نوفمبر 22, 2024
لا

اسم الكاتب : خالد سليكي

إن الحديث عما أصبح يسمى بقضية “الرسوم المسيئة للرسول” يحتمل مقاربات عديدة، منها السياسي – الإيديولوجي، وهو الشكل أو الزاوية الأكثر شيوعا، إذ إن الاحتجاجات التي تعم الشارع العربي/الإسلامي تكشف عن هذا التأويل، وهو بكل ما عليه من مؤاخذات يظل مقبولا ومشروعا ومبررا. ولكن أن يصبح كبرى القضايا التي ينتفض من أجلها الشارع العربي/الإسلامي، فهنا تصبح المسألة تحمل دلالات “الكارثية”  وتكشف عن مآزق العقل العربي الإسلامي، بل وبؤسه أيضا. ولفهم بعض جوانب هذه الاختلالات التي صارت جزءا من بنية العقل العربي/الإسلامي، فإننا نرى أنه ينبغي البحث فيها انطلاقا من النقط التالية: في دواعي نشر الرسوم قد يكون السبب من وراء نشر تلك الرسوم هو اختبار رد فعل العالم الإسلامي ودرجة تعلقه بالمقدس الديني، ومن ثم فهو يشكل محرارا لتشبثه بالدين الإسلامي وحقيقته. كما يمكن أن يكون السبب في ذلك هو حرية التعبير داخل المجتمعات الغربية، وما تقتضيه أدبيات حريات الرأي داخل القوانين الوطنية والدوليةº غير أنه مهما كانت الدواعي من وراء هذا النشر فإن ما يظل مثيرا، حقا، هو هذا الرد الجنوني الذي يقوده الإنسان المسلم داخل الشوارع. لذا¡ وجب البحث في الحيثيات الثقافية التي وردت فيها هذه الإساءة.

إن الدال الموظف في هذه الإساءة هو رسوم، ونوع الرسوم هو الكاريكاتير. وهذا الفن من أهم خصائصه هو السخرية التي تكسر حاجز الواقعية. والهدف من هذا الفن، الذي يخضع لأوليات وقيم فنية لها مقوماتها وضوابطها، هو إبلاغ رسالة مّا تتسم بالشحنة والقوة التعبيرية لدى المتلقي لها.

ويقسم النقاد هذا الفن إلى: – الكاريكاتير الاجتماعي الذي يكشف عن التناقضات التي يعاني منها الواقع الاجتماعي، وهو يتسم بالسخرية اللاذعة والتهكم الشديد، لكن تأثيره يظل محدودا.

– الكاريكاتير السياسي، وهو الأكثر انتشارا ويكون الهدف منه نقد الواقع السياسي بنوعيه المحلي والعالمي، وإذا كان المحلي يصلح أن يشفع بتعليق، فإن العالمي يقتصر على الرسم فقط حتى يضمن تداول الخطاب وانتشار دلالته وإن اختلف السياق الثقافي والسياسي والاجتماعي.

مُؤدى ذلك كله هو أن الرسوم الساخرة ليست هدفا في ذاتها، وإنما هي دال يحمل دلالات ما تكون هي المقصودة، وهنا لا بد لنا من النظر إلى المسألة من زاويتين، علاقة العربي/المسلم بالرسم أو الصورة بشكل عام، ثم علاقة الغربي بالصورة ونظرته للآخر:

أ- إن علاقة العربي/المسلم بالفنون كلها مشوبة باللبس والغموض، فهو مُحرّم في العديد من الأوساط، ومنبوذ في أخرى ومهمش عند البعض. والسبب في ذلك يعود إلى اعتبارات عديدة، لكن الديني منها يقف على رأس الأسباب.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن فن الكاريكاتير غالبا ما يشتغل على التحريف في الملامح الرئيسية للشخص، أو يتم الاستعاضة عن الملامح بأشكال الحيوانات، فإن الكاريكاتير سيكون هو الشكل التصويري الأكثر نبذا من لدن المسلمين الذين يرون في ذلك تشويها للخلقة التي تؤول في النهاية إلى السخرية من “صنيع/خلقة” الله. هذا ويضاف إليه العنصر السياسي، على اعتبار أن أغلب الأنظمة العربية تحرم التعرض للسخرية من شخص الحاكم على اعتبار أنه “شخصية مقدسة”..

ب- في حين أن الكاريكاتير، وباقي فنون الرسم والصورة، تجد حقلها الخصب في المجتمعات الغربية، وأن الصورة ترعرعت ونضجت في رحم الكنيسة، بل إن النهضة الأوربية كانت في البداية فنية بالدرجة الأولى قبل أن تشتعل وتشيع في كل مجالات المعرفة.

ولذا¡ ففي ظل المساحات الديمقراطية التي تنعم بها المجتمعات المتقدمة الغربية، يبقى الحكام في الخيال الاجتماعي مجرد أفراد/بشر. ومن هنا¡ ندرك انتشار الرسوم الكاريكاتيرية التي تسخر من الشخصيات السياسية والحكام؛ بل إن السخرية تتخذ من المسؤولين السياسيين مادة لها، والحال أن المجتمعات العربية لا تتخذ من موضوعاتها سوى المستضعفين الذين هم المتلقي وموضوع هذا التلقي.

صفوة القول إن اللبس الحاصل في علاقة الإنسان العربي/المسلم بالصورة يجعله أكثر تأثرا بالخطاب المصور، لأن الخاصية التي يتميز بها والتي تتسم بالسطحية تجعله يتفاعل وينفعل أكثر أمام ما هو فني ومحسوس.

وهنا نجد سدنة الدين وفقهاء الظلام ينصبون أنفسهم فقهاء في النقد الفني والأدبي والسياسي، فمثلا تشكل الأعمال الفنية والأدبية “وليمة لأعشاب البحر”و”الخبز الحافي” و”آيات شيطانية” أعمالا أدبية وفنية لها قيمتها، وقد نشأت كما ترعرعت في حقل أدبي، في حين يتم إلحاقها بالواقع الواقعي لتسهل محاكمتها وفحصها: إنهم أشبه بقاطع الطريق اليوناني بروكس.

لعل هذا التعامل السطحي، الذي يهيمن على العقل العربي/الإسلامي، راهنا، هو السبب في كل الخلافات التي تحصل، بل وتزداد ضراوة مع الانغلاق على الهوية والتقوقع على الذات، خصوصا أن المسلمين يسعون إلى دفع الآخر إلى فهمهم دون أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث في الخلفيات الثقافية والفنية والسياسية الحقيقية التي ينطلق منها الآخر.

وعليه، فسواء تعلق الأمر بحرية التعبير أو اختلاف الثقافات، فإن المشكلة تظل في البدء والمنتهى ذات صلة بالخلفيات المرجعية والثقافية التي ينطلق منها العربي/المسلم والمتسمة بكراهية الآخر، على اعتبار أن العالم كله يجتمع ويتحد من أجل محاربة عدو واحد يخشون نهضته هو “العالم الإسلامي”..  في حين أنهم يسقطون في الفخ الذي ينصب لهم، دون وعي منهم، بسبب التسطيح الخطير وهو “إلهاؤهم” عن كبرى القضايا، لأن المشكلة لا تكمن في الإساءة Åلى المقدس، وإنما في تضخيم القضايا الصغرى والتافهة، إنهم يقعرونها وتصير أكبر مما هي عليه، ومن هنا يصبح الأمر أقرب إلى “تقديس الإساءة”.

حرية التعبير وحرية الإساءة

من الصعب أن نجزم بأن ما أقدمت عليه الصحف الدانماركية من نشر للرسوم بأنه مجرد صدفة، أو مجرد تعبير عن حرية في الرأي، خصوصا أنها المرة الثانية التي يعاد فيها نشر الرسوم، وبشكل أكثر انتشارا، بمعنى أن الذين أقدموا على ذلك هم مدركون لخطورة الأمر، بل إنهم يتحسبون نتائج ذلك، خصوصا أن الانهيارات التي تواجهها المجتمعات الإسلامية لا تزيدها إلا تشبثا بمقدسه الديني ورموزه التراثية الدينية.

فالاحتماء بالتراث والعودة إليه في ظل واقع مظلم ومليء بالإحباط لا يمكنه إلا أن يزدهر وتزدهر معه أوجه الدفاع عنه. إنه البحث عن مختلف أشكال العنف للرفع من درجة الصراع والرفض. وهنا تجب الإشارة إلى أن الغرب قد تفطّن، بعد أن كان في السابق ملجأ للعديد من المنفيين والمعارضين الدينيين، إلى أهمية وحجم الجالية الإسلامية المتزايدة التي صارت تشكل تهديدا لمستقل ثقافاته، ومستقبل القيم الاجتماعية التي ناضل الغرب من أجلها والمتمثلة في قيم الاختلاف والحرية بما تتضمنه من حرية الفكر والاعتقاد¡ إذ إن المسلم في الغرب يعتبر نفسه، دائما، حاملا لمشروع حضاري إسلامي ينبغي له أن يقوم بواجبه على أحسن وجه، عن طريق المحافظة على قيمه وتقاليده، وأن يشيع هذه القيم بالدعوة إلى نشر الإسلام. والحال أنه في كل ذلك ينفي كل مبادئ اختلاف الهوية والثقافة، وينفي أن يكون الآخر على جانب من الصواب وعلى درجة من الحقيقة، مهما قلت.

إن العديد من المهاجرين المسلمين، الذين استقروا في أوربا وأمريكا، هم ذوو درجة ضعيفة معرفيا، وهم في غالبيتهم أيد عاملة، لم يتمكنوا من الاندماج بسبب ضعف الآليات الثقافية التي يحملونها، وهو ما يقوي من الصراع ويدفعهم إلى العيش بعيدا عن الحياة العامة واختلافاتها. لذلك¡ نراهم يشتغلون على شكل جمعيات أو مؤسسات خيرية هدفها هو نشر الدين والدفاع عن حقوق ممارسة الشعائر وبناء المساجد.

من خلال ذلك كله، نفهم لماذا امتنع عن نشر الرسوم الإيرانية حول المحرقة اليهودية، لأن هذا المنطق الذي ينطلق منه المسلمون هو على اختلاف بيِّن مع الخلفيات التي كانت من وراء نشر الرسوم المسيئة للمقدس الديني الإسلامي، وهنا نستحضر واقعة تاريخية مثيلة حدثت في غزو الكويت، حيث طالب آنذاك صدام حسين الأمم المتحدة بأن تدفع إسرائيل إلى الانسحاب من أراضي فلسطين إذا أراد المجتمع الدولي أن ينسحب هو من الكويت، المنطق نفسه  يتكرر، في حين أنهم ينسون الخلفيات الثقافية والحضارية والسياسية المتحكمة في العديد من القضايا اليوم.

فإذا كان المسلمون يرون أنفسهم هم المستهدفين فلأنهم يعلنون عن الصراعات بعدد كبير من الأشكال. فهم لم يروا في القانون الفرنسي الذي يقضي بمنع الرموز الدينية إلا منعا للحجاب ومحاربة الإسلام، والحال أن المنع شمل كل الديانات. كما أن المسلمين لم يدركوا بعد، أنهم يمارسون أنواعا عديدة من العنف الثقافي والفكريº فهم يهاجرون إلى الغرب ويريدون أن تكون المجتمعات الغربية كما يريدون هم أن تكون، يريدون الاستفادة من التقدم والرفاه المحقق في هذه المجتمعات، مع المحافظة على قيم “البداوة” و”العصبية” والاعتداد بمطلق الحقيقة التي يتوفر عليها. إنهم يتراوحون بين الأخذ بمنجزات التكنولوجيا الغربية، وفي الآن نفسه يحقدون على من أنتجها.

من النص إلى الرسم

لعل ما يثير الانتباه هو أن العديد من الذين يحتجون في الشوارع الإسلامية، اليوم، لم يتمكنوا من الاطلاع على الرسوم الكاريكاتيرية، فأحرى أن تكون لهم أدوات فنية يحللون بها ويفهمون الخطاب الذي تنتجه، وهذا أمر يتكرر في كل مرة، إذ لا تزال ذكرى “آيات شيطانية” حاضرة بقوة في الذاكرة الإسلامية، علما أن الملايين من الذين ينبذونها لم يقرؤوا منها حتى العنوان.

إذن، فالأزمة التي أثيرت في السابق مع صدور رواية سلمان رشدي أخفت قيمتها الفنية ولم نعد نعرف عنها شيئا، وإنما صارت تابوها محرما؛ في حين أن هناك كتبا تراثية أثارت بشكل مباشر قضايا النبوة، وناقشت النص القرآني، وما تعرض له من تحريف وتعديل وإبدالات، دون أن يتعرض أصحابها للقتل أو الشنق، وحتى ما حدث على مر التاريخ الإسلامي لم يكن من ورائه سوى الخلفيات السياسية والصراعات السياسية بالدرجة الأولى، أما الدين فكان لخدمة السياسة.

والملاحظ، اليوم، أن الأزمة تزداد تضخما بفعل الخواء الفكري، والانهيارات العقلانية التي تتوالى، والحصاد الفكري الغث الذي يُحصد حضاريا في المجتمعات الإسلامية. لذلك، فإن هذه الردود ستزداد وستتضاعف ما دام الفقر الفكري والمعرفي يتضاعف أمام التطور العقلاني والحضاري الذي تعرفه المجتمعات المتقدمة.

بين نص المصحف وتدريس القرآن

إن ما أقدمت عليه الحكومة الدنماركية من حلول للأزمة لن يضع حدا لمثل هذه النعرات. فما يعتبر اليوم، داخل المجتمعات الإسلامية، مكسبا بفعل إقدام الدانمارك على توزيع المصاحف وتدريس القرآن في جامعاتها وعقد مؤتمرات، هو في الواقع يجعل المجتمعات الإسلامية أمام تحدٍ آخر… إنه سؤال النص وسؤال المعرفة.. وسؤال التأويل… فالآخر لن تقنعه التفاسير والشروح التي تتجمل بمفاهيم “الإعجاز العلمي” و”الإعجاز القرآني” و”البيان” وغيرها من المفاهيم التي يتم تداولها.. لأنه سيفهم وسيؤول وسيحلل انطلاقا من خلفية ثقافية ومعرفية، مع وجود مقارنات… قد تكشف عن أشياء لم تكن متوقعة.

وهكذا سيصبح النص هو المنطلق في أي حوار أو صراع، سيكون الجدال من الداخل، من داخل ثقافتنا نحن، لأن المسلم يتصور التاريخ العربي الإسلامي بمثابة خط هادئ وسكوني، وأن المعرفة واحدة كلها تدور حول حقيقة وحيدة، والحال أنه تاريخ مليء بالاختلالات والصراعات والاختلافات، منها السمين ومنها الغث. لذلك¡ فالمسلمون في حاجة إلى العودة إلى تاريخهم وإعادة النظر فيه والبحث عن الاختلافات التي تتساكن داخله وتتعايش بهدف تنمية معرفية قوية.

عود على بدء

لا تمثل إعادة نشر الرسوم حدثا استثنائيا، في ذاته، بقدر ما تكشف عن درجة حضور الصراع الثقافي والهوة الساحقة التي تفصل بين المجتمعات الغربية ومثيلتها الإسلامية، إذ لا يمكن أن يتصور المسلم فصلا بين المعتقد والذات. لذلك، فإن أي مسّ بالمقدس يعتبر مسّا به هو كذات وككيان، وأي مسّ بشخص ولو كان فردا، فإنه يعتبره مسّا بالهوية وبالفرد كانتماء ديني، وأي مسّ سياسي يعتبره مسّا بالمعتقد الديني، بحيث اختلطت لديه كل المكونات وصار من المستحيل الفصل بينها، وهذه الصورة هي التي لا يتوانى المسلمون في تصديرها Åلى الآخر بكل الوسائل المتاحة، وهو ما جعل الآخر/الغرب يكون صورة عن المسلم، وخاصة العربي المسلم، وهي صورة وإن اتسمت بالتعميم في بعض مناحيها، فهي تكشف عن الصورة المهيمنة.

لذا، ما دامت هذه الصورة النمطية هي المهيمنة والمروجة عبر وسائل الإعلام، فإنه يبقى من الضروري التوقف عندها وإعادة النظر فيهاº لأن المسؤول عنها ليس المتلقي (الغرب) وإنما المنتج لهذه الصورة، بل ينبغي الوقوف عند الخلفيات المرجعية المسؤولة عن إعادة إنتاجها. وهنا نعني المرجعيات الدينية ذات السمة الفقهية الظلامية التي تعيد إنتاج مجموعة من السلط الرمزية المتحكمة في مفاهيم “الحقيقة المطلقة”… إذ ليس أمام المجتمعات الإسلامية من خيار سوى العودة إلى الذات ومساءلتها، واجتراحها، وإسقاط الطابع الأسطوري عن كل الرموز التي اكتست طابع التقديس بفعل المسافة الزمنية التي تفصل الحاضر عنها، وتمييز الأحداث التاريخية عن تلك الدينية، ثم الرفع من مستوى القيمة المعرفية للدين، بحيث ينبغي ألا يترك الدين في إطار مغلق يتغذى من ثقافة قديمة واجتهادات انتهت بانتهاء ظروفها وسياقاتها الثقافية والتاريخية.

إن الاحتجاج على الرسوم أو النصوص الإبداعية، أو الأعمال الفنية لن يزيد إلا تعميق المآسي والكوارث المعرفية، وتوسيع الهوة بين المسلمين وبين باقي الجماعات الدينية والثقافية، إذ ينبغي إحلال قيم إنسانية بما تحمله من رصيد التحاور والتعايش، لأن الدين، كيفما كانت طبيعته، لا يهدف إلا إلى ترسيخ قيم الإنسانية وتعزيز مكانة الفرد، وتعزيز الاختلاف.

جُماع ذلك كله يجعل المجتمعات الإسلامية (العربية) أمام ضرورة تعزيز مكانة العقل داخل النسيج الفكري بالبحث في الطبقات العقلانية التي نشأت في مراحل من تاريخ الحضارة الإسلامية، مع التحلي بالشجاعة بهدف تحطيم العديد من “الأصنام”  التي نحتها العقل الإسلامي وصار يعبدها، ولم يستطع أن يتخلص من تبعيته لها. إنها باختصار ضرورة “نقد العقل الإسلامي”…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *