بعد هجرة القبائل الأخرى (معين وحضرموت وقتبان) والتي حدثت في تقديره حوالي 1500 ق. م)( ).
وتقودنا هذه الحقيقة إلى احتمال أن حضارة اليمن الأولى وليس لغته بالضرورة نشأت من خلال اقتباسات أو رحلات لشعوب عراقية متأخرة أي في العهد البابلي الثاني من خلال الخليج أو طرق اختراق نجد أو الآشوري من خلال الشام أو مصر والحجاز والبحر الأحمر. وهذا الظن يأتي متماهيا مع ما طرحه بعض علماء الآثار الغربيين من أن الحضارة المصرية التي نشأت بعد العراقية بحوالي ألف عام كانت نتيجة لهجرة بعض القبائل السومرية إليها. أما نشوء السومريين بهذه الدرجة من الفطنة والفكر الناضج جعل أصحاب الخيال الغربي الجامح ينسبوها إلى كوكب آخر،بعدما رحل أهله إلى سومر ، ونقلوا ما سجوا عليه في كوكبهم الأول. وهكذا يبقى هذا المجال تابع لخيالات ونابع من اجتهادات تخص دراسة التأريخ البشري ونشوء الأمم واللغات،بما يجعلنا أمام مذاهب شتى.
ومازلنا إلى اليوم نجد هجرات قسرية وردت من العراق كما حدث بعد سقوط بابل عام 539 ق.م، أو بأزمنة متأخرة ،كما حدث بعد سقوط بغداد عام 1258م حيث امتلأت الأصقاع بالعراقيين ، وتلاها هجرة العراقيين القسرية إبان الحقبة الإيلخانية والتيمورية حوالي العام 1400م،أو إبان حروب العثمانيين من جهة والصفويين والقجريين في القرون الأربع المتأخرة،حتى أن رهط منهم وصل الهند إبان الرخاء الذي عمها في الحكم المغولي،وتشهد خزائن مسجد دلهي القديم على كنوز أحضرت من بغداد في القرن السابع عشر وبيعت هناك. ولا نستغرب وجود أسم أحد أساطين عمارة تاج محل ويدعى (واجد البغدادي) من هذا الرعيل. والأمر عينه يحدث اليوم بعد طغيان البعث وتلاه الحصار الكافر، ثم الإحتلال الأمريكي المقيت،ليلوذ الناس بدول شتى وصلت حتى القطبين ونقل العراقيون أما المال أو العلم إلى مغترباتهم بعد أن تقطعت بهم السبل وضاع منهم الأمان والجاه. وهكذا يمكن أن تكون الهجرة لليمن إحدى أشباه تلك الرحلات القسرية، والتي تهاجنت خلالها مع شعوب وألسنة محلية أو تلاقحت مع هجرات مرادفة من الشرق مصدرها فارس والهند أو من الغرب مصدرها الحبشة وأفريقيا، أو ربما شمالية من الشام من خلال خط البخور أو (إيلاف قريش).
أما بصدد البداوة وأنظمتها ،فأنها يمكن أن تحل محل الحضارة بسرعة بعد الأهوال والخراب والحروب و الطوفانات كما حدث في بغداد بعد طوفان وطاعون داود باشا عام 1831 ، والذي غير البنية اللغوية والبشرية لبغداد بعد إحدى عشر قرن من تأسيسها،وأن البنية العشائرية يمكنها أن تتشكل خلال عقود قليلة ،وهو ما ورثه العراق خلال القرون المتأخرة الماضية، بما يعني أن النظام العشائري المتطلع للأصول المشتركة والدماء العريقة و(عدنان وقحطان) أمر تصنعه الأحداث السياسية وتحفز على نشوئه غياب سطوة وحماية السلطة المركزية كما حدث إبان قرون العثمانيين.
وهنا جدير بنا أن نتسائل :كيف يمكن أن يكون الأقدم فرعاً من الأحدث, والأب فرعاً من الابن? ولا نريد أن ننفي العلاقة والتداحل بين العراق والجزيرة العربية وبادية الشام، التي شكلت مصدر للهجرات البشرية باتجاه الوادي العراقي، ولكن يجدر الإقرار بأن سكان الجزيرة العربية وحضارتهم هم الفرع أما العراق والشام فهما الأصل. وهذا يقودنا إلى رفض أحجية أصول عدنان أو قحطان التي تبناها العروبيون ،أو سيقت وأدغمت ضمن شطحات التوراة وتقاسيمها الجزافية للبشر التي تبناها الغربيون أو مؤرخو التراث ، بعدما تسللت (الإسرائيليات) إلى صلب مدوناتهم. والأمر ينطبق حتى على (أنساب العرب) التي سال لها مداد غزير،والتي نشكك بها ، ونذهب إلى أن الأمر يكمن في الرغبات بالانتماء لجموع أو سلطة تضمن للفرد أمان وتؤمن لمستقبله ضمان، وهي كامنة في سجايا البشر ومصالحهم وما أملته عليهم بيئتهم ،وتسنى لها أن تقحم عنوة في الدين والفكر والاجتماع والعرف والتاريخ ثم السياسة.ويجدر اليوم إعادة قراءة نفسية لمفهوم الموالي في الإسلام التي شملت سكان العراق الأصليين، وكيف تاقوا إلى مساواة العربي القادم من الجزيرة، حينما أنخرط في أصوله وفصوله لضمان العيش والجاه.ونجزم أن نسل أقل من مليوني جزيري لا يمكن أن يطغى على أمشاج التسعة ملايين، هم سكان العراق عند الفتح الإسلامي.
إن التفريق بين لسان عربي ودماء عربية ،يجعل من العراقيين عربا لسانا وثقافة ولايشترط الأمر أن يكونوا دما وعرقا . ونجزم أن دماء أهل اليمن والحجاز والجزيرة العربية نفسها هي هجين من عدة مصادر بالرغم من عزلتها الشكلية ،إذا كان أصلهم من هناك ، فكيف يمكن أن ينطبق الصفاء على العراقيين وهم وسط المعمورة وجسر التواصل بين القارات.
وإذ نجد اليوم الفرصة مؤاتية بالاسترسال بنهج علمي وواقعي ووسطي كان قد بدأه رعيل التنوير العراقي الأول والذي هدمته البداوة العروبية،سواء كانت واعية أم مغفلة أو من جراء اللاعلمية أو تماهيا مع سياقات المؤامرة المسيرة بحذق من (الخارج-الداخل)، لهدم المشروع النهضوي الذاتي العراقي ، و تسنى لتلك الجماعات أن تقود السلطات في العراق خلال الفرن الأخير، وكان همها الوحيد تمرير مسوغ إرجاع العراقيين إلى أصول عدنان وقحطان ليس تغزلا بعيون أهل الحجاز واليمن ، بل من أجل التشبث بالكراسي وإشاعة الطغيان وقمع الصوت الوسطي العاقل . وبذلك استغلت قضية فلسطين أبشع استغلال ،وكان هذا الرعيل سببا مباشرا فيها من خلال التخاذل والنأي عن بناء المنظومات الحضارية كما التروس لأهل تلك البلدان وما تقتضيه إرساء أسس (دول الناس natio) القوية التي تستطيع الذود ومقارعة إسرائيل. والأهم في الجانب المنهجي أعطوا المبرر لإسرائيل بأن تنكل بالفلسطينيين وتبعدهم عن ديارهم بحجة أنهم من نسل عدنان وقحطان ،فليعودوا إلى أصولهم ومن أين أتوا !. وبذلك حفظوا لإسرائيل مبرر المكوث وأعانوها في تكريس الشعور بالتخلف وإشاعة الدونية و خيبة الأمل لدى شعوبها.وهكذا لانستغرب ظهور البعث في الأربعينات وقيام الثورة المصرية في بداية الخمسينات متواقتا مع قيام إسرائيل.
صحى العراقيون اليوم على حقيقة عدنان وقحطان بعدما عاملتهم السويد والنرويج وأقاصي الشعوب أحسن من نسل أولاد العمومة على تخوم واديهم في الشام والجزيرة ومصر ، وأثبتت الأيام للجميع أن العراقيين كانوا سذجا و مغررا بهم ، حيث أن السكوت العربي على مهازل ما حدث بالعراق والتأسي على غروب سلطة البعث تنطبق علية الجدلية العراقية (البكاء على الحسين أم على الهريسة؟) ،وتيقن القوم اليوم بأن كل ذلك الغزل لم يكن من أجل عيون (عدنان وقحطان) العسلية، بل من أجل دبق (نفط العرب للعرب) الذي رفعه البعثيون بنزق دون أن نسمع مثيل له في الجزيرة والخليج عند أولاد عدنان وقحطان الأقحاح.
لا نروم في هذا السياق الدفاع عن العربية كما سار عليه القوميون دجلا، وشغفنا القيمي بالعربية كثقافة تتعدى طروحات الاقواميين الساذجة والملتوية. وجدير أن نتذاكر حديث النبي المصطفى (ص)حينما قال:( ليست العربية بأحد منكم من أب أو أم إنما هي اللسان ) ، فالعربية ليست سلالة إنما هي لغة ، فمن تكلم العربية فهو عربي الثقافة ومن تكلم بغيرها فهو تابع لها والكل تتبع أوطانها، فلا تفريق في الإسلام بين الناس إلا لأمرين ( الكفر و الإيمان ) و هذان لا تحدهما الجغرافيا و لا تضمهما بقعة من الأرض،ولا تنطبق على أرومة ودماء وثقافة دون أخرى،والعراق بذلك ملك سكانه حتى لو تباينت ألسنتهم، فالوطن قبل اللسان .
* مقتبس من الفصل الثاني من كتابي (الألسنة العراقية) الذي سيصدر تباعا.