اسم الكاتب : محمد المحمود
هل يمكن أن يكون هناك “فقهاء مستنيرون” في عالمنا الإسلامي؟ وإذا أمكن ذلك ـ وِفق سياقين متلازمين عمليا؛ لا علميا: المنطق الفقهي التقليدي والمنطق التنويري الحداثي ـ فهل ذلك موجود فعلا على أرض الواقع؟ وإذا كان موجودا؛ فهل هو وجود حقيقي؛ من حيث علاقته بالفقهيات السائدة الناظمة للوعي الجماهيري المتديّن (التي تمنحه شرعيته على نحو ما)، وأيضا من حيث درجة فاعليته؛ قياسا بما تمارسه الفقهيات المضادة/ الظلامية من تأثير عميق وشامل على مجمل خيارات الفرد المتديّن في العالم الإسلامي؟
هذه الأسئلة قد تكون قادرة على تلخيص أزمة الخطاب الديني الجماهيري الذي يُكوّن ـ على نحو مباشر وغير مباشر ـ الخلفية النظرية لمعظم أزماتنا؛ على اعتبار أن هذا الخطاب الديني يُحيل إلى تراث عام يتجاوز المكونات الدينية الصريحة (ما يسمى بعلوم الدين) إلى كل ما تمحور تاريخيا حول النصوص المقدسة، وتقاطع معها في سياق تفاعلها الجدلي مع حركة الواقع/ التاريخ.
إن ما يدعونا إلى طرح مثل هذه الأسئلة الحائرة بين الحين والآخر، هو هذا الانسداد الثقافي الذي بات يخلق وضعا ثقافيا ـ ومن ثم واقعيا/ مسلكيا ـ يؤسس لحالة من البؤس العام. هذا سبب، وثمة سبب آخر، وهو أننا نلاحظ أن لا شيء يكشف مدى بؤس المسار الفقهي/ الثقافي في عالمنا الإسلامي كما يكشفه ابتهاج “التنويريين” بأدنى انفراجة فقهية تصدر عن هذا الفقيه أو ذاك المُتفَيَقِه؛ حتى بات الإعلام التقدمي يقيم الحفلات الاحتفائية بفتاوى تفصيلية/ هامشية، يرى أنها كافية لتضيء الدرب للمسار التنويري الطويل!
لا شيء يكشف حجم التخلف الثقافي المروع في معظم أقطار العالم الإسلامي أكثر مما تكشف عنه هذه القضايا التي يتمحور حولها الجدل الفقهي/ الثقافي. قضايانا أصبحت من نوع: هل يجوز سماع الموسيقى أم لا يجوز؟ هل الحجاب واجب أم غير واجب؟ هل يجوز السلام على غير المسلم أم لا يجوز؟ هل تجوز مصافحة المرأة أم لا تجوز؟ هل إهداء الورود للمرضى جائز أم حرام؟… إلخ؛ الفتاوى الهامشية التي تعكس هامشية وعينا، والتي أصبح الموقف منها ـ انفتاحا أو انغلاقا ـ هو ما يحدد هوية الفقيه؛ من حيث علاقته بخطاب الاستنارة التي يراهن عليها التقدميون. فإذا مال الفقيه ـ بعد طول تردد قد يمتد لسنوات وسنوات؛ وبعد أن يربط أحزمة الأمان تحسبا لعواصف المعترضين ـ إلى الجواز في هذه المسائل وأشباهها، فهو ـ في تصور السائد الثقافي/ الإعلامي البائس ـ فقيه مستنير يستحق أن يُقدّم، وأن يُحتفى به كأمل واعد للخلاص من الفقه الانغلاقي المتشدد (الفقه الانغلاقي الذي لا يزال هو التراث المرجعي لمثل هذا الفقيه المستنير!).
اقرأ للكاتب أيضا: الرمز والترميز في الدين والتاريخ
إن هذه قضايا التي هي من هوامش الفرعيات، لو أنها نوقشت في العصور الوسطى/ عصور الظلام لكانت من دلائل التخلف والانحطاط، فما بالك وهي تناقش اليوم ـ بكل جِدّية، وبكل حِدّية ـ كقضايا مستقبلية مصيرية، تتحكم الآراء فيها/ الأحكام المستحقة بمسار وعي الأغلبية الجماهيرية، لا في حدود هذه القضايا فحسب، وإنما في كل القضايا التي تندرج في سياق عملية الهيمنة الكهنوتية التي تتغيا التحكم بمجمل الحراك المجتمعي؛ كعملية تعويض ضمني ـ واعيا وغير واع في آن ـ عن السلطة العليا التي أبعدوا عنها بالقوة منذ أكثر من ألف وأربعمئة عام، بل وهُمشوا على نحو صريح، مصادم ودام في معظم الأحيان.
لكن، هل يعني كل ذلك التصحر التنويري والفقر العلمائي الفقهي انعدام وجود “فقهاء مستنيرين” قادرين ـ ذاتيا ـ على تجاوز المعطيات التراثية من جهة، وعلى تحدي المحيط الاجتماعي/ الثقافي، بما في ذلك مؤسساتهم/ مرجعياتهم العلمية، من جهة أخرى؟
تصوري أن هذا النوع من الفقهاء، الذي يمكن الرهان عليه حقيقة، معدوم أو في حكم المعدوم. فأولا، وجودهم نادر جدا، وهامشي، وضعيف، وغير مؤثر، بل هم شبه معزولين على مستوى القدرة على الفعل، وعلى مستوى حجم التلقي/ الاستقبال الجماهيري. وثانيا، تجاوزهم للرؤى الانغلاقية هو في الغالب غير مُؤسس على تطورات فلسفية/ ثقافية في السياق المجتمعي الذي يتموضعون فيه، بحيث تعضد مثل هذه التطورات خطابهم؛ عندما يندرج في سياقها فاعلا ومتفاعلا. بل هم على العكس تماما، غير قادرين على الوقوف بـ”تجديدهم المتجاوز” على أرضية تراثية صلبة تمنح “استنارتهم” مشروعية واسعة تمكنها من الفعل في الواقع، كما أنهم ـ في الوقت نفسه ـ غير قادرين على مَوْضَعة خطابهم في سياق ثقافي/ ثورة ثقافية نوعية شاملة؛ إذ لا وجود لهذه في الواقع العربي/ الإسلامي من الأساس.
كل هذا يدل على أن ما نراه ونسمعه في مسار الخطاب الديني من “انفراجات فقهية” فرعية وهامشية، يتبرع بها هذا الفقيه أو ذاك، بحيث تبدو وكأنها بوارق استنارة؛ ليست ـ في حقيقتها ـ إلا مؤشرات تحدد موقعنا في منحدرات التخلف الثقافي. فهي محاصرة من عدة جبهات: من خطاب ثقافي بائس مناهض لها في العمق؛ حتى وإن بدا أنه مناصر لها على نحو ما، وخطاب انغلاقي متشدد يشكل نقطة احتماء لكثير من الحائرين والغاضبين، وهو يكتسب مشروعيته من تجريمه لهذه الانفراجات، وخطاب أصوليات الإسلام السياسي التي تتوسل بالدين لتحقيق أهدافها السياسية، والتي يتحدد قبولها أو رفضها لهذه الفقهيات التجديدية بناء على عوائدها البراغماتية للحزب/ التيار السياسي، وخطاب مؤسسات تعتقد أن ثباتها على مقولاتها شرط وثوقيتها في الذهنية العامة للجماهير… إلخ.
هنا يتضح حجم البؤس المخيم على مجمل الخطاب الديني، لا في واقعه الراهن فحسب، وإنما في مستقبله المنظور أيضا. نعم، قد تُحدث العولمة مسارا تقدميا آخر؛ فيأتي التنوير متجاوزا لكل صور الخطاب الديني؛ بما يعني القفز على أخطر الإشكاليات الدينية بالسكوت عنها. لكن، هذا هو ما يمنحها الفرصة للانبعاث من جديد وفق تقلبات الطقس المجتمعي الإسلامي المتخم بكثير من الأزمات التي لا يبدو أنها قابلة للحل في المستقبل القريب.
اقرأ للكاتب أيضا: أزمة الشهادات العلمية في العالم العربي
قد يرى كثيرون أن هذه رؤية متشائمة للواقع الثقافي/ الفقهي في العالم الإسلامي، والعالم العربي تحديدا. وليتها كانت كذلك، بل للأسف، هذا هو “الواقع المتشائم” بأناسه وأشيائه، والذي لا يعني التفاؤل به إلا تزييفا صريحا لوقائعه؛ بقدر ما هو تزييف لهوية تراثه الذي يتشكل وعيه من خلاله. ولعل أهم دلائل هذا الواقع المظلم أن كهنة الخطاب المتطرف، دينيا وقوميا، هم المهيمنون على عمليات تشكيل الوعي العام، وأن الانفتاح الإعلامي/ التواصلي مارس دورا عكسيا؛ فبدل أن يكون نافذة انفتاح على العالم الحر/ المتحضر/ الإنساني، وتحقيق مزيد من الفهم للذات وللآخر، استغله المتطرفون/ الانغلاقيون بدعم جماهيري ساحق؛ لنشر وتعميم وترسيخ رؤى الانغلاق وأوهام الذات عن الذات وعن الآخر. وبالتالي، وضع مزيد من العقبات الوهمية/ التصورية التي لم تكن موجودة من قبل، أو كانت موجودة ولكن على نحو واهن وخافت، وها هي اليوم أصبحت تحول دون استنبات خطاب التنوير في عالم متخلف لن ينقذ نفسه إلا بخطاب التنوير في سياق عملية تواصل إبداعي خلاق مع أهم ما فيه من مبادئ إنسانية وتقدمية أثبتت جدارتها وفاعليتها مع مرور الأيام.