اسم الكاتب : محمد صادق الهاشمي
هنا عدد من النقاط المختصرة التي تشكل تهديدا وتحديا للداخل العراقي و لثقافة الشعب العراقي وهي :
1 ـ حزب البعث:
من الثقافات التي تشكل تحدياً جدياً واكثر شراسة هو ما يمكن أنْ نسميه بالتحدي الداخلي الذي يقوده حزب البعث، وإنّنا هنا لا نقصد بحزب البعث التشكيل المحدد بمعناه الأخص، بل بمعناه الأوسع وخلفياته وإرثه الثقافي، هذا الخط يعني خلفيات ثقافية سياسية تاريخية راسبة في ذهن بعض شرائح الأمّة، ويعني طبقات سياسية، ويعني ايديولوجيات، ويعني تجلّيات متشظية عن حزب البعث القومي الصدّامي الطائفي من حركات بلغت عشرات المسميات منها اختفى ومنها ما زال يعمل، ومنها يمارس الحكم والتواجد التنظيمي والثقافي والإعلامي، وآخرون يرسخون وجودهم من خلال منظمات مجتمع مدني، ومنهم (داعش) التي ما زالت تنخر في جسد العراق أمنياً، ومنها مؤسسات اعلامية تشكّل آفة كبرى لضخ ثقافة سياسية هدامة للفكر الوطني الإسلامي الصحيح ولمنع الولاء والتأييد للعملية السياسية.
كل هذه التجليات بمعناها الأوسع والتي اصطلحنا عليها (حزب البعث أو حزب العودة او حزب العبث) أو سمِّ ما شئت إنّما هي أجندات انطلقت من بدايات القرن العشرين بعد انحلال الامبراطورية العثمانية امتلكت ايديولوجية التهميش للمكوّنات العراقية كلها، وإنْ نال الشيعة النصيب الأوفر من بطشها، تلك الطبقة هي التي امتدت على امتداد القرن العشرين وما بعده، تظهر بصور وتجليات مختلفة تحت رعاية القوى الغربية البريطانية الأمريكية ومنذ أنْ اختطفت فكرة القومية وسرقتها من مؤسسها الأول زكي الأرسوزي بإسنادٍ صهيوني، لتزرع مكان أفكار الرجل أفكاراً ظاهرها قومي وواقعها غربي صهيوني يستهدف الشعب العراقي والإسلام، وإنَّ أدنى مراجعة لدورها الذي نهضت به لا يجد أنّها تجاوزته بقيد أنملة والمتمثّل بمواجهة الإسلام المحمدي الأصيل، هم أنفسهم هؤلاء عقدة تاريخ العراق السياسي ومحنته وألمه المزمن وسرطانه القاتل يبثّون سمومهم بين ظهراني الأمّة اليوم، ويوسعّون قواعدهم الجماهيرية ويرسّخون آلياتهم الإعلامية ومؤسساتهم الثقافية والسياسية ابتغاء مواجهة الثقافة السياسية التي تلازم العملية السياسية الجديدة، وهم يتلقون توجيهاتهم من الدوائر الغربية التي أتت بهم تأسيساً حزبياً وانقلاباتٍ عسكرية ومؤامراتٍ دموية، هذه المؤسسة البعثية اليوم لديها ماكنة اعلامية لنشر فكرها وثقافتها السياسية ضدَّ العملية السياسية لتتهم الإسلاميين بأنّهم عملاء لإيران تارة ولأمريكا تارة أخرى، وتصف الإسلاميين بنعوتٍ الخيانة والسرقة والتقصير والفشل السياسي والخدمي وتركز على كل خطأٍ صغر أم كبر شاردة وواردة؛ لتعبّأ الأمّة ضدّهم، أمّا تفاصيل ثقافتهم السياسية الخطرة فهي ترجمة لثقافة المحيط الاقليمي والجبهة الدولية المعادية للعراق وعلى راسها أمريكا والصهيونية.
2 ـ الموقف الشيعي السياسي:
فإنّ موقف القوى الشيعية يلاحظ عليه حاجته الى مزيد من التلاحم ليكونوا قوة متماسكة أكثر، ولا يتم ذلك إلا بتحويل التحالف الشيعي الى مؤسسة لها دوائرها وآلياتها وبرنامجها ونظامها الداخلي كما قيل، وتم السعي لهذا الأمر، إلّا أنّه جهد تلاشى ولا يمكن أنْ نسمّي الحال الذي هم عليه إنّه تحالف جدير بمواجهة التحديات الراهنة والآتية؛ لأنّ اختلاف الاجتهادات قد يحدث أزماتٍ وتبايناً في المواقف؛ لفقد الأسس والمعايير الحاكمة في التحالف، والتي يجب أنْ تتحول الى نقاط جامعة مانعة، وقد رأينا العثرات التي حصلت والشطط الكبير في الاتجاهات من الجميع دون استثناء، وعلية هكذا سياسة لم تولد ثقافة سياسية تصب في الصالح الوطني والاسلامي الساند للعملية السياسية والمثقف لجمهورها بما يعزز مكانتها ومن الموس فان الموقف الشيعي يتجه الى التمزق اكثر من اي وقت مضى ونتيجة هذا الفراغ الكبير اخذت تظهر التصدعات ونمو احزاب محددة تريد فرض وجودها الكلي على الموقف الشيعي واخرى تريد ان تتجه الىترسيخ المعارضة واخرى في الحكم وهي تزيد موقف الحكومة الارباك واخرى تحاول جاهدة ان تتجه بالعملية السياسية الى بر الامان .
كل تلكم الاسباب تجعل ثقافة المكوّن الشيعي ثقافة مشتته وغير مبنية على اسس ومشتركات وثوابت، بل ربما ثقفت القوى السياسية جمهورها عكس ذلك. وتلك هي إحدى الافات الداخلية الخطرة التي تؤدي الى قتل الثقافة السياسية المرجوة والتي تشكل سانداً للبناء السياسي الذي تحتاجه دولة العراق الجديدة.
3 ـ عدم وضوح دور المرجعية في الأمّة:
يمكن أنْ نصف الأمّة العراقية بأنّها أمّة مطيعة للمرجعية الى حد معين ويمكن أنْ تستجيب اليها ضمن فكرة (الطاعة التعاقدية) إلا أنّنا لا نقدح بأحدٍ إنْ قلنا هناك اتجاهان خطران يؤثران في ثقافة الأمّة وفي ولائها للمرجعية التي تشكل ـ حسب الفرض ـ صمام أمان في حياة الأمّة العراقية الأول: يخص المرجعية ذاتها وهو أنَّ المرجعية في العراق في غالب الاحيان لها طريقة في التعاطي مع الاحداث انطلاقا من رؤيتها وفهمها لاسلوب العلاج، وهي طريقة الى الان قد يجد بعض العراقيين انها لا تلبّي طموحهم السياسي؛ لأنّهم يرون ان المرجعية يفترض بها أنْ تكون قادرة، وقدرتها تأتي من دخولها في التفاصيل وهذا ما ترفضه المرجعية وفق مبانيها وسلوكها العملي ( اكد هذا حامد الخفاف بتاريخ 9-9-2019 في لقاء له مع شفقنا )، وقد قيل في ذلك الكثير والثاني: وهو يخص القوى السياسية فقد شعرت الأمة أنَّ هذه القوى لاتطيع المرجعية بالحد الذي يمكن أنْ يطلق عليه طاعة مبنية على فهم عقائدي، ولهذا الامر شواهد عدة، ونعتقد أنَّ الأمةّ أدركت في غلق مرجعية النجف بابها بوجه القوى السياسية بعد عام 2010 فضلاً عن العتب المشدد الذي تعكسه خطابات أئمة المساجد الممثلين للمرجعية ثمّة تفسير أبرزه يأس المرجعية من القوى السياسية، وأنّ المرجعية لا تريد أنْ تقحم الحوزة والمرجعية بأنْ تكون جزءاً من سلوك السياسيين؛ كي لا يعم الفشل للطرفين (السياسيين الإسلاميين الشيعة والمرجعية) وعلى كلا التقديرين سواء أكان الأمر يتعلق بالمرجعية ومنهجها وطريقتها في علاج الأمور وعدم دخولها في التفاصيل كما يقولون، أم بطاعة القوى السياسية لها، فإنّ أمراً كهذا له آثار على ثقافة الأمّة العراقيه السياسية لأنّه مدعاة لتوليد ثقافة الإحباط وثقافات عديدة أخرى أشد خطراً وتجعل العقل الشيعي السياسي في ارتباك غير قادر أنْ يحدد توجهاته الحقيقية، وأنْ يضع له محددات وتكون له ركائز ثابتة؛ لأنّه والحال هذه يفقد أهم مصدر يغذّيه بالفكر السياسي وتلك آفة تاريخية في حياة العراقيين السياسية والإجتماعية، فإنّه وللأسف في كثير من الأحداث التي جرت لم تتعرف الأمّة على رأي مرجعيتها كي تحدد موقفها السياسي
إنَّ المرجعية والحوزات العلمية ـ حسب الفرض ـ هي أحد أبرز مصادر الوعي لدى الأمّة إنْ تم تفعيل ذلك ووضعت له لخلق التواصل الإجتماعي القادر على توجيه الأمّة بكل وضوح وانسيابية، وخلاف ذلك تنعدم الثقافة السياسية الإسلامية لدى الأمّة وتأتي الحركات والقوى الغربية والشرقية والقومية والانحرافية لملء الفراغ، فضلاً عن عدم طاعة القوى السياسية لمرجعيتها إذا نهضت بالأمر أو بالقدر الذي تؤدّيه، وهو قدر مهم في نظرنا في القضايا الكلية المهمّة، فإنّه يشيع ثقافة سياسية متمردة ومتحللة وغير منقادة لمركزية الحوزة التي هي إحدى ركائز الثقافة السياسية للمجتمع الشيعي.
4 ـ الموقف السياسي السني:
العقل السني يعاني من هيمنة ثقافتين عليه في آنْ واحد، تسيران باتجاهين متعاكسين، ثقافة وطنية دستورية تنسجم مع متطلبات المرحلة الحالية، وما أقرّه الدستور العراقي، ومن لوازم هذه الثقافة الإيمان بالواقع السياسي وللصناديق الانتخابية الحاكمية فيه، هذه الثقافة يعتقد مؤيدوها أنّها الأحفظ لوحدة العراق ولحمته الاجتماعية واستقراره وأمنه وبنائه واعماره، وهناك ثقافة تعاكسها بالاتجاه والأثر هي: ثقافة عدم الاندماج في الواقع الكلي وعدم الاقرار بشرعية الدولة الحالية وعدم الانسجام معها في العديد من النقاط، وسواء أكانت هذه الثقافة السياسية نتاجاً داخلياً أو وافداً إقليمياً، فإنَّ هذا التباين الثقافي لا يؤثّر كتحدي على نخر الثقافة الوطنية الكلية ويفكك أواصر الترابط الوطني الذي تحتاجه أي دولة وأي عملية سياسية وحسب، بل يعمل على خلق الاشكالات المعمّقة حتى داخل المكوّن وداخل قواه السياسية، وهذا ما تشهده المعطيات وتؤكّده الوقائع، هذا فضلاً عن غياب المرجعية السياسية والدينية للمكوّن، وهذا التعارض الثقافى في العقل السني أحد أبرز موانع استقرار ثقافة سياسية موحدة لديه يحدد توجهاته وعلاقته بالعملية السياسية وبالدولة العراقية ككل ويرتب شؤونه المحلية في المحافظات في ضوء هذا الفهم، ولهذا الاشكال ترجع باقي الاشكالات من التباين في الموقف ومن التفكك في التحالفات، وتنعكس سلباً بجعل خارطة التحالفات هلامية أميبية لا تستقر على شكل محدد، ومن الطبيعي أنْ تنعكس هذه الثقافة للمكوّن على الثقافة السياسية الكلية ويزيدها شيء من التعقيد ويسهم في وضع عراقيل أكثر على المشهد السياسي.
5 ـ الموقف السياسي الكردي:
التوجه السياسي لدى القوى الأساسية الكردية في اقامة كيان مستقل أو فدرالي أو غير ذلك من الثوابت الكردية يمكن أنْ يكون واحداً بتفاوت في الأداء والآليات والأسلوب والتوقيت وغير ذلك هذا التوجه يفرض نوعاً من الثقافة السياسية القومية التي تعم الإقليم، وهي ثقافة في الغالب تستمد وعيها الراهن من معاناة الكرد تاريخياً، وتغيّب حقوقهم وتهمش دورهم مما جعل الكرد بعد عام 2003 يمارسون سياسيات في الغالب لا تخلو من اشكالات تؤثّر في الثقافة السياسية العامّة في العراق وهي:
منها: إنّهم لم يحسموا أمرهم بنحو رسمي، هل هم مع الفدرالية أم مع الكونفدرالية، أم مع تقرير المصير (الانفصال) فإنَّ جملة من السياسات تمارس من قبل القوى الكردية خلقت ارتباكاً هائلاً في العقل العراقي في التعاطي مع المكوّن الكردي ونوع العلاقة.
ومنها: إنَّ طبيعة العلاقات الخارجية للمكوّن الكردي مثيرة جداً للمكوّنات العراقية بأجمعها؛ فالكرد يريدون أنْ يكونوا أقرب الى الغرب منهم الى عالمهم المحيط بهم عربياً واسلامياً لكونهم في هذه المرحلة يحتاجون الى حواضن تكافي عزلتهم من دول الجوار والمحيط الاقليمي والعربي، فكونهم كردًا يتباينون مع القوميات العربية والفارسية والتركية المحيطة بهم التي تشكل موانع جغرافية وخطراً جيوسياسي هائل على مستقبل طموحاتهم، ولكونهم يسعون حثيثاً نحو واقع فدرالي أو غيره يتباينون مع دول الجوار، وكونهم يريدون مساحات وحقوقاً قد لا يقرّها غالباً الدستور العراقي، فهم يتباينون مع الحكومة العراقية المركزية، من هنا فهم يعوضون غربتهم السياسية وفقد الساند الذي يقف الى جانبهم في مرحلة التكوين في هذه المرحلة بإقامة مزيد من العلاقات مع الغرب بنحو عام والولايات المتحدة الأمريكية، وقيل مع اسرائيل، وعليه طبيعة هذه العلاقات تجعل الوعي العراقي عموماً وثقافة المجتمع العراقي غير مستقرة باتجاه الأكراد ولا تخلو من اشكالات ونوع من الكراهيات إنْ صح التعبير لبعض القوى السياسية الكردية وغيرها.
ومنها: هذا التواجد الواسع للمنظمات الاجنبية والشركات العالمية وموسسات انجيلية ومراكز الانحراف الأخلاقي وانتشار الخمور والملاهي هو الآخر يكشف عن نوع من الثقافة التي تسود هذا الإقليم حكومة وقوى سياسية تنذر بأنْ تكون ثقافة خطرة وتشكّل تحدياً لثقافة الأمّة الإسلامية في العراق، وهذا ما تؤكده كثرة محلات الملاهي والخمور والحمامات التي تتواجد بهن النساء، وقد خرجت تظاهرات تندد بهذا الأمر وحصلت أزمة حادة في الاقليم الكردستاني وبين الأحزاب الإسلامية بهذا الصدد, وحصلت أزمات أخرى أثر تكرار حرق المصحف من الشباب الذين تخرّجوا من المدارس الانجيلية.
المهم أنّ المكوّن الكردي بتوجهاته المذكورة يكشف عن وجود ثقافات سياسية داخلية ووافدة تجعل هذه الثقافات الفاصلة بين الثقافة للمكوّن الكردي وثقافة الشعب العامّة كبيرة، وتتسع الهوة أكثر بولوج التفاصيل في سياسة المكوّن الكردي أو بعض قواه كالتحالفات مع البعض من القوى التي لها موقف معلوم ومأزوم وتقليدي العداء من العملية السياسية وتفاصيل أخرى كمطالبتهم بكركوك وتطبيق المادة 140 بنحو لا يخلو حسب الظاهر من القسر واستغلال المشاكل الناجمة بين القوى السياسية في الحكومة الاتحادية ومشكلات النفظ والأراضي المتنازع عليها كل هذه السياسات التفصيلية تؤشر إلى وجود ثقافات لهذا المكوّن أو لقواه السياسية قد تتقاطع مع الثقافة العامّة وتشكل آفة تحول دون نشوء ثقافة سياسية متكاملة في العراق.
6 ـ مستوى الوعي الجماهيري:
لا نريد الغوص هنا في تاريخ الشعب العراقي المظلوم الذي عانى الأمرين من الطغاة وسحقته الإرادات مع نبله وبراءته وطيبته وسخائه، إلا أنَّ المحن المتعاقبة والانعطافات الخطيرة في حياته السياسية بسبب بساطتهم وتقلّب مزاجهم ووقوعهم تحت التأثيرات الخارجية والدولية وطبيعة البناء النفسي السايكولوجي للفرد العراقي تجعلهم غيرمتجاوبين مع الثقافة السياسية المطلوبة، وعدم التجاوب هذا يشكل عائقا خطراً يقف بوجه بناء وعي عام يحصن الدولة العراقية بوجود أمّةٍ متسلحة بوعي يجعلهم يدافعون عنها لآخر نفس ويقاومون كل مخططات الاستكبار والمؤامرات الوافدة إليه من المحيط الدولي والاقليمي والداخلي إن لم يكونوا متجاوبين معه وواقعين تحت تأثيره غالبا.
ما قدمناه هو أبرز تحديات الثقافة السياسية العامة في العراق التي يشكّل وجودها عائقاً يمنع تكامل ثقافة سياسية موحدة للمجتمع العراقي تجعله متفاعلاً مع عمليته السياسية الراهنة ومع متطلبات بناء دولة العراق الجديدة.